النص الحديث وإشكاليات القصيدة الجديدة
الخميس, 04-مايو-2006المؤتمرنت - هشام سعيد شمسان (1-2) - الحديث عن إشكالية الشعر الحديث والقصيدة الجديدة – لاغرو – يرتبط وثيقاً بالذائقة الفنية للمتلقي . وإذا كان ثمة أزمة تعوق مسيرة الشعر الحديث والجديد من التقدم ، وتتقوقع به ضمن حدود لاتتعدى الشاعر – غالباً – فإن للذائقة الجمالية للقارئ دورها في هذا السبيل ؛ إذ أن وجود إشكالية (ما) : سواء كان منبعها الشاعر ، أو الشعر – ذاته – معناه أن هذا الشعر لا يستطيع أن يخالط الذائقة فيؤثر بها إيجاباً لتنفعل ، وتتفاعل . ومتى ماوقف الشعر حائلاً دون التأثير في قارئه ، كان ذلك إيذاناً بوجود خلل ( ما) يعود : إما إلى القارئ – نفسه – أو إلى الشاعر في شعره ، ذلك أن " العمل الفني لايستكمل وجوده إلا إذا تلقاه متذوق "( ).ودراستنا – الباحثة – هذه تفترض وجود خلل كامن في قارئ الشعر الحديث – أولا – نتج عنه إعراض ، وإدبار ، ثم في الشاعر – نفسه – ثانيا - الذي ساعد على اتساع الهوة بينه ، وبين القارئ ، وأضحى – هذا الأول – واقعاً بين إشكاليتين حقيقيتين :
أولاهما : رفض العمود الشعري بسبب " سيمتريته " الشديدة ، وتقاليده التي لم تعد ترضي الذائقة العصرية .
وثانيهما : النفور من القصيدة الحديثة ، والجديدة ، لأنها " غامضة ( برأيه ) وهذا الغموض يقف حائلا بين عملية التذوق لها ، والاستمتاع بفضائها . ولهذا النفور ظلت القصيدة الحديثة ، والجديدة محصورة ضمن بيئة ثقافية محدودة هي : بيئة الشعراء أنفسهم ، أو النقاد ، وصفوة من قراء ينتمون إلى الثقافة العليا . وتضاؤل قراء الشعر ليست إشكالية محصورة في البلدان العربية ، وحسب ، بل هي إشكالية تكاد تكون عالمية ، ففي أمريكا – مثلاً – كتب الشاعر " دانا جبويا " مقالا نشر في مجلة " ذي إتلانتيك عام 1991م " يقول فيه :
" ينتمى الشعر الإمريكي الآن إلى الثقافة الهامشية ، ولم يعد جزءًا من الحياة الفنية ، والثقافة الأساسية فقد أضحى هو الوظيفة المتخصصة لمجموعة صغيرة ( نسبياً ) ومعزولة .. كالقساوسة في مدينة صغيرة ( )" ويعترف " دونا لدهول "بأن قراء الشعر يتناقصون سنويا أو يقل عدد الذين يشترون كتب الشعر، أو يحضرون الأمسيات أو القراءات الشعرية( ) " . وإذا ما حاولنا أن نتتبع إشكاليات التذوق في الشعر الحديث ، فلابد – أولا – أن نحدد بأننا نعني بمقولة " الشعر المعاصر ، أو الحديث " : ذلك الشعر الممتد منذ نهاية الأربعينات ، وحتى اليوم، والذي جاء خلفاً للرومانسية – ذات النظام العمودي – البيتي – فكان مأتاه " نتيجة طبيعية ( لارد فعل ) للنثرية الفضفاضة التي أفسدت الشعر الرومانسي في آخر عهده( ) " وبه استعيدت بعض قيم الشعر الحقيقية ، وهيأته لارتياد أماكن مغلقة انتظرها عشاق الشعر طويلا ، وفتح فضاءات جديدة من الوجود اللغوي الكاسر لنمطية اللغة التي سادت الرومانسية ، والتقليدية .. إلا أنه، وبسبب من " الايدلوجيا " التي سادت هذا الشعر في فترات (ما) وبتحوله إلى أصداء للواقعية الإشتراكية ، ثم للواقعية الفردية ، كاد أن يسقط في فخ التقريرية والمباشرة ، والتحول به إلى العامية المثقفة ، والنحو إلى الرومانسية المنغلقة " ولم يسترح الستينيون للمباشرة ، والإيقاعية الظاهرة ، والرومانسية ، والوضوح ، ليميلوا إلى الغموض ، والتغريب ، واللا مباشرة والتركيز على الصور الشعرية ، وماتوحيه من إحالات مضمونية متعددة "( ) . وبتأسيس مجلة " شعر " نهاية الخمسينات ، والدعوة إلى ماسمي ب( قصيدة النثر ) كان الشعر يدخل منعطفا راهنا ، وجديداً بالدعوة إلى تحطيم ، أو تهشيم البنى القديمة للشعر، أو تلك التي يحاول شعر " التفعيلة " أن يتمسك بها كالأدلجة الشعرية على صعيد الموضوع ، والوزن ، والقافية على صعيد الإطار الخارجي . ودخل مفهوم القصيدة " المركبة " كما نعرفها الآن ذات التعددية الصوتية القائمة على الوجود اللغوي المحض . ويجدر بنا – هنا- أن نقرر بأن " النص المرسل " أو ( قصيدة النثر ) استمدت كثيراً من أبنيتها الداخلية ، والخارجية من شعر " التفعيلة " ابتداء من التوزيع البصري للأشطر ، والاستجلاء المجازي ، ومروراً بالبناء الفكري الداخلي : كاستخدام الرمز ، والأسطورة وطقس الحلم ، والإحالات التاريخية ، والدينية ، والسياسية ، والصوفية ( الفلسفية ) ، ونزعة الانهزام النفسي وعلى ماسبق فإن النقاد عندما يتحدثون عن القصيدة الحديثة فانما يعنون بها النص العروضي ، وعليه يؤسسون نظرتهم إلى النصوص الجديدة ، وبالرغم من الهجوم الذي يوجه إلى النص الحديث الجديد.إلا أن شعراء التفعيلة الذين جايلوا دعوة مجلة " شعر " ومابعدها قد استفادوا – كذلك – مما يدعو إليه النص الجديد من مبادئ نحو :
- " إستعمال الصور الحية المحسوسة أو الذهنية " .
- إبدال التعابير والألفاظ القديمة الذابلة بتعابير وألفاظ مستمدة من تجربة الشاعر المعاشة .
- إخضاع البناء الشعري لوحدة التجربة والمناخ العاطفي العام بدلا من إخضاعه للتنظيم الفكري والتسلسل المنطقي .
- جعل الإنسان : بفرحه ، وعذابه ، خطيئته ، توبته ، بحريته ، وعبوديته ، وخضوعه،بحياته وموته : الموضوع الاول .
- معرفة التراث العربي : الروحي والفكري ، لتقييمه موضوعياً بلا خوف ، أو تردد، أو مداراة .
- تعميق المعرفة بالتراث الأوروبي ، الروحي ، والعقلي والإبداعي ، والاستفادة من تجارب الشعراء الغربيين ( ) " وباستفادة شاعر العروض من بعض مبادئ " النص المرسل " دخلت القصيدة الحديثة فضاء جديداً ، متحرراً من جميع الإيدلوجيات ، وصرنا لانميز – أحياناً – بين نص " عروضي " ، وآخر " مرسل " بسبب من الاتحاد في الأبعاد اللغوية ، والرؤى الشعرية ، فصارت القصيدة الحديثة – بوجه عام – كما يقول الدكتور عبد المهنا : هي " رؤيا ووعي حاد باللحظة الراهنة بما ينطوي على سلوك فكري يصدر عن إيمان " الأنا " بحتمية التغيير من خلال جدلية الصراع بين الأنا وتعاليها على الواقع ، فترى الواقع وتناقضاته أكثر مما يراه الآخرون ، فتتحول الممارسة الشعرية إلى نبوءة ترهص بنذر التغيير . يتحول الشاعر إلى نبي عصره ، مستمداً وحيه من أعماق الحدس ، فتتشكل رؤاه من عناصر معقدة يلعب فيها الرمز ، والأسطورة – الأجواء الخرافية – دوراً فاعلاً في جميع المتناقضات ( )" . وبهذا التعريف الدقيق - برأينا – للنص الحديث يكون القارئ مطالبا بدخول مدينة محاصرة باللغة ، عليه ان يفك هذا الحصار دائريا ، ليبدأ في فتح أبوابها المغلقة باباً باباً ، وهو مايعني التكيف وفق مقاييس تذوقية جديدة لاصلة لها بالتقليدية الشعرية البتة ،البتة .
(3)
وإذا كنا قد قررنا بأن إشكالية الشعر الحديث تنحصر – جلها – في عدم استطاعة القارئ التكيف داخله ، وبالتالي حدوث عملية تجاوز لا مباشرة له ، انكسرت – على ضوئها – الذائقة الفنية ، فإن هذا الاستنتاج التقريري يعيدنا ، بل ويحيلنا إلى مسألة هامة تتحايث مع مفهوم الانكسار الذائقي والجمالي للمتلقي ، يلخصها قارئ الشعر الحديث – عادة – بـ ( الغموض ) ، وعلى ذلك يتكئ بوجه رئيس – وهي حجة واهية – لدى القارئ الذي لايحاول النزول إلى " البحر"، لتعلم السباحة فيه ، من خلال إعماله ذهنَه تارة ، والقراءة الواعية ، والمتعددة تارة أخرى ، وبالتالي تتدرب ذائقته على السباحة، فتتجاوز – بالتالي – خوف الغرق ، وتستجيب – جماليا – لما تقرأُ . وكيما نستجلي – نحن – هذه الحجة ، ونبلورها منهجياً ، وجب علينا أن نتتبع أهم المقاييس التي ينطلق منها الشعر الحديث إلى العالم الكوني الخاص به مبرّرين غالب دعاوى الغموض ، أو العماء التي ينطلق من مفهومها المتلقي الجديد ، ولنثبت من خلالها أن الأزمة ( الإشكالية ) إنما هي أزمة مقاييس تذوقية غائبة . وسوف نتوقف عند اهمها لبيان خطئيـّـة القارئ من صوابيته ، متوجهين بأدلتنا إلى قارئ لازال يتعامل مع القصيدة الحديثة من خلال مقاييس تذوقية تقليدية حيث القافية الرتيبة ، وإيقاع البحر الرتيب ، واللغة التقريرية التي لاتتعدى التشبيه – أحيانا – والمعجم الاستهلاكي ، أو الجمل الاستنساخية المكرورة ، والمعاني التي لاتتجاوز التوليد ، والمواضيع المحاكية للأصوات الطبيعية ، والمشاعر الإنسانية ، والرؤية الأفقية التي تبرز التفاصيل المادية، والوضوح الفني ، والصوت المفرد ، والغنائية الباردة . وهو نفس القارئ الذي سيفجئنا بقوله : ولماذا استطاع شاعر نحو " نزار – مثلاً – أو احمد مطر ، أو سعاد الصباح " لماذا استطاع نحو هؤلاء أن يخلقوا قارئاً متذوقاً 100% ؟ بينما شعراء نحو " السياب " أو " نازك الملائكة " أو … أو " أدونيس " - مثلا -لم يستطيعوا خلق نفس القارئ المئوي ، بالرغم من أن جميع هؤلاء انبثقوا من مدرسة " الشعر الحر " ونقول بأن شعراء من نحو " نزار " وإن كان من مدرسة الشعر الحديث إلا أنه خاطب قارئاً من العامة ، كأنصاف المثقفين ، وممن لاصلة لهم بالتراث الشعري العربي وهذه أدلتنا :
و أولاها : اعتماده على لغة هي الأقرب إلى العامية ، ومحاربته للبلاغة العربية ، بالنزوع إلى لغة ثالثة ، وثانيها : خداع القارئ بالإيقاع المموسق المموّه ، لبهرجة أشعاره ، وثالثها : أن شعره مثّل مرحلة (برناسية ) محددة بمواضيعها ، ولغتها لايعتدُّ بها الآن كثيراً ، ورابعها : أن شاعراً كالسياب ، أو نازك الملائكة ، أو صلاح عبد الصبور ، مازال شعره حتى الآن محتفظاً بقيمه الجمالية ، والفنية ، واللغوية ، ومازال يقدم وظيفة إبداعية ، وجوهرية شعرية حتى الآن ، فتعدوا بذلك مصطلح الشعر المرحلي الذي مثلته القصيدة النزارية ، أو" المطرية " او " الصبّاحية " .
•
• الأبنية الفنية ، والموضوعية ( الفكرية ) للقصيدة الحديثة :
الشعر : سواء التقليدي منه أو المعاصر،والحديث ، إنما ينطلق من ثلاثة أبنية : البناء الإيقاعي ، والبناء اللغوي الفني ، والبناء الفكري الرؤيوي ، إلا أن مجال التأثيث الناسج لهذه الأبنية تباين كثيراً على مستوى النمطين ، بحيث بدا متداخلاً حيناً ، ومتعارضاً تمام التعارض حيناً آخر ، لاسيما إذ ما تُؤمل في " النص المرسل " .
* البناء الإيقاعي :
اتخذ الشعر الحديث (التفعيلي)من وحدة " الوزن " – لا وحدة البحر – إطاراً له ، بينما لجأ " النص المرسل "-قصيدة النثر- إلى الداخل باحثاً عن إيقاع العبارة أو الكلمة ، بديلا عن " التفعيلة " . وإذا كان – هذا الأخير – قد وجد معارضة ، لاتزال صداها الرافضة حتى الآن ، فقد سبق إلى هذا الرفض ( الأب ) التفعيلي قبله ، إذْ لانستغرب : أن كثيراً ممن كانوا يدعون إلى التجديد ، والحساسية الجديدة كان منهم من يرفض شعر " التفعيلة " نحو صاحب " الحساسية الجديدة " ذاته : " عباس العقاد " ، بالرغم من أن هذه القصيدة كانت هي الإطار الملائم ، والمفضل لدى معظم الشعراء ، ومازالت ، لما لها من فوائد تخدم الذائقة ، ومنها : الحرية التعبيرية التي يتاح من خلالها تدفق الأفكار الشعرية دونما عائق : من قافية ، أو وزن محدد التفاعيل . ثم الأريحية البصرية ، والنفسية بسبب من كسر لروتين التوزيع البصري للقصيدة البيتية ، مما حدّ من سيمترية العمود الكلاسيكي . كما أن التفعيلة بموسيقاها " تساعد كثيراً على تمكين ألفاظ الشعر من تعدي عالم الوعي، والوصول إلى العالم الذي يتجاوز حدود الوعي التي تقف دونها الألفاظ المنثورة "( ). بينما التخلي عن التفعيلة لدى شعراء " قصيدة النثر( ) " – وإن كانت بعض الميزات السابقة ، كالحرية التعبيرية المنطلقة ، وكسر الرتابة البصرية تشملهم ، إلا أن هذا الفقدان الركني الهام انعكس على الوجود اللغوي ، والانفعال التعبيري ( معاً ) بتكثيف وجودهما ، وتعدد مصادرهما الصوتية ؛ وذلك لتغطية جانب نقص نتج عن الإزاحية الوزنية ، فكان عبئاً جديداً ، تحمله القارئ الذي لم يستوعب – بعد – القصيدة العروضية . وقليلاً قليلاً حتى كان النص التفعيلي يزاحم النص الجديد ،ويأخذ عنه مقولاته ذات الصبغة اللغوية - خصوصاً – مما حد من تدفق الإيقاعات الموسيقية في ظل التكثيف الجديد للقصيدة الحديثة، وجعل من معظم النصوص العروضية الجديدة باهتة الإيقاع الداخلي ، فلا تكاد تميز – أحيانا – بين نص موزون ، وآخر مرسل . وهذا دليل تطبيقي على ذلك ، أخذ عشوائيا :
"إن دمع الشبابيك يهوي على يأسي
ليس هذا الخراب خرابي
لاجنتي جنتي
وداعاً إلى الصمت أمضي إليه .( )
……………………
" فكيف أنصهر بسهولة كحلم
وهل يساوي كل جرحي
تلك السذاجات التي تجتمع في لحظة ملوثة " ( )
…………………
إن قارئا – للوهلة الأولى ، سوف يعتقد بأن كلا المقطعين هما من قصيدة واحدة . بل و أن المقطع الثاني هو استرسال متتابع للمقطع الأول ، بسبب من اتحاد المد الشعوري بينهما ، وصوت الأنا المتكلمة ، وقبل ذلك المسرب اللغوي ، ذو التركيب الواحد فنياً ، وإيقاعياً ( داخليا ) .. ولكن ماذا سنقول إذا ما أفصح بالقول : إن المقطع الأول ينتمي إلى التفعيلة العروضية ( فاعلن ، فعلن ) ، بينما الآخر لاينتمي - البتة – إلى أي وحدة وزنية ، وهو مرسل من إيقاع الوزن " والمقطعان لشاعرين مختلفين ، أحدهما يقطن بلاد " البلح " والآخر بلاد " العنب " وقد غاص إيقاع الأول في إيقاع المقطع الثاني لعدم التزام شعر العروض بحدوده الداخلية ، فامسى هذا الأخير – مرادفاً للنص المرسل في غموضه المدعى ، من قبل المستقبل .
يتبع الجزء الثاني