المؤتمر نت - صورة من الجزيرة نت

الإثنين, 11-أكتوبر-2004
بقلم/ معتز الخطيب -
جدل بدء الصيام .. وجداله
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج). صدق الله العظيم.
يتم تثبيت بدء الشهر القمري برؤية الهلال بعد غروب الشمس في يوم 29 من الشهر القمري السابق، وإذا تعذرت رؤية الهلال لغيمٍ أو نحوه يتوجب إكمال عدة الشهر القمري السابق 30 يوما، ثم يبدأ بعد ذلك الشهر القمري الجديد.
وهاتان هما الوسيلتان السائدتان –فقها– لتحديد فريضتي الصوم والحج عند المسلمين، لذلك دأب المسلمون في أقطارهم المختلفة على التطلع إلى الأفق لرؤية الهلال بعد غروب الشمس.
وبينما يوفق البعض في رؤية الهلال يشتبه على الآخرين، ومنهم من لا يتمكن من رؤيته ألبتة وبذلك يحصل الاختلاف، خاصة في تحديد شهر رمضان الذي مع عودته يتكرر الجدل حول اختلاف الأقطار في الصوم والفطر.
هذا الاختلاف يتجاذبه في الحقيقة طرفان هما الفلكي والفقيه، وأحيانا يصبحان ثلاثة حين ينضم إليهما السياسي، ولنبدأ بتجلية الجدل الفقهي وأسسه ثم نعطف بالرؤية الفلكية، لنصل إلى تحديد المساحة التي يلعب فيها السياسي، ثم لنتأمل محاور هذا الجدل كله وما يعكسه من قضايا.

الجدل الفقهي وأسسه
"
قوله صلى الله عليه وسلم "فإن غم عليكم فاقدروا له" تضمن القول بتقدير الهلال بالحساب الفلكي
" لم يكن ثَم جدل حول الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عمر الذي رواه أبو داود وغيره قال (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه). وتلك البساطة تعود إلى عوامل عدة تناسب طبيعة الحياة آنذاك والحالة التي كانت الأمة عليها.
ثم وقع الخوض في هذه المسألة أواخر الْقرن الهجري الأَول، فقد أشار إلَيها أحد التابعين وبحثت بعد ذَلك من لدن فقهائنا السابقين بقدر مطول إلى أن اتسع الجدل فيها في عصرنا مع تطور الحساب الفلكي، فقد عقد في النصف الأخير من القرن العشرين ما يزيد عن 20 مؤتمرا فلكيا وفقهيا من أجل حسمها.
إن القول بعدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الأشهر القمرية، يعود لأمرين:
الأول: أن الحديث النبوي قد ربط ميلاد الأهلة وحلول الأشهر القمرية بالرؤية البصرية، وذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "صوموا لرؤيته (أي الهلال) وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له". (رواه البخاري ومسلم).
ومن هنا اعتبر كثير من الفقهاء أن الرؤية البصرية تعبدية، وقالوا إن هذا من شؤون العبادات التي تبنى فيها الأحكام على النص تعبدا دون نظر إلى العلل ولا إعمال للأقيسة، والثاني الشك في صحة الحساب الفلكي ودقته واعتباره قائما على الظن والتخمين.
ورغم أن كثيرا من الفقهاء قديما وحديثًا يعتبرون الرؤية تعبدية ويبنون عليها أحكامهم يسفر التأمل النقدي للأدلة والواقع عن الاعتبارات التالية:
أ- أن قوله -صلى الله عليه وسلم- "فإن غم عليكم فاقدروا له" تضمن القول بتقدير الهلال بالحساب الفلكي ونسب إلَى مطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير من التابعين وأبي العباسِ بن سريج من الشافعية وابن قتيبة من المحدثين، وإن جادل المانعون بأن التقدير له معنيان:
1- حمل التقدير على إتمامِ الشهر ثلاثين عند وجود غيم، وهو ما حملوا عليه الرواية الأخرى "فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين".
2- بمعنى تضيِيقِ عدد أيام الشهر. والتضييق لَه أن يجعل شعبان 29 يوما، وممن قال بِهذا الرأيِ أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يومِ الشك إن كانت السماء مغيمة.
ب- بتأمل واقع الحال وتنزيل النص عليه يتبين أن الرؤية البصرية كانت الوسيلة الوحيدة لإثبات الأهلة في القرون الهجرية الأولى، وأن الاتِباع مفروض في النصوص التي تلقى إلينا مطلقة غير معللة، فإذا ورد النص نفسه معللا فإن الأمر حينئذ يختلف، ويكون للعلة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجودا وعدما في التطبيق، ولو كان الموضوع من صميم العبادات.
والقائلون بكون النص معللا بعلة منصوصة يستدلون بحديث "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة (أي: طواه) والشهر هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين". أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي في كتاب الصوم، وهذا له دلالته المهمة.
وممن ذهب إلى هذا وناقشه العلامة أحمد شاكر والفقيه المعروف مصطفى الزرقا رحمهما الله، قالوا إن تعليق الحكم بالصوم بالرؤية هو لرفع الحرج كما جاء عن ابن حجر والعيني وإن خالفا في الحكم، وهذا يلزم منه أن الأمة لو عرفت الحساب فعليها الأخذ به.

الجدل الفلكي وحدوده
"
يلعب التقريب دورا كبيرا في الحسابات الفلكية لبداية كل شهر قمري ما قد يجعله عاملا آخر من عوامل الخلل في التنبؤ بالتقويم
" لعله من المفارقة أن يتم التجاذب بين القائلين بالحساب والقائلين بالرؤية بأن كل واحد منهما يتبع اليقين الذي لا يحمل الشك، فالخلاف لا يقف في أصل الحساب وطبيعته ومشروعية اعتماده فقط، بل ثمة خلاف حول تحديد بداية الشهر هل هو بالإهلال أم بالاقتران؟
فلو اعتبرنا بداية الشهر القمري هي الوصول إلى الاقتران بين الأرض والقمر والشمس، أي وقوعها على خط واحد مع وجود القمر بين الأرض والشمس، يصبح القمر في هذه الحالة غير مرئي تماما، وهو ما يطلق عليه المحاق، وهذا ما يتعارض مع ظاهر نص اعتبار الرؤية.
وبما أن القمر ليس نجما بل جرم مظلم، فإنه لا تمكن رؤيته من على سطح الأرض إلا عن طريق قيامه بعكس الأشعة الواقعة عليه من الشمس التي تصل تقريبا إلى الصفر في وضع المحاق، ولكي تمكن رؤية القمر من على سطح الأرض يجب أن يخرج القمر من وضع الاقتران بالقدر الذي يمكنه من عكس مقدار كاف من أشعة الشمس لتلتقطه العين الآدمية، ولكي يصل القمر إلى هذا الحد يكون قد أصبح عمره من 17 إلى 20 ساعة.
غير أن هناك شرطا أساسيا آخر حتى تمكن رؤية الهلال، وهو أن يحدث وضع المحاق قبل غروب الشمس بوقت كاف يسمح للقمر بأن يصل للوضع الذي يصبح فيه مرئيا حتى يمكن رؤيته بعد غروب الشمس مباشرة، وفي هذه الحالة يبقى القمر مرئيا لمدة 48 دقيقة فقط بعد الغروب.
أما إذا حدث وضع المحاق عند الغروب أو بعده فلا يمكن في هذه الحالة رؤية الهلال، وهكذا نجد أن حساب رؤية الهلال لا يزال مبنيا على التقدير.
كما أنه لا يوجد شهر قمري 29 يوما بالضبط أو 30 يوما بالضبط، لذلك يلعب التقريب دورا كبيرا في الحسابات الفلكية لبداية كل شهر قمري ما قد يجعله عاملا آخر من عوامل الخلل في التنبؤ بالتقويم.
يذهب عدد من العلماء والفقهاء في القرن العشرين إلى أن الاقتران هو بداية للشهر العربي، وقد أقرت لجنة من مجمع البحوث في الأزهر -بعد دراسة مستفيضة- طريقة الحساب الفلكي الاقتراني، واعتبرتها مقبولة.
والتحديد بالحساب الاقتراني يتم بكثير من الدقة، فهو يرتبط بتحولات هندسية بحتة، وهي الأوضاع النسبية للكواكب الثلاثة (الأرض والشمس والقمر)، ومن المفيد هنا أن كسوف الشمس سنة 1999م كان معروفا بدقة منذ نحو 50 عاما.
هكذا نجد أن اعتراضات الفقهاء المتقدمين على الفلك كانت تدور من جهتين، من جهة أنه مبني على الحدس والتخمين كما يفاد من كلام ابن تيمية والنووي وابن بطال وابن حجر وغيرهم، ومن جهة أن الفلك كان يختلط بالتنجيم والعرافة وهذا باب تدخل فيه الاعتبارات العقدية.
ومن هنا لم يضعوه في الاعتبار حتى نقل ابن حجر عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو "مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنه حدس وتخمين". وقال ابن تيمية "فالقول بالأحكام النجومية باطل عقلا ومحرم شرعا".
بينما يعترض المعاصرون على الحساب الفلكي بأن هناك احتمال خطأ في حساب لحظة ميلاد القمر (خروجه من المحاق) واحتمالا آخر في تقدير لحظة تمام غروب قرص الشمس، والتداخل أو التراكب لهذين المجالين بالنسبة لسكان خط طول ما، فضلا عن الاعتبارات الفقهية السابقة.

الظنون التي تحف بالرؤية
ومع التسليم بعدم يقين الحساب الفلكي والخلاف حوله فإن الخلاف الفقهي حول الرؤية البصرية لو جمع يزيد عليه، فالفقهاء اختلفوا في حقيقة الرؤية وفي أهلها وفي عددهم وفي شروط صحتها وفي وسيلتها وفي كيفية التعبير عنها وفي نقلها.
وعلى اعتبار قبولها بشاهدين فهما ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما، وأين الحساب الفلكي من احتمال الاعتماد على شاهد واحد عندما يكون الجو غير صحو والرؤية عسيرة، كما عليه بعض المذاهب المعتبرة في هذا الحال؟!.
أين يلعب السياسي؟
في ظل هذا الجدل يمكن للسياسي أن يحقق بعض الاختراقات، وقد تم بالفعل في بعض الأوقات -وفق الرؤية الشعبية على الأقل– ليخرج بدء الصوم عن كونه جدلا فقهيا إلى لعبة سياسية، تعكس إملاءات ورغبات الحاكم واستهانته بشعيرة الصوم، كما تتحكم فيها حسابات العلاقات مع بعض دول الجوار ما ينظر إليه على أنه تفريق لوحدة المسلمين.
ولعل ما يؤكد البعد السياسي لتحديد بدء الصوم حرص عدد من العلماء المعاصرين على توحيد الصيام تأكيدا لوحدة المسلمين وصورتهم، ونفيا لهذا الخلاف وإمكانية التلاعب به.
"شرعية قرار الصوم هي فرع عن شرعية القاضي "الشرعي" وهي مستمدة في واقع الأمر من كونه موظفا في نظام سياسي فاقد للشرعية" غير أنه وإن وقع الصوم في اللعبة السياسية في بعض الحالات فليس من الدقة المبالغة في ذلك، خصوصا مع الجدل الكبير الذي عرضنا له هنا، وأن له ما يبرره أو يحييه، وإن كان اتساعه يتيح للسياسي قدرا جيدا من التلاعب المستور، فضلا عن أن شرعية قرار الصوم هي فرع عن شرعية القاضي "الشرعي" وهي مستمدة في واقع الأمر من كونه موظفا في نظام سياسي فاقد للشرعية، خاصة مع زيادة استتباع النظام للمؤسسات الدينية وزيادة التدجين الذي يحصل لها!.
هذه الاعتبارات في حمأة هذا الجدل تجعلنا نتفهم موقف عدد من العلماء المعاصرين الذين أرادوا حسمه لصالح الحساب الفلكي، مراعاة لمصالح المسلمين الكبرى، وسدا للفراغ الذي يلعب فيه السياسي.
خلفية الجدل والجدال
والمتأمل في هذا الجدل سيجد اضطرابا شديدا في المسألة قديما ثم حديثًا، والمقال هدف أساسا لإظهار هذا الجدل وشدته، لنتأمل فيه وفي محركاته وانحيازه من زوايا نظر مختلفة:
- فمن جهة عكس جدل التعامل مع النص النبوي "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وغيره من النصوص، لدرجة الخلط بين الوسيلة والغاية حين تم اعتبار الرؤية العينية تعبدية في ذاتها، نتيجة الاعتبارات الحرفية البحتة!.
- من جهة أخرى عكس جدل تعاطي الفقهاء مع علم الفلك ومدى وثوقهم به، وأحسب أن لهذا علاقة بمآل ومصير علم الفلك لدى المسلمين لاحقا في العصور المتأخرة، فنحن نعلم دور الدين وشعائره ونصوصه في تطور وابتكار ونشأة علوم عديدة في الحضارة الإسلامية التي يشكل النص الديني فيها المركز.
- ثم كيف أن الثبوت عند كلام المتقدمين من الأئمة في هذا الموضوع يظهر أخطاء جلية لا تكاد تتوفر في غيره، من قبيل عدم تحديد المفاهيم وصورة العلوم والتغيرات التي تطرأ عليها عبر القرون، وهو ما يدفع إلى اختلاف المقال لاختلاف الحال، ففي حين كان علم الفلك يلتبس قديما بالتنجيم والعرافة ما يعطيه بعدا عقديا خطيرا، أصبح الحساب الفلكي الآن يعتمد على علمين حديثين هما الهندسة الكروية والميكانيكا السماوية، وهما العلمان الأساسان اللذان استطاع بهما الإنسان الهبوط على سطح القمر منذ حوالي ربع قرن.
"لم نعد أمة أمية لا تكتب ولا تحسب كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم أمته في زمنه
" والظنون التي حفت به قديما تلاشت بدرجة عالية لم يبق معها مقارنة بظنون شهادة عدل أو عدلين برؤية الهلال!.
بذا كله لم نعد أمة أمية لا تكتب ولا تحسب كما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته في زمنه!.
- وكيف أن التدين يؤثر سلبا كما يؤثر إيجابا على بناء الموقف من المسألة سواء فقهيا أم فلكيا لدرجة اعتبار باحث فلكي أن تعليق الصوم بالرؤية هو من الإعجاز النبوي، وأن هذا الحكم "منزل من عند الله -سبحانه وتعالى- وهو الذي أحاط بكل شيء علما, بينما عامة البشر وحتى ذوو الاختصاص منهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا باليسير مما شاء"! فكيف يمكن تطور عالم الفلك المسلم في ظل سيادة هذا المنطق؟!.
_________________
كاتب سوري
المصدر الجزيرة نت
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 30-أكتوبر-2024 الساعة: 11:10 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/15625.htm