الجمعة, 15-يوليو-2005
نـزار العبـادي* -
المشهد التصويرى فى امثال اليمن والعراق
ظلت خصوصيات الأمثال الشعبية في تراث العرب تترجم تجلياتهم التاريخية في جملة ظروف بيئية، واجتماعية، وسياسية فرضت تأثيرها على لغة المثل الشعبي، واتجاهات معانيه، واستعاراته البلاغية التي يتشكل من عناصرها المشهد التصويري للمثل الشعبي.
فالطبيعة الجبلية القاحلة لليمن حدّدت إنسانها بمشاهد عنيدة- كما الصخور- تحاصرها الشواهق، وتجعلها تصطبغ بالتحدي، والصبر، وحزم القرار، خلافا للطبيعة العراقية التي تكسي انبساطها بالشجر ، والماء ، وقطعان المواشي.. فكان أن اتسعت المشاهد في حدقات إنسانها، وتعددت صوره، فلم يكترث لمعاني تحدي الطبيعة، أو اقتباس التشبيه من بيئة عنيدة تحاصر الخيال بجفافها.
وهكذا نجد أمثالا شعبية يمنية تقول: ( لو كلّ منْ جاء نَجر، ما ظل في أرض الله حجَر) و( كلّ بلاد تبْني بحجارها)، و ( الحَجر مِن القاع والدّم من راسَك) و ( ما يُرجَم بثاني حَجَر إلاّ أخسّ الطَّير) و( سِراج مِن ورا حَجَر) و ( حَجَرة الفّسْل كَبيرة) .. وغيرها من الأمثال التي تستخدم مفردة (حَجَر) في بناء مشهدها التصويري المحكوم بما تحتضنه من جغرافيا.
إلاّ أن مثل هذا التكرار قلّما يحدث في المثل الشعبي العراقي نظرا للتنوع البيئي ، واتساع أفق الرؤيا . فنجد أمثالا تقول: ( لا بُو عَلي ولا مِسْحاتَه) ، و ( وقَع الفاس بالرّاس) و ( أمشي شَهَر ولا تَعبُر نَهَر) و ( يُودّي لشِثاثَه تَمُر)- بمعنى يرسل لمنطقة ( شثاثة) تَمر، وغيرها من الأمثال التي تتناول الزراعة ، أو الماء ، أو بعض الثمار المشهورة في العراق.
لكن هذا الاختلاف البيئي غالبا ما يصاحبه توافق معنوي كبير، باعتبار أن القيم الإنسانية المراد نقلها عبر المثل الشعبي إلى المتلقي هي ذاتها الموجودة في اليمن أو العراق ، إلاّ أن كل منها استعان بأدواته الخاصة في رسم المشهد التصويري بالمثل، فالإنسان اليمني عندما يقول: ( ما يَثْقل الحِمِل شَرخَة) إنما هو يشكل المثل ببعض طقوس عمله اليومي الملتصق بأذهان جميع أبناء مجتمعه، فيما يقول الإنسان العراقي ( ما يَضُر الغَرْقان غَطّة) -أي غطسة- وهو مشهد لا يمكن لليمني بلورته في أمثاله لانعدام الأنهار في بيئته خلافا للعراق الذي تقع عيناه يوميا على مشهد انسياب مياه النهر.

وفي مشهد آخر نجد المثل اليمني يذهب إلى القول: ( طُول بلا سَبُول) لتشبيه انعدام قيمة بعض الأشياء الكبيرة، لكن "السبول" اليمني الذي يُعد منتوجه الزراعي الأول يقابله "النخل" لدى العراقيين، لذلك جاء المعنى ذاته في مثل عراقي يقول: ( الطول طول النَّخلة والعَقل عَقل السَّخْلة) .. ويتكرر مثل هذا التوافق في حالة المثلين اليمني ( لا تقول بُرّ إلا إذا قدُوه في الصُرّ)، والعراقي ( لا تَقول سِمْسِم إذا ما تِلهَم).

واصل المفردة ( تلهم) هو (تلتهم) ..وكذلك هو الحال أيضا مع المثل اليمني ( مثل يُيبيُبي الصَّيف )، ورديفه العراقي (مِثِل هِلال العّيد )- إذ أن كلاهما يقصد نُدرة الظهور ، إلا أن العراقي لم يكن بوسعه التشبيه بطائر الهُدهد ( يُبيُبي) لأن قلة قليلة جدا من العراقيين سبق لهم رؤية هذا الطائر في سماء بلدهم، وبالتالي فإن الإتيان به في متن المثل سيجعل المثل مُبْهماً، فيفقد شعبيته، خلافا لما هو كائن في اليمن ويبدو لنا أحيانا كثيرة أن منهل بعض الأمثال اليمنية العراقية واحدا للدرجة التي يؤكد ما رددته كتب التاريخ بأن بعض قبائل اليمن رحلت إلى العراق بعد انهيار سد مأرب، وأسست فيه دولة ( المناذرة).

فمن الأمثال الشعبية التي يرددها اليمنيون والعراقيون بنفس اللفظ قولهم( وجَع ساعَه ولا كل ساعَه)، و( مَنْ يتزوّج أمّي يَصير عَمّي) و ( العَين ما تعلا على الحاجِب) و ( من ظهَر عَمّك ما يَهمّك) و ( يُسوّي مِن الحَبّة قُبّة).

و( الحَق الكذّاب لباب بَيْته) و ( إجَتْ مِن عِنْدَك يا بَيْت الله) و ( يَخرُج منها مِثِل الشَّعْرة مِن العَجين) وغيرها، لكن بعض الأمثال تذهب لتشكيل نفس الصورة بالضبط باستخدام مفردات تشبيهية مختلفة بحسب ما هو شائع في كل بلد- كما هو الحال مع المثل اليمني( ما يُعرُف كوعَه مِن بُوعَه) ،والمثل العراقي ( ما يُعرُف راسَه مِن رجليه) ؛ والمثلين اليمني ( صام صام وفَطَر بِلصّامَه)، والعراقي ( صام صام وفطر بجِريَّة)- وكلمة ( جرية) تعني نوع من الأسماك المكروهة لدى كثير من العراقيين. وكذلك المثلين اليمني( بعد ما شاب خَتَنوه) ، والعراقي ( بَعَد ما شاب وَدّوه الكُتّاب).. وفي المثلين اليمني ( مُطَلِّب ويشتهي بُرّ) ، والعراقي ( مِجَدّي وعليجَتَه قَديفَه) - كلمة (مجدي ) بنفس معنى ( مُطَلِّب أو متسول).

ومما سبق يتجلى لنا أن عناصر التكوين البيئي لليمن والعراق فرضت ملامحها على مفردات المشهد التصويري للمثل الشعبي إلا أنها ظلت عاجزة عن النفوذ إلى المدلول المعنوي الواحد، الذي يمنح المثل الشعبي هويته الثقافية أو السلوكية التي تتبلور بها واحدية التراث اليمني والعراقي.

ومع ثقتنا بتلك الحقيقة إلا أن ذلك لا يمنع من وجود خصوصيات في المثل الشعبي ينفرد بها كل طرف عن سواه على خلفية عادات وتقاليد خاصة، قد تفرض نفسها في واقع البلد ذاته ضمن أقاليمه الداخلية.

فعندما يردد اليمنيون مثلهم ( ما يَنْفَع الحَسّيك سُفال العَقَبة) للإشارة إلى عدم جدوى استدراك الأمور الخاطئة في لحظة استفحالها، فإن المشهد التصويري للمثل مستمد من صميم الحياة الداخلية اليمنية وعاداتها القديمة في استعدادات السفر، في حين يقول أهل العراق في هذا الموقف: ( بعد ما وقَع الفاس بالراس). كما أن لدى اليمنيين أمثال يرد فيها ذكر الجَراد، مثل: ( أربع جَراد شَططين الغَرارَه) وهذا أمر يأتي من حقيقة تفردهم باصطياد الجراد وأكله.. وهذا هو ما نعنيه بالمشاهد الخاصة في تشكيل المثل الشعبي، والتي نجدها حتى لدى العراقيين - كما هو الحال في مثلهم ( كاوليّة وصار عِنْدهم عُرس) - ومعنى ( كاولية) هم شريحة يمتهنون الغناء والرقص في المناسبات، أو كمثلهم ( ماحد يَبْكي على الحُسَين كلها على الهَريسَه) ، و (الهريسة) طعام من حبوب الحنطة ارتبط بتقاليد شيعة العراق في أحياء ذكرى استشهاد الحسين بن علي (عليهما السلام).
ولعلنا هنا نكتشف أن الطقوس الاجتماعية، والعقائد الداخلية تسهم أيضا في تنويع المشهد التصويري للمثل الشعبي، وبإمكاننا هنا أن نضيف إليها أيضا الظرف السياسي فإذا كانت لغة المثل الشعبي اليمني تأثرت ببعض المفردات التركية من إرث الاحتلال القديم، وكذلك الإنجليزية فإن ثلث المفردات المكونة للغة الأمثال العراقية قادمة من خلفيات فارسية، وقسم قليل منها تركية سواء بفعل الاحتلال أم الجوار.
فمن طريف القول أن لأبناء جنوب اليمن مثلا يقول: ( لو كان في الرّز قُوّة ، لكان في الهّندي مُرُوّة)- فهم كانوا يصفون الهنود القادمين إلى عدن بمراكب الاحتلال البريطاني( آكلي الرز) حيث أن الرز لم يكن طعاما شائعا في اليمن حتى منتصف القرن العشرين، فيما لدى العراقيين مثلا يقول: ( أيش جاب الشِّلاق على الدّولمَه) وكلمة ( شلاق) تكتب بحرف الجيم تحته ثلاث نقاط بدلا من الشين لأنها كلمة فارسية تعني ( الركل بالقدم) بينما كلمة( دولمة) كلمة تركية تعني ( طبخة ورق العنب أو السلق المحشو بالرز وغيره) ويراد بالمثل الاستغراب من اجتماع أمرين مختلفين.
لا شك أن الأمثال الشعبية اليمنية والعراقية على درجة كبيرة من التشابه والتقارب ليس في اتجاهاتها المعنوي وحسب، بل حتى في ظروفها التاريخية، والبيئية، والاجتماعية التي تشكلت بمقتضيات تأثيرها المشاهد التصويرية المترجمة لمدلولاتها – التي هي في آخر الأمر بمثابة عصارة تجارب وخبرات إنسانية تراكمت فحملها المثل الشعبي من جيل إلى آخر بغير تكلّف أو عناء..
* كاتب وباحث عراقى
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 27-ديسمبر-2024 الساعة: 07:37 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/23012.htm