احمد الحبيشي -
لله في خلقه شؤون
يوم الأحد الماضي وجه اسامة بن لادن زعيم تنظيم (( القاعدة ))خطاباً صوتياً عبر قناة ((الجزيرة )) هاجم فيه موقف المملكة العربية السعودية الرافض لفكرة ((صدام الحضارات))التي روّج لها مشاهير مفكري جماعة الاخوان المسلمين في الخمسينات والستينات امثال ابو الحسن الندوي وسيد قطب وسعيد حوى، تم جاء المفكر الاميركي «صموئيل هنتجتون» ليبلورها ويؤكد عليها في مطلع تسعينيات القرن العشرين المنصرم غداة انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية الدولية ، وسط رفض واسع لهذه الفكرة التي عارضتها تيارات سياسية وفكرية عربية وعالمية عديدة بعد ان رأت فيها خطرا ينذر باشعال حروب داخلية وعالمية مفتوحة بين الاديان والثقافات ، وتدمير القيم الانسانية المشتركة التي تتعايش وتتفاعل وتتلاقح في اطار الحضارة البشرية المعاصرة.
ولقيت هذه الفكرة تأييداً من الشيخ عبدالله صعتر عضو مجلس شورى حزب التجمع اليمني للاصلاح بقوله في شريط صوتي صدر في اكتوبر عام 2002 م، و نشرته صحيفة «العاصمة» التي كان يصدرها حزب «الاصلاح» في نفس التاريخ : انه لايجوز ان يبقى شبر فوق الارض لايحكمه الاسلام، ولا يجوز في الوقت نفسه ان يبفى انسان في البشرية لا يؤمن بالاسلام، والله سبحانه وتعالى لم يرسل النبي عليه الصلاة والسلام ليدعو ويبقى في مكانه بل قال له ولأتباعه من بعده وقاتلوهم حتى يكون الدين كله لله، اي حتى يكون الاسلام هو الحاكم في كل انحاء الأرض» بحسب قول القيادي «الاصلاحي» الشيخ عبدالله صعتر !!!
لم يكتف اسامة بن لادن بهجومه على موقف السعودية الرافض لفكرة صدام الحضارات، بل هاجم ايضا من اسماهم «الليبراليين الملاعين» في العالم العربي وخص بالتحديد الليبراليين العرب في السعودية و الخليج الذين يرفضون تقسيم العالم الى فسطاطين متعاديين ومتحاربين اولهما فسطاط الاسلام والآخر فسطاط الكفر .
بموجب فكرة «صدام الحضارات» التي يؤمن بها بن لادن تقوم العلاقة بين المسلمين واتباع الاديان السماوية الأخرى على القتال والصدام طبقاً للبيان التأسيسي الصادر عن الجبهة العالمية لقتال اليهود والنصارى التي أسسها اسامة بن لادن في فبراير عام 1998م، ثم جاء جهازها السري المعروف بتنظيم «القاعدة» ليخوض على هدي ذلك البيان حرباً ضروساً ضد الدول والمجتمعات الكافرة ومن والاها من المسلمين !!.
مما له دلالة ان يتزامن خطاب بن لادن الذي انتقد فيه رفض المملكة العربية السعودية والليبراليين العرب لفكرة «صدام الحضارات» مع الاعتداءات التي تعرض لها عدد من كنائس الاسكندرية، واسفرت عن قتل وجرح عدد من المصلين المسيحيين على ايدي بعض المتطرفين الاسلامويين الذين تأثروا بهذه الأفكار الضالة، كما تزامنت ايضاً مع مواجهات دامية بين شباب من حركتي «فتح» و «حماس» في الأراضي الفلسطينية على خلفية تصريحات مثيرة للصدام والنزاع في الساحة الفلسطينية اطلقها خالد مشعل في دمشق، ووصف فيها حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» وتشكيلات السلطة الوطنية الفلسطينية بأنها عميلة و مأجورة !!
في سياق ادانته للحصار الذي تتعرض له حكومة «حماس» حرص بن لادن على تأكيد ما قاله مساعده الدكتور أيمن الظواهري الذي سبق له ان انتقد انخراط «حماس» في العملية الديمقراطية ومشاركتها في انتخابات اسفرت عن تشكيل مجلس تشريعي «شركي وكفري» تقوده حركة «حماس» الاسلامية، وتشارك في عضويته كتل برلمانية من «فتح» والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من التنظيمات التي وصفها الظواهري في آخر خطاب بثه عبر قناة «الجزيرة» ايضاً بأنهاحركات علمانية ليبرالية كافرة تسعى الى زرع قيم الحضارة الغربية في ارض الاسلام بفلسطين، كما انتقد ايضا مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية المصرية التي اسفرت عن مشاركتهم في عضوية مجلس الشعب الذي وصفه الظواهري بأنه «كفري وشركي» ايضا ً !!
اللافت للنظر ان انتقادات بن لادن لم تلق رداً من حركة «حماس» وجماعة الاخوان المسلمين اللتين التزمتا الصمت ازاء ما ورد في خطابه وخطاب مساعده ايمن الظواهري من تكفير للديمقراطية التي اوصلت «حماس» الى قيادة الحكومة الفلسطينية والمجلس التشريعي الفلسطيني، ومكـّنت جماعة الاخوان المسلمين في مصر من الفوز بنسبة 20% من مقاعد مجلس الشعب المصري، الأمر الذي يعزز موقف الذين يشككون بجدية التزام قوى الاسلام السياسي بالديمقراطية، ويعتقدون بأن الاخوان المسلمين على وجه التحديد يخفون في عمق مشروعهم السياسي الكهنوتي ما لايعلنونه في خطابهم الاعلامي المدني الذي يتظاهر بالدعوة الى الديمقراطية وحماية حرية التعبير والدفاع عن حقوق الانسان وضمان نزاهة الانتخابات التي يتهمها بن لادن بالكفر والشرك بينما يلتزمون الصمت ازاء هذه الاتهامات !!
ثمة من يرى ان جماعات الاسلام السياسي اضطرت الى تعاطي الديمقراطية بهدف استخدامها كجسر للوصول الى الحكم سلماً، بيد انها ستطبق حال وصولها الى الحكم ذات المشروع الذي تتبناه الجماعات الجهادية المقاتلة، تجسيداً للاصول الواحدة التي تجمع مختلف الجماعات الاسلامية المعتدلة و المتطرفة بصرف النظر عن اختلافها في الفروع والوسائل، لأن الاختلاف بين جماعات الاسلام السياسي السلمية والمقاتلة يدور حول الفروع وليس الأصول !!!!!
والحال ان بلادنا لم تكن خارج سياق هذه الاشكالية لجهة تأثر بعض جماعات الاسلام السياسي المتشددة بأفكار تنظيم «القاعدة» المعادية للديمقراطية والتعددية التي يراها بن لادن كفراً وشركاً بالله، وقيامها باستخدام العنف سواء ضد بعض المصالح والمنشآت الغربية والبواخر الاجنبية في الأراضي والموانئ اليمنية، الأمر الذي من شأنه الاضرار باقتصادنا الوطني، واضعاف نظام الحكم، فيما تشارك جماعات اسلامية اخرى في العملية الديمقراطية من خلال حزب التجمع اليمني للاصلاح الذي يتوزعه جناحان يطير بهما، احدهما سلفي متشدد لم يسبق له ان أبدى موقفا انتقادياً صريحاً للمنظومة الفكرية المتطرفة التي يسترشد بها تنظيم «القاعدة» والجماعات الجهادية المقاتلة، وخاصة تلك التي ترفض الديمقراطية بما هي خضوع الأقلية للأكثرية، وتنكر مبدأ مساواة المواطنين امام الدستور والقانون في الحقوق والواجبات، وتتمسك بموقفها الرافض لحقوق المرأة في العمل والمشاركة السياسية وشغل الوظائف القيادية في الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، فيما يتبنى الجناح الآخر خطاباً سياسياً داعياً للديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الانسان !!
من نافل القول ان بلادنا اكتوت بنار الارهاب على ايدي جماعات متطرفة تتبنى المنظومة الفكرية لتنظيم «القاعدة» الذي يعد بمثابة الجهاز الخاص المقاتل لقوى الاسلام السياسي، بقدر ما اكتوت ايضاً بسعير الجناح المدني في التجمع اليمني للاصلاح باعتباره واحدا من رموز الاسلام السياسي في اليمن والعالم العربي، حيث خاض الجناح المدني في حزب «الاصلاح» معركة الدفاع عن مرتكبي الجرائم الارهابية خلال السنوات الماضية بعد ضبطهم واحالتهم الى السلطة القضائية، تحت يافطة الدفاع عن الحقوق المدنية والقانونية تارة، أوتحت يافطة الدفاع عن السيادة الوطنية والتصدي للهيمنة الأميركية تارة أخرى .
وعندما خسر الجناح المدني في حزب «الاصلاح» معركة الدفاع عن الحقوق المدنية لمرتكبي جرائم الارهاب وحملة الأفكار المتطرفة، واصل معاركه «الجهادية» من اجل الوصول الى السلطة بوسائل ملتبسة من خلال التهافت على سفارات الدول الأجنبية بهدف الانخراط في برامج نشر الديمقراطية في الشرق الاوسط التي تتبناها الولايات المتحدة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي، لكن موقف الجناح المدني في حزب «الاصلاح» من المنظومة الفكرية المتخلفة لجناحه السلفي الذي يتحكم بالقرار السياسي والتمويل المالي لا يزال غامضاً وملتبساً .
بوسعنا القول ان الجناح السلفي الذي يقود مجلس شورى حزب «الاصلاح» ترك هامش حرية ومناورة لجناحه المدني في الأمانة العامة ليتعاطى فيه خطاباً سياسياً «ديمقراطيا» بهدف استعداء القوى الخارجية ضد النظام السياسي والحزب الحاكم تحت يافطة الدفاع عن الديمقراطية وضمان نزاهة الانتخابات، واتهام سلطة الدولة بانتهاك حقوق الانسان ومصادرة حرية التعبير وقمع الصحافة «الحرة» !!
في الاتجاه المعاكس يتفرغ الجناح السلفي لحزب «الاصلاح» لتجويف انخراط الجناح المدني في العملية الديمقراطية من خلال الممارسات التي تنتج ثقافة سياسة معادية للقيم الديمقراطية على النقيض من الخطاب السياسي الذي يتبناه الجناح المدني!
لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر جانبين من هذا المشهد الملتبس الذي يثير الكثير من التساؤلات حول مدى ديمقراطية التنظيم السري للاخوان المسلمين في اليمن بما هو القوة المحركة لحزب التجمع اليمني للاصلاح، وهو ما يمكن تعميمه على فروع الاخوان المسلمين في العالم العربي، حيث يناور «اخوان الاصلاح» في اليمن هذه الايام من اجل انتزاع مكاسب انتخابية «توافقية» خارج الدستور والقانون، في الوقت الذي يتظاهرون بالتباكي على الديمقراطية وحرية الصحافة ونزاهة الانتخابات .!!
في جانب آخر من المشهد يبدو القيادي البرلماني «الاصلاحي» الشيخ عارف الصبري وهو يهاجم الآراء التي تدافع عن حقوق المرأة، واصفاً «الاسلاميين المعتدلين» بالمتمردين على الاسلام بحسب مقال كتبه في صحيفة «الايمان» التي يملكها الشيخ عبدالمجيد الزنداني رئيس مجلس شورى حزب التجمع اليمني للاصلاح. ولم يتردد الشيخ عارف الصبري وهو عضو الكتلة البرلمانية لحزب «الاصلاح» في مجلس النواب عن اتهام «المعتدلين الاسلاميين» بموالاة امريكا والغرب الكافر !! .
في الاتجاه نفسه رفض شيخ «اصلاحي» في محافظة صعدة تسليم المواطن اليهودي يوسف سلمان حبيب المتهم بقتل الطفل اليهودي «فنحاس» بعد هروبه من موقع الجريمة في محافظة عمران الى محافظة صعدة، بذريعة «ان القاتل اليهودي اشهر اسلامه، وان الاسلام يجبّ ما قبله» !!، فيما نقلت احدى صحف حزب «الاصلاح» عن لسان استاذ جامعي «اصلاحي» بجامعة صنعاء قوله ان القاتل غير المسلم يعفى من عقوبة القصاص اذا اعتنق الاسلام جرياً على ظاهر حديث نسبه الاستاذ الجامعي «الاصلاحي» للرسول عليه الصلاة والسلام : «لا يقتل مسلم بكافر» !!
في تقديري ــ والله أعلم ــ ان القول بذلك الحديث المنسوب الى النبي الذي نهى عن كتابة وتدوين احاديثه خشية تلفيق مثل هذه الأحاديث، يشكل اساءة بالغة للرسول الأعظم، لا تقل عن الرسوم الدنماركية المسيئة اليه، ناهيك عن انها تسيئ ايضا ً الى الاسلام حيث تقدمه في صورة دين عنصري وملاذ آمن للقتلة .
ولئن كان فخامة رئيس الجمهورية قد حسم هذا الجدل لدى استقباله وفد من اليهود اليمنيين في محافظة عمران، بتأكيده على ان اليهود اليمنيين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة التي ينص عليها الدستور وتكفلها القوانين النافذة، موجها اجهزة الأمن في محافظتي عمران وصعدة بضرورة ملاحقة وضبط قاتل الطفل اليهودي وتقديمه للعدالة، لكن صمت قيادة الجناح السلفي في حزب «الاصلاح» عن ابداء رأيها في هذا الجدل الذي تورط فيه بعض اعضائه يثير تساؤلات مشروعة حول مدى مصداقية الخطاب السياسي والاعلامي الذي يسمعه سفراء الدول الأجنبية اثناء لقاءاتهم بممثلي الجناح المدني في حزب «الاصلاح» وحلفائهم في «اللقاء المشترك» !!
على صعيد متصل شن خطيب سلفي قريب من حزب «الاصلاح» في مسجد «النور» بمديرية معبر في محافظة ذمار هجوما شديدا على الأحزاب والحزبيين، مدعيا َ ان الحزبية هي ملة اليهود والنصارى جاؤوا بها الى بلادنا بهدف افسادها تحت شعارات الديمقراطية وحقوق المرأة، فيما يلتزم الجناح السلفي في حزب «الاصلاح» الصمت ازاء مواقف سلفية مناهضة للديمقراطية من بعض رجال الدين، وعلى وجه الخصوص كتاب الشيخ محمد الامام بعنوان «تنوير الظلمات في كشف مفاسد وشبهات الانتخابات» حيث لم نسمع اي نقد لهذا الكتاب من شيوخ مجلس شورى حزب «الاصلاح» الذي يطالب بانتخابات حرة ونزيهة، ويتهم السلطة بالفساد وقيادة البلاد الى نفق مظلم .. ولله في خلقه شؤون .
[email protected]
عن اسبوعية 26 سبتمبر