يوميات رمضانية(2)

الإثنين, 27-أكتوبر-2003
المؤتمر نت (خاص- نزار العبادي) -
أمسيات رمضانية في رحاب السعيدة
للشهر الكريم نكهة عذبة وفريدة تتوسم بعبقها ليالي اليمن السعيد منذ عهود الآباء ولأجداد، فقد ألفت البيوت والمجالس إبتلاع سكون الظلام بألوان القصص التاريخية والحكايا التربوية، وبعض الأساطير والألغاز والدعابات الطريفة التي تشرح أسارير النفس، وتبهج الخاطر، وتضرم جذوة التلهف ليوم آخر، وحديث آخر، واجتماع شمل لا رغبة للنفس بمبارحته أو إفتراقه.
وبلا شك أن الغالبية منا تحترق وجداً لمعرفة المزيد مما يمكن أن يقال في مجالسها أو بيوتها ولا أطنني بغير تراث اليمن أجد ما تتوق له النفس، وما يشبع الفضولِ.. فهذا البلد خزين الأمة الذي لا ينضب، وعبق الحضارة الذي يفوج شذى تزداد غزارته كلما مرت عليه السنون، ومن مناهلة سنغترف اليوم مادة لأمسية رمضانية عذبة.
مثل شعبي يمني يقول: (بَدِّد وإلاّ كَنْبْ)
بإمكاننا إخبار جلسائنا بهذا المثل الشعبي، وإشعارهم بأنه من الأمثال اليمنية القديمة جداً، ولم يعد شائعاً أو معروفاً معناه عند اليمنيين باستثناء نفر قليل جداً.. والآن نطرح سؤالنا للحضور: ما معنى هذا المثل الشعبي؟
بعد أن يعجز الجميع نخبرهم بمعناه، والذي هو كالآتي.. (بدِّد) بمعنى ( اقتصدْ)، أما كلمة (كَنْبْ) فمعناها مرتبط بتقليد شعبي يمني وهو أن اليمنيين عندما كان القحط يصيب بلادهم، وتنعدم الأمطار والزروع فلم يعد على الأرض مرعى لأغنامهم وأبقارهم، كانوا يعملون على تقطيع أغصان شجرة "الطلح" أو المِشَّام"، ثم يزيلون عنها القشرة الخارجية ذات اللون البن فينكشف جزؤها الأخضر.. بعدها يمسكون بحجر ويأخذون بالدق على هذه الأغصان حتى تتفتت أليافها وتصبح طرية جداً، فيجعلون منها طعاماً يقدمونه للأغنام والأبقار.. وهذا الطعام يُسمى (كنْبْ) ، بحسب لهجة بعض مناطق اليمن الوسطى- ومن هنا جاء هذا المثال الشعبي ليحث الناس على الاقتصاد بالمعيشة وعدم التبذير، وليحذر من عواقب الإسراف الذي يقود صاحبه إلى نفس مصير المواشي مع (الكنْبْ).

قصة (خُزَيمة)
من في اليمن لا يعرف "خزيمة" ..! ربما كان صيتها بعد "سد مأرب" رغم أنها ليست سوى مقبرة تتوسط العاصمة صنعاء الآن، لكنها مقبرة طويلة عريضة كانت في الماضي تمتد حتى "باب السباح" من جهة الشمال، ونهاية كلية الشرطة من جهة الجنوب ونهاية نادي ضباط القوات المسلحة من جهة الغرب، وحتى حدود العرضي من جهة الشرق، ولم تكن أرضية هذه الأبنية التي ذكرناها إلاّ أجزاء من مقبرة خزيمة.

لكن السؤال الذي يستحق أن نثيره في إحدى جلساتنا الرمضانية هو: مَنْ هي (خُزيمة)؟
ولماذا سميت المقبرة بهذا الاسم؟
لاشك أن هناك الكثير مما سيرويه البعض بهذا الخصوص إلاّ أن القصة الحقيقية هي كما يلي: يُروى أن تاجر بهارات نصراني كان يقطن مدينة صنعاء، وفي بعض الروايات أنه كان يهودياً. وكان يعيش مع زوجته فقط. وفي إحدى الأيام رزقه الله بطفلة أسماها (خزيمة) إذ أن هذا الاسم شائعاً في اليمن قبل أن يرتبط بقصة المقبرة. لكن زوجته فارقت الحياة بعد أيام من الولادة، فما كان من إحدى الأسر اليمنية المجاورة له إلاّ أن تتولى رعاية الطفلة واحتضانها.
شبت الطفلة (خزيمة) وترعرعت في كنف الأسرة اليمنية المسلمة. وكان من عادة أهل اليمن أن يجمعوا أبناءهم بعد صلاة العصر، أو بين صلاتي المغرب والعشاء ليعلموهم القرآن ويحفظوهم إياه، ولما كانت خزيمة أصبحت جزءً من هذه العائلة فإنها كانت تحرص على حضور دروس التحفيظ- رغم أنها من أسرة نصرانية- ويقال أن الله ألهمها قدرة عجيبة على الحفظ لدرجة أن لفتت انتباه رب الأسرة اليمنية، فأولاها رعايته الخاصة، وساعدها على ختم حفظ القرآن وإتمامه وهي في العاشرة من عمرها تقريباً، وأوصاها أن تخفي إسلامها عن أبيها لئلا يحرمها من البقاء مع الأسرة اليمنية.
ولما بلغت الثالثة عشرة من العمر مرض أبوها مرضاً شديداً وآثر العودة إلى بلده الأصلي (يُقال أنه فرنسا) حتى إذا ما وافته المنية هناك ستكون ابتنه بين أهلها وأقاربها.
وبالفعل عمل على تصفية أعماله في اليمن وعاد إلى فرنسا، ومات هناك أيضاً. فورثت عنه ابنته كل أمواله بما فيها أراض في صنعاء لم يسعفه الوقت لبيعها.
وبعد ثلاث سنوات من ذلك اجتاح الطاعون البلاد الأوروبية فكانت (خزيمة) واحدة ممن أصابها بدائه فأشرفت على الموت، وقبل أن تموت كتبت وصيتها باللغة العربية ووضعتها بصندوق مليء بالذهب والمجوهرات، وأوصت من كانت بمعيته بأن يدفنوا الصندوق معها إذا ماتت.
وما هي إلاّ أيام وفارقت (خزيمة) الحياة، فأُخذت إلى إحدى مقابر النصارى ودُفنت فيها على تقاليد وطقوس الديانة المسيحية عند الفرنسيين.
وفي نفس الليلة التي ماتت فيها (خزيمة)، كان الرجل اليمني الذي تربت خزيمة في كنفه وحفظت القرآن على يده، كان يراها في منامه تلك الليلة وهي تقول له بأن يذهب إلى مكان ما في صنعاء (كانت تصفه له بالتفصيل)، وأن عليه أن يحفر في تلك البقعة التي تحددها ليجد (خزيمة) فيها ويجد (أمانة) مرسلة له، لكن صاحبنا اعتبر الرؤيا محض أظغاث أحلام تواردت لذهنه من فيض حبه واشتياقه للفتاة، إلاّ إن الرؤيا نفسها تكررت بنفس التفاصيل في الليلة الثانية، مما حدا به إلى أن يقص الأمر على بعض أصحابه، فنصحوه أن يمسي ليلته القادمة في الجامع كونه مكاناً لا تدخله الشياطين، حتى إذا تكررت الرؤيا تكون حقاً، وإلاّ فلا شيء سيحدث.
ففعل الرجل بما نصحوه، وما إن أذن الفجر حتى كان يقف على باب الجامع ليخبر أصحابه بأن نفس الرؤيا تكررت. وبعد صلاة الفجر قصد الجميع المكان الذي طلبت منه خزيمة في المنام أن يحفر فيه، فوجدوا كل تفاصيل الوصف هناك، ونفس العلامات التي كان يراها في منامه، فحفروا قليلاً فإذا بجثة (خزيمة) مدفونة هناك، ووجهها يتلألأ نوراً كما لو أن نبض الحياة مازال في عروقها، فأخرجوها من القبر، وأخرجوا الصندوق معها، وإذا بالورقة التي وضعتها في الصندوق مكتوب بها وصية توصي بها (خزيمة) بجميع أموالها والأراضي التي خلفها أبوها في صنعاء وقفاً للفقراء والمساكين في اليمن.
أما لرجال الدين آنذاك فقد فسروا هذه المعجزة الربانية- التي انتقلت بها جثة خزيمة من فرنسا إلى أرض اليمن بأنها كرامة من رب العالمين أراد بها إشهار إسلام البنت (خزيمة) وتكريمها في الممات بأن تدفن على ملة وشرع الإسلام، لهذا فإنهم غسلوها وصلوا عليها، وأعادوا دفنها، في نفس المكان، فأخذت خزيمة شهرتها بين الناس بأنها من أولياء الله الصالحين، وصار الكثير من أهالي صنعاء يدفنون موتاهم بجوار قبر خزيمة، أو يوصون أهاليهم بدفنهم بعد الممات بجوار خزيمة تيمناً بها وبمنزلتها عند الخالق، حتى إذا ما تقادمت الأعوام والقرون كانت (خزيمة) مقبرة شاسعة مترامية الأطراف، لا أحد من الأجيال الحديثة يعرف بالضبط أيها كان قبر (خزيمة) الذي وهب هذه البقعة من صنعاء اسمها الشهير.
ولا أخفي سراً على القارئ الكريم بأن لا أحد منا يستطيع التحقق تماماً من مدى صدق الرواية لذلك فإن العهدة في ذلك على الرواة الذي تحدثوا بذلك في مخطوطات يمنية قديمة، ومع أن (خزيمة) ماتت منذ زمن بعيد، لكن مازالت هناك (خزيمة) أخرى على قيد الحياة، وهي ابنتي التي ولدت على أرض اليمن أثناء بحثي في هذه القصة، فآثرت أن أسميها (خزيمة) حباً وتيمناً بتراث اليمن السعيد
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 04:04 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/3830.htm