الخميس, 17-مايو-2007
المؤتمر نت - عبد الوهاب المسيري المؤتمرنت - متابعات -
المسيري: عرفت طريقي إلى الله بالإنسان
دائما ما ُيتهم المثقفون العرب بأنهم يخاطبون أنفسهم فيما يكتبون أو يألفون حتى ولو كان ما يكتبونه موجهاً إلى الآخر الغربي.. لكن الأمر بالنسبة للمفكر الإسلامي الدكتور عبد الوهاب المسيري يبدو مختلفًا تمامًا.. فالمسيري الذي درس الفكر والأدب الغربي وحاز فيه على أرفع الدرجات العلمية يشكو مر الشكوى من أن الغرب يرفض أن يحاوره ولا حتى أن يدير خلافاً فكرياً معه، مع أن كثيرًا من أعماله تترجم إلى الإنجليزية.. ربما لأن المسيري لا يبدو منبهراً أو حتى معجباً بالفكر الغربي، بجناحيه الرأسمالي والماركسي، بل إنه وجه ضربات نقدية موجعة لهذا الفكر، فاضحاً جذوره النفعية والاستغلالية وسمته المادي المعادي لكل ما هو إنساني.
الحوار مع المسيري لا يأخذ طابعًا فكريًا جامدًا،؛ فالرجل يبدو مشتبكاً بقوة مع واقعه، سواء أكان الأمر متعلقًا بالهجمة الأمريكية والصهيونية على المنطقة، أو يتصل بتفاعلات الحياة السياسية في مصر، ولذا فإننا هنا نحاور الباحث والمفكر والسياسي والأديب والمؤرخ عبد الوهاب المسيري.

- من وجهة نظركم.. من أي زاوية كان إسهام موسوعتكم (اليهود واليهودية والصهيونية) في النهضة المعرفية المطلوب تحقيقها لمواجهة التحديات التي تحاصر العرب والمسلمين؟

= ما يهمني هو أن فكري تتم مناقشته من قبل المفكرين الآخرين، وقد أرسلت رسائل لعدد من المراكز البحثية داخل وخارج العالم الاسلامي لأستطلع رأيهم في كتاباتي حتى يكون هناك تراكم معرفي يؤدي إلى المزيد من التقدم؛ لأنه لا فائدة من موسوعة تكتب في عشرات السنين ثم توضع على أرفف المكتبات دون أن تثير نقاشاً وخلافاً فكرياً وإضافات جديدة.
وللأسف فإن المؤسسة العلمية العلمانية تتجاهل أعمالي وكتاباتي تماماً، فعلى سبيل المثال أحد كتبي وهو (اللغة والمجائز) نفد من الأسواق في تسعة شهور، وجاري طباعته للمرة الثانية وكتبت عنه الصحافة، ولكن لم يحظ بكتابات أكاديمية رصينة حوله تؤدي للتراكم المعرفي المطلوب للنهوض الحضاري المنشود.
لكن المؤسسة العلمية العلمانية آثرت الصمت تجاه كتبي تماماً، كما فعل الإسرائيليون الذين لا يشيرون لأعمالي لا من قريب ولا من بعيد، على الرغم من أنني تعمدت أن أنشر كتاب "المفاهيم الأساسية " باللغة الإنجليزية في جريدة (الأهرام ويكلي) إلا أنهم لزموا الصمت تماماً.

- يتساءل الكثيرون: لماذا نرى الدكتور المسيري دائماً مبتسماً ومتفائلاً على الرغم من المآسي التي يعيشها العالم الإسلامي؟ ومن أين يأتي بهذه الثقة في حتمية زوال إسرائيل؟

= أنا اشعر بالتفاؤل دائماً لأنني أؤمن بأن ما نراه اليوم من عوامل إحباط هو حالة مؤقتة. أما الثقة بحتمية زوال إسرائيل فسببها ثقتي بإنسانية الإنسان الذي فُطر على رفض الظلم والسعي لإحقاق الحق ولو طال الزمان، فالحرب بيننا وبين المشروع الصهيوني سجال، والنصر في النهاية لنا إن شاء الله تعالى الذي وعد بإحقاق الحق وإزهاق الباطل مهما علا هذا الباطل وطغى وتجبر.

- هل الإدارة الأمريكية جادة بالفعل في نشر الديموقراطية في المنطقة؟!
= أمريكا ذاتها لا تقدم نموذجاً ديموقراطياً ناصعاً؛ فقد شهدت ست رؤساء ولكنهم جميعاً إما من الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي، ولم تشهد الولايات المتحدة الأمريكية أي رئيس من أي حزب ثالث، وجميع المحاولات التي بُذلت عبر التاريخ السياسي الأمريكي لإنجاح مرشح من حزب آخر أخفقت، مع ما شاب عدد من هذه الانتخابات من شوائب.
ومن الحقائق المؤكدة أن التدخل الامريكي في جميع بقاع الأرض كان لإجهاض الديموقراطية وليس نشرها، ووصل الأمر إلى إعطاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعض الدول في العالم الثالث الضوء الأخضر لتزوير الانتخابات، والمشهد الفلسطيني ليس عنا ببعيد حين فازت حماس في انتخابات شهد العالم كله بما في ذلك أحد رؤساء أمريكا السابقين بأنها كانت نزيهة، ولكن الإدارة الأمريكية فرضت عليها الحصار المالي، ولم تعترف بها وتآمرت من أجل الإطاحة بها.

- لماذا عادت ظاهرة الاستعمار العسكري من جديد باحتلال العراق وأفغانستان بعد أن تخلصنا من المستعمر الأوروبي منتصف القرن الماضي بعد جهاد طويل ودامٍ؟

= احتلال أراضي الدول الأخرى ونهب ثرواتها خاصة إذا كانت هذه الثروات ترتكز على النفط المطلوب لإدارة الآلة الصناعية الغربية جزء أصيل من الرؤية الغربية، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر بلورت المنظومة الحضارية الغربية رؤيتها للعالم وللآخر وللذات، وتنطلق هذه الرؤية من أن العالم في جوهره مادة، وأن ما يحكمها هو قانون الحركة المادية، وأن ما هو غير مادي ليس بجوهري، ولا يمكن أن يُؤخذ في الاعتبار حينما ندير شؤون دنيانا ومجتمعنا، بمعنى أنه لا يوجد معايير إنسانية أو أخلاقية أو دينية تحكم حركة الإنسان والدول.
وفي هذا الإطار تحركت جيوش أوروبا ثم الولايات المتحدة، واقتسمت العالم فيما بينها، وحوّلته إلى مناطق نفوذ، وفرضت رؤيتها على العالم بأسره، وهذه الرؤية يمكن أن نلخص سماتها الأساسية في أن الصراع هو أساس العلاقة بين الدول، وبين الدولة والفرد، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، أي أن ما ساد هو رؤية ميكافيللي وهوبز للإنسان (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، وهي ذاتها الرؤية التي طورها داروين عالم الأحياء المعروف واستفاد منها كارل ماركس، وتسيطر هذه الرؤية حالياً على العلاقات الدولية والإنسانية، وعلى اقتصاديات السوق، سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي.

- باعتقادك، ما هو الإطار الفلسفي الذي يحكم الرؤية الغربية؟

= الذي يحكم الرؤية الغربية هو فكرة الدولة القومية التي تركز كل السلطات في يدها حتى يمكنها تجنيد كل عناصر المجتمع في خدمتها، وحتى يمكنها أن تصوغ المواطن حسب قوالب محددة تضمن ولاءه الكامل، الأمر الذي أدى إلى إضعاف المجتمع المدني وتهميشه، إلى جانب سيادة الفكر القومي المتطرف (الشوفيني)، وهو فكر ليس له مرجعية إنسانية أو أخلاقية.
والانتماء القومي في هذا الإطار يعطي صاحبه حقوقاً مطلقة، فلو قرر أعضاء قومية ما أو عرق ما أن من حقهم ضم هذه الأراضي أو طرد هذا الشعب أو حتى إبادته (كما جري في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا النازية وإسرائيل الصهيونية) فهو حق لا يمكن لأحد أن يعترض عليه، وهو حكم لا يمكن استئنافه، وهذا الإطار الفكري والمرجعي أفرز فكراً عنصرياً كريهاً قسم العالم إلى عالم غربي متقدم وعالم غير غربي متخلف.
ومما زاد من حدة الصراع وشراهة الدول الاستعمارية أن التقدم رُبط بمعدلات الإنتاج والاستهلاك، وهذا أمر منطقي في الإطار المادي المنفصل عن القيم الإنسانية والأخلاقية، بخاصة أن الافتراض الذي ساد هو أن المصادر الطبيعية لا تنفد، وفي هذا الإطار نسيت قيم إنسانية أساسية مثل: العدل والمساواة والتوازن والطمأنينة والحفاظ على البيئة.
هذا هو الإطار العام للمنظومة الحضارية الغربية التي يتحرك العالم بأسره - عن وعي أو عن غير وعي - من خلالها، وقد أدى ذلك إلى بروز محاولات هامة للتصدي للمنظومة الحضارية الغربية تمثلت في حركات التحرر الوطني، التي واجهت الاستعمار، وحاربت قواته حتى استقلت كل الدول المستعمرة، وصفيت كل الجيوب الاستيطانية (باستثناء إسرائيل) لكن الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة عاد مرة أخرى للاستعمار تحت دعاوى نشر الديموقراطية وإقامة الشرق الأوسط الجديد، أي في ثوب جديد لتحقيق أطماعه.

- مررتم بتحولات فكرية من الشك إلى اليقين، ومن المادية إلى الإيمان، فكيف تم هذا التحول؟ وما هي ملامح رؤيتكم الحالية؟

= حين تأملت حياتي ككل وجدت أن أهم ما فيها هو اكتشافي أن الحياة الإنسانية مركبة ومفعمة بالأسرار والثنائيات والتنوع، وليست أحادية، وأن الإنسان كائن فريد في العالم الطبيعي المادي، فهو جسد من طين ونفخة من روح الله سبحانه وتعالى.
ونتيجة هذا التأمل أدركت أن النموذج المادي عاجز عن تفسير سلوك الإنسان وعواطفه ودوافعه، إلى أن عرج بي فهمي للإنسان "الرباني" إلى الإيمان بالله وبدلاً من الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلت إلى الله من خلال الإنسان، ولا يزال هذا هو أساس إيماني الديني وهو ما أسميه "الإنسانية الإسلامية" التي تنطلق من رفض الواحدية المادية والتي تصر على ثنائية الإنسان والطبيعة المادة، وتصعد منها إلى ثنائية الخالق والمخلوق.
ولم يحدث التحول الكامل من الرؤية المادية الواحدية إلى هذه الثنائية إلاّ في أوائل الثمانينيات، أي أن عملية مقاومة الإيمان من جانبي دامت لما يزيد على ربع قرن، وبالتدريج تحول الإيمان إلى رؤية شاملة للكون، وإطار للإجابة عن كل التساؤلات والمرجعيات بحيث يصبح العالم بلا معنى ولا مركز بدون الرؤية الإيمانية الإسلامية.
وبعد تحولي الفكري أصبحت أرفض كل ما هو غير إنساني، فأرفض عبادة الطبيعة أو التكنولوجيا أو العقل أو العاطفة أو المثالية الخالصة أو الروحية الخالصة، فهذه كلها مكونات متكاملة متناقضة؛ لأن الإنسان هذا الكائن الفريد يقع في نقطة تلاقي بين كل هذه العناصر، وذلك في سياق فهمي لقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:28-29].

- هل لك أن تعطينا فكرة سريعة عن خصائص مشروعكم الفكري؟

= مشروعي له بعد إنساني عام اكتسب التوجه الرباني بعد انتقالي إلى رحابة الإيمان، وقد تبدى هذا التوجه في كل مراحل مشروعي الحضاري الفكري سواء حين كتبت عن الصهيونية أو عن الأدب أو قصص الأطفال، وقد تآكل النموذج المادي في فكري لحساب النموذج الإنساني عبر الحكمة القائلة: "من عرف نفسه عرف ربه"، وأيقنت أن الدين نموذج معرفي متكامل وليس مجرد جزء له أهميته في حد ذاته، وأدركت أن المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو من جذور كيان الإنسان وهويته، كما بدأت أشعر أن الدين ذو فعالية في الواقع المادي الذي نحياه وليس فقط جزءاً مغلقاً من عالم الغيب أي أن الدين أصبح تدريجياً في تصوري جزءاً من الكيان الإنساني وليس منفصلاً عنه.

- هناك عدد من المفكرين يرفضون مصطلح "الغزو الفكري" فما رأيكم في هذا المصطلح؟

= الغزو الفكري موجود وقائم بالفعل، ويمارسه الغرب ضد باقي الشعوب فالحضارة الغربية التي هي حضارة الديسكو والهامبورجر هدفها اللذة، في مقابل الحضارة الاسلامية التي تتميز بالخصوصية، والحضارة الأمريكية لا تغزونا نحن فقط بل تغزو الغرب أيضاً، ففي داخل الولايات المتحدة هناك تنوع حضاري عظيم فيما بين المناطق المختلفة داخل أمريكا، ولكن هذا التنوع الحضاري يتآكل لصالح نمط واحد، وهذا النمط يريد أن ينتشر إلى باقي مناطق العالم، وهذا النمط الأمريكي من سماته أنه غير حضاري؛ لأنه يقوّض الثقافات واللغات الأخرى حتى اللغة الإنجليزية ذاتها يجري تدميرها، لذلك فهذا النمط الحضاري مدمر لأي نوع من الخصوصيات الثقافية؛ لأنه يدخل تحت مسمى العلمانية الشاملة.

- كان لكم دور بارز في توجيه ضربات نقدية للنموذج المعرفي الغربي العلماني، فما تعليقك على من ينادون اليوم بعلمنة العالم الإسلامي بحجة تحقيق النهضة؟
= نموذج العلمانية الشاملة يفصل الحياة والسلوك الإنساني عن القيم والدين، وهذا النموذج يهدف إلى تحويل العالم كله إلى مجرد أدوات مادية بدون غاية أو مآل و يفقد الحياة معناها ويحولها إلى تعبير دهري دنيوي، وفهم هذه العلمانية وتحليلها ومعرفة قدرتها على اختراق حياة المسلمين في صيغة الاستهلاك وفي صيغة تفريغ الظاهرة الإسلامية من مضامينها ضرورة للتصدي لها وتجنب مخاطرها.
والذين يطالبون بعلمنة العالم الاسلامي لا يدركون أن الإسلام والتوحيد والوحي والشريعة هي الموجهة للإنسان وللمجتمع وللحياة كلها، ولا يمكن فصل الحياة والإنسان والمجتمع والدولة عن استلهام تعاليم الإسلام، فالمرجعية الإسلامية هي الإطار الذي يرجع إليه المسلم ويرجع إليه المجتمع والدولة (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)[النساء: من الآية59].
والعلمانية الشاملة تشكل تهديداً خطيراً للإيمان الديني، ومن ثم فإذا كانت الحركة الإسلامية المعاصرة تستهدف بشكل رئيس الحفاظ على بقاء الإسلام حياً في حياة الناس فإن جزءاً من صراعها وجدلها لابد أن يكون مع العلمانية الشاملة.

- ما الذي دعا الدكتور عبد الوهاب المسيرى إلى الانضمام لحزب الوسط بالرغم من أنك قضيت شطراً كبيراً من عمرك باحثاً أكاديمياً بعيداً عن الحياة السياسية والعمل السياسى العام؟

= في صباي دخلت الإخوان المسلمين ثم دخلت حزب (حدتو) بعض الوقت وسُجنت، ولي تراث سياسي، وسافرت الولايات المتحدة للدراسة، ثم عدت فى الحقبة الناصرية، وما بعدها ولم تكن هذه الفترة فترة حياة حزبية فى مصر، ثم انشغلت فى الموسوعة، ولم أفق منها إلاّ في عام 2001 و2002، ثم مررت بمرحلة مرض، وأصبح لدي الآن المقدرة على التحرك، فوجدت أن حزب الوسط لديه مقدرة على تقديم برنامج ملائم لى كفرد وللوطن وللجميع.

- شعار (الإسلام هو الحل) الذي يتبناه الإخوان في مصر يتعرض لكثير من الانتقادات من التيارات العلمانية.. فكيف ترى هذا الشعار؟

= الماركسيون كان شعارهم "يا عمال العالم اتحدوا"، فالشعارات اختزالية تلخص الفكرة ولا يمكن محاسبة أحد على الشعارات، وعندما قامت ثورة يوليو عام 1952 اتخذت شعارًا هو "الاتحاد والنظام والعمل"، والشعارات لها القدرة على التعبئة وبالتالي يجب أن تكون اختزالية والمفترض أن تتم محاسبة أصحاب الشعار على برنامجهم وليس على الشعار.

- من وجهة نظرك، لماذا يرفض النظام استيعاب التيار الإسلامي داخل البنية السياسية المصرية؟

= لأنه يعتقد أن التيار الإسلامي وغيره من التيارات بديل له، وهو لا يريد بديلاً. الاسلام اليوم
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 04:43 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/44074.htm