الجمعة, 12-مارس-2004
بقلم- أحمد يحيى الديلمي -
الإصلاح .. والتكييف الخاطئ
في ظل سباق الزمن لكسب رهان المستقبل ثمة تحولات تجري ومبادرات تعتمل لتؤهل الواقع بمكونات حقيقية تتجلى فيها الصيغة الكلية للإصلاح الذي ينتقل بالمواطن إلى سلم الارتقاء في الجانب التطبيقي وتوفير المناخ الملائم لإكساب الواقع قدرة التعامل الإيجابي مع المصطلحات والمسميات التي تعتبر مدخلاً للإصلاح الشامل وأهمها الديمقراطية.
وفي ما يتعلق بمدخل الديمقراطية فإن الأمر لا يقتصر على مواصفات وطريقة الاختيار ولا على الانتظام في طوابير أمام صناديق الاقتراع، بل لابد من ضبط السلوك العام للمجتمع ومدّه بمؤهلات التعامل الإيجابي حتى تصبح الممارسة الحقيقية مدخلاً لاحترام القوانين والأنظمة، كون العملية نظام شامل لا ينتهي بقيام المؤسسات البرلمانية مهما تعددت روافدها.
وتبعاً لذلك تبدو الفرصة سانحة أمام المبادرات وثيقة الصلة بمكونات الواقع، لأنها القادرة على تفعيل الموروث الحضاري والديني وكل ما يدل على الخصوصية الثقافية، وبذلك تكتمل المقومات المطلوبة لما يمكن أن نطلق عليه النموذج الوطني للديمقراطية.
وعند ذلك يخطئ من يعتقد أن الديمقراطية نموذج طارئ تفضَّل به على العرب والمسلمين، ليبدو من الواضح أن المبادرات التي تستوطن الواقع بشكل مباغت مهما ارتدت من أقنعة ومهما رفعت من شعارات تبقى عاجزةً عن غرس أي مضمون يتباهى به الناس في المحيط الجغرافي لإيقاعها .. أما إذا انطوت تلك المبادرة على مشاهد عنف فإنها تثير الجدل حول الهوية الوطنية والموروث الثقافي للأمة المستهدفة بمبادرة الإصلاح، فيتحول الأمر إلى ترويج لشعارات خالية من المضمون تصدم الوجدان الإنساني في المحيط المستهدف.
وللأسف الشديد فإن محتوى رؤية إصلاح للشرق الأوسط، الذي ترسب في الذاكرة الأمريكية في مدلوله وطبيعة أهدافه، يصعب في ذات الاتجاه، لأنه يتصرف كمن يضع بذرة الديمقراطية في أرض بكر ويسعى إلى هيكلة الفكر والثقافة والسياسة بنفس المعنى، لقناعة تامة بعدم وجود شواهد تدل على تلك الصفات في الواقع المستهدف بالإصلاح .. ولو أنه أمعن النظر بصدق لوجد شواهد عديدة تدل على المعنى الذي يتعمد تجاهله .. ولو أنه حاول إعادة تلك الشواهد ووضعها في صيغتها المحررة وفق أصولها الثابتة لأمكنه إصلاح الواقع فعلاً .. أما محاولة إثبات جينات أو توطين أفكار بحكم مسبق يؤكد عدم وجود مقومات صالحة، فإن ذلك مكمن الخطأ.
هناك خلاف كبير بين إثبات رؤية وتوطين فكرة في أرض بكر، وبين إعادة الحياة إلى نبتة قائمة بإحياء فروعها الذابلة ومدها بمكونات مكملة تعيد إليها الحياة .. ومن ذلك الخلاف تتجلى حقيقة هامة تكشف عن وجود تكييف خاطئ وغير موفق لعملية الإصلاح، لأن الأمر لم يعتمد على توصيف الواقع ومعرفة العلل الكامنة فيه قدر اعتماده على تقارير اللاهثين خلف تقمص أي فكر لتحقيق مآرب ذاتية أو تعميم أساليب أعمال الانتقام ضد التيارات المتطرفة .. وفي إطار محدودية الرؤية تتناسل المفارقات العجيبة التي تفرض على الجميع التسليم بفكرة الإصلاح بالدعوة لها وتمثلها في السلوك مهما أخلّت بالواقع أو تعارضت مع فيروس التخلف الموجود في البيئة .. وفي ذلك تكمن الخطورة، لأن النتائج ستكون عكسية توسع دائرة التعاطف غير المحدود مع الجماعات المتطرفة، وإن أخلّت بطبيعة وأسلوب المواجهة، لأن جهل أو تجاهل مكونات الواقع يرجح كفة الارتهان على مبدأ الربح والخسارة على حساب المعايير الإنسانية عندما تتعارض الأفكار الوافدة مع الهوية الوطنية أو ثوابت العقيدة تضيق دائرة الاستقطاب أمام رُسل التغيير.
ولأن معظم قرارات الإصلاح تتبلور في الخفاء كأعمال سرية تضع المتلقين أمام الأمر الواقع للقبول بها مهما كانت مجحفة بحياتهم، فإن دراما الكابوس المخيف للفرض وخلط الأفكار بالمصلحة يجعل العملية معقدة وغير قادرة على إيجاد نظرية مجدية، وبالتالي توأد الرغبات في مهدها، مهما تمسك بها مصدر القرار فإنها تتحول إلى فقاعات وقتية تبحث عن أي ثغرة للتشكيك في مكونات الواقع .. وعندها مهما زاد عدد القواعد الممجدة للأفكار القادمة فإن تأثيرها يظل محدوداً ولا يخرج عن نطاق العقول التي استساغت ثقافة الانقياد الطوعي .. وهو ما يعمق التنافر والخصام ويلغي ذهنية التناغم والمشاركة الفاعلة نتيجة الخلط الفاضح بين الانتماء والهوية والتفاعل مع مكوناتهما، وبين رغبات وحدود وأهداف الإصلاح في ملفات الآخر.
وحتى لا يصبح المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات فإن المطلوب ترجمة المكونات الوطنية واحترام الإرادة الذاتية للشعوب .. وتلك هي الوسيلة الوحيدة لإثبات تجارب إصلاحية جديدة في الشكل والمضمون.
نقلاً عن الثورة

تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 01:27 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/7593.htm