قراءات في مسيرة الوحدة
البحث عن الوحدة!
بقلم: نصر طه مصطفى
منذ تكريس التشطير عند إعلان استقلال الجنوب اليمني في 30 نوفمبر 1967م ظل تحقيق الوحدة اليمنية حلماً لدى كل القادة الذين توالوا على حكم الشطرين، فتم التوقيع على اتفاقيتين وحدويتين في عهد القاضي عبد الرحمن الإرياني، وسالم ربيع رئيسي شطري اليمن عام 1972م عقب الحرب الحدودية بينهما.. ثم جاء الرئيس إبراهيم الحمدي الذي نجح في إقامة علاقات وثيقة مع الجنوب دفع حياته في النهاية ثمناً لها، خصوصاً بعد ما شاع أنه سيوقع إنفاقات وحدوية هامة عند زيارته لعدن في 14 أكتوبر 1977م، وتم اغتياله قبلها بثلاث أيام.. بعد ذلك تمت تصفية رئيسي الشطرين أحمد الغشمي وسالم ربيع علي في ثلاثة أيام متتابعة بسبب نجاحهما في فتح خطوط تفاهم جيدة بينهما بهدف حل الاشكالات العالقة بين الشطرين، وتحجيم حركة المعارضة الماركسية المسلحة ضد الشمال والمدعومة من الأجنحة المتطرفة في نظام عدن التي قامت بترتيب عملية اغتيال الرئيسين.
ومع مجيء الرئيس علي عبد الله صالح إلى السلطة كانت العلاقات بين الشطرين في أقصى حالات التوتر، وظلت تتصاعد حتى انفجار الحرب بينهما في فبراير 1979.. التي تم محاصرتها بمبادرة عربية تكللت بانعقاد قمة بين الرئيسين علي عبد الله صالح، وعبد الفتاح إسماعيل في الكويت، وقعا في نهايتها على اتفاقية وحدوية جديدة، كانت هي بداية التعامل المباشر مع قضية الوحدة اليمنية من قبل الرئيس صالح.
وطوال الفترة من مارس 79 إلى إبريل 80 لم يلتق الرئيسان إلا مرة واحدة أثناء القمة العربية في تونس، إذْ لم يكن هناك بينهما أي انسجام شخصي، على عكس العلاقة التي جمعت الرئيس صالح بالرئيس علي ناصر محمد الذي اختاره النظام في عدن خلفاً لعبد الفتاح إسماعيل في إبريل 1980م كأمين عام للحزب الاشتراكي ورئيس للدولة. فمنذ مجيء علي ناصر إلى السلطة بدأت العلاقات تأخذ منحى جيداً بين الشطرين خصوصاً مع حماس هذا الأخير لتحجيم الدعم المالي والعسكري الذي اعتاد نظام عدن تقديمه للجبهة الوطنية الديمقراطية المعارضة للشمال.. وقد رتب الرئيس علي عبدالله صالح استقبالاً كبيراً لعلي ناصر لدى زيارته الأولى لصنعاء في يونيو 1980 كرئيس للجنوب، وفي غمرة المواجهة العسكرية مع الجبهة الوطنية المعارضة في عام 1981، كانت التحضيرات تجري على قدم وساق للترتيب لأول زيارة يقوم بها رئيس شمالي للجنوب. وكانت تلك مخاطرة شديدة ومغامرة بكل معنى الكلمة في ظل الصرع القائم بين أجنحة النظام في عدن التي كانت مختلفة فيما بينها على مسألة دعم المعارضة الشمالية، والمعارضة العمانية، ومسألة التقارب مع دول الجزيرة والخليج.. لكن الرئيس علي عبدالله صالح صمم على القيام بزيارته المحددة إلى عدن رغم كل التحذيرات والتذكير بالمصير الذي لقيه سلفه إبراهيم الحمدي..
ففي مناسبة عيد الاستقلال (30 نوفمبر 81) توجه صالح إلى عدن مستصحباً معه قوة عسكرية، وأمنية ضاربة، وقد احتفى به المواطنون هناك كما احتفى به علي ناصر محمد الذي اعتبر الزيارة تعزيزاً لموقفه في مواجهة الأطراف المتشددة داخل الحزب الحاكم.. وفي تلك الزيارة تم إنجاز خطوة وحدوية جديدة بالاتفاق على تشكيل المجلس اليمني الأعلى الذي يرأسه رئيسا الشطرين، ويختص بمتابعة تنفيذ بنود اتفاقيات الوحدة، كما تم الاتفاق على تشكيل لجنة وزارية مشتركة للإشراف على تنفيذ المشاريع المشتركة.
وهكذا سارت العلاقات بين الشطرين في مسار جيد ومعقول رغم التوترات التي كانت تطرأ بين الحين والآخر، وقد كان الرئيسان يحرصان على احتوائها فوراً بلقائهما إما في صنعاء، أو في عدن.
ومع أن علاقتهما كانت جيدة إلا أنهما لم يتقدما خطوة أخرى باتجاه إنجاز الوحدة رغم الانتهاء من إعداد مشروع الدستور لدولة الوحدة في ديسمبر 1981م. ومن المؤكد أن ذلك يرجع لأسباب داخلية، وخارجية، وبالذات في ظل استمرار نفوذ الاتحاد السوفيتي، والخلافات داخل صفوف الحزب الاشتراكي الحاكم في عدن حول وسائل واستحقاقات إنجاز الوحدة، وموقع الحزب من الدولة الجديدة..
لكن هذا الموضوع لم يكن السبب الوحيد للخلاف داخل الحزب الاشتراكي، وهي خلافات ظلت تتفاقم ووصلت ذروتها بتقاسم السلطة والنفوذ داخل المكتب السياسي، واللجنة المركزية للحزب الاشتراكي عقب انعقاد مؤتمره العام الثالث في أكتوبر عام 1985م والذي كان بمثابة هدنة مؤقته استعداداً للحسم النهائي بين طرفي الخلاف.
وفي ديمسبر من نفس العام وصل علي ناصر محمد إلى صنعاء عائداً من جولة خارجية، وكان برفقته وزير الحكم المحلي –حينذاك- علي سالم البيض.. ويعتقد العديد من المراقبين أن علي ناصر تشاور مع الرئيس صالح في المشكلة التي يواجهها داخل الحزب ويقال إنه كشف له سراً عن نواياه في التخلص من خصومه طالباً الدعم من الشمال في حسم الأمر.. ورغم التعاطف الواضح من قبل علي عبدالله صالح مع علي ناصر، إلا أنه ليس هناك ما يؤكد مستوى الالتزامات التي قدمها لهذا الأخير، وبعد أسبوعين من تلك الزيارة انفجر الموقف داخل عدن في 13 يناير 1986، تم الإعلان عن إعدام القيادات الرئيسية في الحزب، وهم عبد الفتاح إسماعيل، وعلي عنتر، وصالح مصلح، وعلي شايع هادي، فيما اتضح أن علي سالم البيض نجا، بينما كان حيدر العطاس رئيس الوزراء في زيارة للهند، ثم تبين لاحقاً أن عبد الفتاح إسماعيل لم يقتل في ذلك اليوم، وأن تصفيته تمت لاحقاً.. وارتبكت كل الأطراف الخارجية المعنية بالحدث بدءاً بالنظام في صنعاء، وانتهاء بالاتحاد السوفيتي، وانتقل الرئيس صالح إلى مدينة تعز القريبة من الحدود مع الجنوب، لمتابعة الحدث ووجه خطاباً إلى أطراف النزاع بوقف القتال، وحذر من أي تدخل خارجي في الأزمة القائمة، ورفض إقحام الشمال في الصراع الدائر.. وبعد أكثر من أسبوع كان الأمر تم حسمه بهزيمة جناح الرئيس علي ناصر محمد، وخروجه مع جميع أنصاره إلى الشمال، فيما انتقلت السلطة في عدن إلى قيادة جماعية تمثلت في علي سالم البيض-كأمين عام للحزب- وسالم صالح محمد –كأمين عام مساعد- وحيدر العطاس-كرئيس للدولة والبرلمان- وياسين نعمان-كرئيس للوزراء. وأصيبت العلاقات بين الشطرين بالجمود وكان القادة في عدن يشعرون بأن صنعاء تتحمل قدراً من المسئولية في الصراع الذي جرى وهكذا توقفت كل الاتصالات. إلى أن بادر الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بدعوة الرئيسين علي عبد الله صالح وحيدر العطاس للقاء في طرابلس، وذهب الرئيسان عقب الهجوم الأمريكي على ليبيا وقصف منزل القذافي، في صيف 1986م، إلاّ أن اجتماعهما لم يتوصل إلى نتائج محددة، وهكذا عاد الجمود يسود العلاقات بين الشطرين لأكثر من عام، حتى نجحت الاتصالات الهادئة البعيدة عن الأضواء في الترتيب لأول قمة بعد الأحداث عند زيارة أمين عام الحزب الاشتراكي علي سالم البيض إلى صنعاء في صيف 1987م، حيث كسر ذلك اللقاء جمود العلاقة بين الطرفين، ونجح علي عبد الله صالح في اكتساب ثقة البيض، وإقامة علاقة شخصية جيدة معه رغم ما عرف عن هذا الأخير من تقلب في طباعه ومزاجه.
وأخذت العجلة تدور من جديد، ففي العام التالي 1988م، وقَّع صالح والبيض على اتفاق يقضي بالسماح للمواطنين التنقل بين الشطرين بالبطاقة الشخصية بدأ تنفيذه بالفعل على عكس الاتفاقات المشابهة التي تم توقيعها في فترات سابقة.
وجاء عام 1989م، الذي كان عاماً حاسماً على كل الأصعدة،، فقد تم تأسيس التعاون العربي الذي ضم إلى جوار اليمن الشمالي كلاً من مصر والعراق والأردن، في نفس الوقت الذي أخذت أنظمة الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، فيما أخذ النظام في عدن يعاني من عزلة شديدة، وحيرة كبيرة إزاء التعامل مع المتغيرات الكبرى إقليمياً وعربياً ودولياً.. إذ كان نجم الرئيس علي عبدالله صالح يواصل الصعود في المنطقة، وقد أعطته مشاركة اليمن في تأسيس مجلس التعاون العربي ثقلاً واضحاً، كما كان يتمتع بعلاقات جيدة مع بقية الدول العربية ومع الولايات المتحدة التي وجهت له الدعوة لزيارة البيت الأبيض في يناير 1990م، ومع دول أوروبا الغربية، وقد أدرك الرئيس صالح بحسه السياسي المرهف أن الفرصة التاريخية قد حانت لشن هجومه الدبلوماسي السياسي لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وبدأ بالفعل من الثلث الأخير من عام 1989م، في عرض الخيارات المختلفة أمام قيام الحزب الاشتراكي من الكونفدرالية مروراً بالفيدرالية وانتهاء بالاندماج الكامل، ثم قرر القيام بزيارة الجنوب للمشاركة في احتفالات عيد الاستقلال فخرجت الجماهير بشكل تلقائي لاستقباله ومطالبته بإنجاز الوحدة.. وفي لحظة تاريخية فريدة اتفق صالح والبيض على تجاوز كل الصيغ والشروع في إجراءات الوحدة الاندماجية، وبدأ العد التنازلي وانقلبت الساحة السياسية في الشطرين حينذاك انقلاباً كاملاً.
http://22may.almotamar.net/showdetails.php?id=71