الدكتور نجم يروي قصة ضريح رمز في مثل هذا الشهر، كانون الاول (ديسمبر) 2000 كنت حينها في زيارة للوطن .. وبين الأهل في مدينة بنغازي تحديداً .. وكانت العادة ككل يوم تقريباً أن أبكر في الصباح متجهاً صوب وسط البلد قاصداً في أغلب الأحيان دار الكتب الوطنية، حيث الأحبة ممن أشاركهم هم البحث والشغل في التنقيب والكتابة .. لتبادل الأخبار والأفكار .. وكانت السيارة التي استقلها تنزلني أمام الضريح الذي غادره صاحبه، ولكنه بقي رمزاً له، وللمدينة الذي سُجي فيها، علي الرغم من أنه ليس منها ولم يولد أو حتي يترعرع فيها، ولكن قدره أن يُكرم بالشهادة في ضواحيها، فتعشقه هذه المدينة وأهلها، وهذا ليس غريبا علي بنغازي، فهي رباية الذايح ، ومدينة الجميع بامتياز، فأصبح عمر المختار ـ الملحمة والضريح ـ رمزاً لها وللوطن، اللذين يسكناه. وذات يوم أصبحت كبقية أيامي، واتجهت نحو مرادي، وإذ بي أنزل في ساحة دمار، وإذ بالجميع مصاب بالهول والذهول، والكل يتسأل: ماذا حدث لسيدي عمر ولضريحه، فقد أصبح في ليلة ظلماء نسياً منسيا؟ لقد دمر ليلة البارحة الضريح، وإذا ببنغازي تتوشح بالسواد حزناً علي هدم الضريح، فأسرعت لأري صديقا عزيزا علي، وإذ بي ألتقيه علي سلالم العمارة، فقلت له: أريدك. فقال لي في نبرة حزينة، والعبرة تخنق صوته: أنا ليس لدي ما أقول اليوم .. وعلل ذلك بالقول: هل رأيت ما فُعل بضريح سيدي عمر ؟.. أنا ذاهب إلي البيت لأبكي حالي .. الرجاء أن تعفيني اليوم. وذهب بدون أن يعيرني أي اهتمام. واستغربت منه ذلك طالما رجاني في اللقاء والمسامرة، ولكنني تفهمت ذلك وقررت أن أبحث في قصة هذا الضريح ومدي تأثيره علي الوطن والمدينة والأهالي. قصة الضريح قصة الضريح ولدت من رحم المعاناة والملاحم التي خاضها الأجداد والآباء ضد الغزاة الطليان، فبعدما قبض علي الشيخ عمر المختار، رمز الجهاد، يوم 11 ايلول (سبتمبر) 1931م وسقط أسيراً في معركة عندما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة سلنطة في كوكبة من فرسانه. عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه، فأرسلت قوات لحصاره، ولحقتها تعزيزات، واشتبك الفريقان في وادي بوطاقة، ورجحت الكفة للعدو، فأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق، ولكن قُتلت فرسه تحته، وسقطت علي يده، مما شل حركته نهائياً. فلم يتمكن من تخليص نفسه، ولم يستطع تناول بندقيته ليدافع بها عن نفسه، فسرعان ما حاصره العدو من كل الجهات، وتعرف علي شخصيته، وخير من يخبرنا عن هذه الحادثة هو الشيخ سعيد جربوع، الذي كان مع عمر المختار، والذي حدثني شخصياً عنها فقال: عندما حوصرنا في وادي بوطاقة بعد زيارة قمنا بها إلي سيدي رافع، وكنا قرابة الخمسين فارساً، فحاصرنا الطليان في ذاك الوادي الضيق، وبدأ الرصاص يحصد رجالنا بعد نفاد الذخيرة، طلبت من سيدي عمر المختار علف (ذخيرة)، فأعطاني 3 أمشاط، وبعد نفادها رجعت فأعطاني 3 أمشاط أخري، وكنت حينها بصحبة كل من حسن العرج وعبد العاطي بوبعيدة وهما من قبيلة الحاسة . وأضاف الشيخ سعيد قائلاً: عندما وقع سيدي عمر علي الأرض، كان بيني وبينه مسافة لا تزيد عن ثلاثة أمتار . هذا وقد أصيب الشيخ سعيد في يده اليمني، وقد عاينت جرحه بنفسي، ثم استطرد قائلاً: حاولنا مع بقية الرفاق فك أسر سيدي عمر المختار ولكن بدون جدوي، وحاول البعض في ضباب المعركة فعل ما فعله مفتاح قويرش الحاسي، الذي رفض مغادرة سيدي عمر واهتزج مغنياً: دمي رايب عند الشايب ، حتي سقط مضرّجاً بدمائه شهيداً، وقد سبقه إلي الشهادة مدافعاً عن عمر المختار عوينات العقوري، ليكون أول شهيد في تلك المعركة . يقول الشيخ: رجعت إلي سيدي عمر المختار لأراه، واستلهم منه الأوامر، فقال الشيخ لسعيد جربوع: عدّوا يا ضناي، هذا يومٌ لا لي ولا لكم ، وهذه الكلمات بمثابة الأوامر الأخيرة من عمر المختار لرجاله، كما روي الشيخ سعيد جربوع. وعندما سقط عمر المختار في الأسر كان حينها عمر الشيخ سعيد جربوع 20 سنة. ونقل الشيخ الأسير علي الفور إلي مرسي سوسة، ومن ثم وضع علي طراد الذي نقله رأساً إلي بنغازي، حيث أودع السجن الكبير بمنطقة سيدي اخريبيش. ولم يستطع الطليان نقل الشيخ براً لخوفهم من تعرض المجاهدين لهم لتخليص قائدهم. ومن ثم أجريت له محكمة صورية هزيلة نصبت فيها أعواد المشنقة قبل نهاية المحكمة، مما يدلل علي أن عدالة إيطاليا قررت إعدام الشيخ البطل قبل أن تأخذ مجراها. وبالفعل أحضر الأسير مكبلاً بالأغلال يوم 15 ايلول (سبتمبر) من نفس العام إلي المحكمة، ونطق فيه بحكم الإعدام الذي قابله الشيخ بثبات وازدراء، ومن ثم نقل اليوم التالي إلي قرية سلوق التي تبعد عن مدينة بنغازي 50 كيلومترا ليعلو شامخاً صبيحة ذاك اليوم الأسود علي الأهالي، الذين أحضروا بالقوة ليروا مشهد التشفي من البطل الرمز، ولكن ما زادهم ذاك اليوم والمشهد إلا قوة وثباتا كما أثبتت الأيام فيما بعد. وبعدما قام عبد السلام التاورغي الملقب بـ اللونقو4 (وكان عبداً مأموراً) بتنفيذ حكم الإعدام بالشيخ الرمز، وفارقت روحه الطاهرة جسده العطر، أخذه الطليان علي وجه السرعة إلي مقبرة سيدي عبيد التي تقع شمال شرق مدينة بنغازي، وسلم إلي القيّم (عبد الله الأحمر)، ومن ثم ليواري الثري في سرية تامة وكاملة. اكتشاف القبر أما قصة اكتشاف عمر المختار في مقبرة سيدي عبيد فقد تعددت فيها الروايات، ولكن ما وثق منها هو ما نقله أحمد الفيتوري عن الدكتور مهدي المطردي أحد مؤسسي جمعية عمر المختار فكتب: لقد أسست - قبل هذه الجمعية (عمر المختار) - جمعية الصابري وذلك عام 1935، وعملنا (مهدي المطردي ورفاقه) منذ ذاك علي معرفة قبر شيخ الشهداء عمر المختار الذي دفن في مكان لم نعلمه، فقد دفنه الإيطاليون عقب إعدامه في مكان خفي بمقبرة سيدي عبيد ـ أزيلت المقبرة في السنوات الماضية القريبة، وبالتالي معالم قبر الشيخ، واكتشفت آثار مدينة بنغازي القديمة يوسبريدس - في الصابري ببنغازي، وذلك عام 1931 وقد حاولنا معرفة القبر دون جدوي، فذهبنا إلي الشيخ مصطفي المدلقم الذي علمنا أنه هو الذي أنزل جثمان الشيخ لقبره، وإن القبر قد أغلق بالاسمنت المسلح، وكان المدلقم شيخ زاوية بن عيسي وجارنا، طالباً منا إخفاء الأمر خوفا من بطش الإيطاليين، طمأناه، فقال: سوف أذهب إلي المقبرة غداً، وعند قبر سيدي عمر سوف أسقط جردي عباءته البيضاء علي القبر ثم أذهب. ذهبنا إلي المقبرة علي الأرجل كأننا نزور القبور، من بعيد شاهدنا سقوط جرد الشيخ مصطفي المدلقم . الضريح وحسين مازق زادني ما نقله السيد الفيتوري إصراراً علي المزيد من التنقيب، وبهذا لم يقف شغفي بالقصة وبحثي هنا عند شهادات العيان، بل أردت أن أسمع من الجهات الرسمية المتمثلة في رجال الدولة آنذاك، وليس هناك خير من السيد حسين مازق والي برقة نفسه أن يخبرني بهذه القصة إذا ما أسعفته الذاكرة، وبالفعل توجهت نحو بيت حسين باي مازق، الذي يبعد مسافة دقائق لا تتجاوز العشرين في أحسن الأحوال من الضريح لأسمع منه قصة هذا الضريح الذي اكتشف وبُني في عهد ولايته لبرقة، وإقامته في حاضرتها بنغازي. فعندما وصلت إلي بيت السيد حسين مازق، وفاتحته في الموضوع بين جملة من المواضيع التي سألته عنها عندما كنت أبحث معه تاريخه وسيرته المخضرمة، استغرب مني تطرقي المفصل لقصة ضريح الشهيد الرمز، لأنها كانت بمثابة الوتر الحساس له، لما لعمر المختار ونضاله صلة وطيدة بحسين مازق الطفل، وابن المجاهد، ومن ثم والي برقة التي كرمت عمر المختار، واختارت حاضرتها بنغازي لتحتضن رفاته الشريف. قال السيد حسين مازق سارداً عليّ قصته مع عمر المختار بطلاً أسطورياً وضريحاً: من الذكريات التي طُبعت في عقل السيد حسين مازق، واحدة من أيام الصبا، والأخري في أيام الكهولة. وهما ذكريان عزيزتان لهما علاقة بالجهاد والمجاهدين، وخاصة شيخ الشهداء عمر المختار. فالأولي كانت تلك الزيارة التي قام بها الشيخ عمر المختار إلي ضريح سيدي رافع الأنصاري في البيضاء. فأخبرني شخصياً حسين مازق بأنه التقي الشيخ عمر المختار وعمره لم يتجاوز 11 سنة عندما كان في زيارة سيدي رافع الأنصاري في كوكبة من حوالي 30 فارسا. ثم دخل مع 7 من رفاقه المقربين إلي داخل قبة الضريح ليقرؤوا الفاتحة علي سيدي رافع، وكنا حينها أطفالا مصطفّين أمام الضريح، وكلنا انبهار وإعجاب بهذا العجوز الأسطوري وفرسانه الصناديد. وفي الليل جاء لزيارتنا كل من عمي بوشديق، وعمي عروق، والشيخ خالد الحمري. وبعدها في اليوم الثاني اجتمع الشيخ عمر مع وجهاء المنطقة من مشايخ القبائل، وإخوان السنوسية، وكان من بينهم عمي المجاهد بوشديق مازق، وجلس سيدي عمر المختار والفرسان السبعة عن يمينه. وأحسب أنه كان من بينهم كل من يوسف بورحيل، والفضيل بوعمر، وعبد الحميد العبار .. فأشار إليّ الشيخ خالد الحمري، أحد الإخوان السنوسيين، مخاطباً سيدي عمر: ألم تعرف ذاك الولد (حسين مازق) يا سيدي عمر؟ فرد الشيخ عمر: لا والله. فقال الشيخ خالد: هذا ابن يوسف بومازق بوبكر حدوث. فطلبني سيدي عمر، وقال لي: اقترب يا ولد. فقفزت بين يديه، وسلمت عليه وقبلت يده، وسألني عن حال والدي، وعن أمي مرضية البرعصي التي ذكرها هكذا بالاسم. أما الذكري الثانية فقد كانت في كهولتي مع الشيخ عمر المختار عندما كنت والياً لبرقة في نهاية الخمسينيات. فبسقوط الشيخ القائد عمر المختار في الأسر بعد معركة عين لافو في وادي الطاقة قرب سلنطة يوم 11 ايلول (سبتمبر) 1931، وأخذ أسيراً إلي سوسة، ثم نقل وأعدم في بنغازي، ودفن في جبانة سيدي عبيد في قلب مدينة بنغازي مساء 16 ايلول (سبتمبر) 1931، حيث أبقي الطليان علي قبر سيدي عمر في سرية حتي لا يصبح مزاراً لليبيين. فأُخبر السيد حسين مازق بأن قبر سيدي عمر يعرفه بعض الناس، وهو موجود في مقبرة سيدي عبيد. فكلف علي الفور السنوسي الفزاني الذي كان مسؤولاً عن الأمن العام في المدينة من التحقق من صحة المعلومات . بناء الضريح ورأي السيد حسين أن هذه الفرصة هي الأفضل لتكريم شهدائنا الليبيين، وعرفاناً بالجميل لمن هم علي قيد الحياة منهم. فتعاقدت حكومة الولاية مع السيد عبد الله عابد السنوسي لبناء الضريح الذي كلف قرابة 20 ألف جنيه، وكان ذلك المبلغ كبيرا جداً علي ميزانية رقة الفقيرة. ولكن حسين باي قال: نحن مدينين للشيخ عمر المختار ورفاقه، هؤلاء الأبطال المنسيين، ولن نستطيع أن نوفيهم جهادهم من أجلنا مهما دفعنا . ويستطرد قائلاً: إنه لشرف ما بعده شرف أن أقوم أنا شخصياً بالإشراف علي هذا اليوم الموعود الذي ينقل فيه جثمان سيدي عمر الطاهر إلي قصره الجديد، ولكي نتذكرهم دائماً ليس أفضل من هذا الضريح الذي سيصبح شاهداً علي جرائم حضارة إيطاليا، واستبسال وتضحية الأجداد والآباء . وتم نقل جثمان الشيخ عمر المختار من مقبرة سيدي عبيد، وأمسي ليلته مسجياً مكرماً معززاً في مقر البرلمان، الذي كان يوماً ما مسرحاً لديمقراطية الفاشست العنصرية، التي أنكرت علي عمر المختار الحرية والعيش الكريم في وطنه. وفي 7 آب (أغسطس) 1960 صلي عليه أعيان البلاد صلاة الجنازة، حيث أمّهم فضيلة الشيخ عبد الحميد الديباني، ثم تناولته سواعد أهله ورفاقه المجاهدين، فرفعوه شامخاً عالياً علي أكتافهم وخرجوا به إلي الملأ، وكان في مقدمتهم رفاقه المجاهدون عبد الحميد العبار وحمد بوخير الله البرعصي وصالح امطير العبيدي، والتواتي عبد الجليل المنفي، وعلي امبارك اليمني، وأبناء أخيه سالم وأحمد. ووضعوه علي عربة ليشق مدينة بنغازي في طريقه إلي ضريحه، وهم يمشون من خلفه، كما كانوا يرافقونه في دروب الجهاد. واصطفت بنغازي ومعها ليبيا علي قارعتي الطريق في آلاف من المودعين، أو بالأحري المرحبين بشيخ الشهداء وأسد الصحراء الذي أشعلها حربا ضروسا ضد أبناء إيطاليا من أجل دينهم وكرامتهم. وعاشت البلاد أياماً تستحضر فيها ذكريات مريرة، وتذكر الأهالي شهداءهم، وبكي الكثير في ذلك اليوم، خاصة أولئك الذين كان آخر لقائهم بالشيخ عمر المختار وهو مشنوقا معلقاً علي أعواد الهمج، وها هم يرونه وقد خرجت الأمة لتحييه تحية الأبطال. وألقي السيد حسين مازق خطاباً ارتقي به إلي مقام المناسبة، مؤبناً شيخ الشهداء بميدان البرلمان مخاطباً الرمز المسجي .. ومن جملة ما قاله: إن الإيمان يملأ نفوسنا بأنك حي ترزق، وأنك معنا في هذه المناسبة التي نشترك فيها ليشهد نقل جثمانك الطاهر، وأنت ترقب دنيا الخلود، هذا الجمع الحافل الذي يضم الباقين من رفاقك يحيط بك الآلاف من أبناء شعبك، ويظلك العلم المقدس الذي استشهدت في سبيله . الضريح الرمز وغدا الضريح بعدما سكنه صاحبه في السابع من آب (أغسطس) عام 1960م مزاراً لكل من أراد أن يتذكر محنة شعب وملحمة ابتلاء .. فتقاطرت عليه الأفراد والوفود من كل حدب وصوب لقراءة الفاتحة علي ذاك العجوز الأسطوري، والانحناء أمامه إجلالاً وتقديراً .. فلعلمي زاره أغلب الساسة الليبيين، ولكنني لم أجد ما يؤيد أن السيد إدريس السنوسي أميراً أو ملكاً قد زار قبر الشهيد عمر المختار في مقبرة سيدي عبيد، أو في ضريحه فيما بعد. وهذا أكده لي كل من عرف السيد إدريس عن قرب، ومن بينهم ياوره الخاص عبد الله عبد الكريم البرعصي الذي رافقه من 1959 إلي 1969، ومما لا شك فيه أنه في عهده بني الضريح، وغدا رمزاً للوطن، وللأمانة أيضاً أنه لم يصلني مما مررت عليه من الكثير من الوثائق والصور أن السيد إدريس ـ أميراً أو ملكاً ـ قد زار قبر أبيه السيد محمد المهدي في زاوية التاج في الكفرة، أو المراقد السنوسية في الجغبوب، كجده السيد الإمام محمد بن علي السنوسي، وعمه السيد محمد الشريف، أو نساء آل السنوسي، ولم يحضر الملك إدريس حتي دفن السيد صفي الدين السنوسي الذي أحضر جثمانه من القاهرة ليواري الثري في الجغبوب عام 1967. وإذا كان الضريح قد بني في عهد الملك إدريس السنوسي، فإن العقيد معمر القذافي قد ولع بعمر المختار وسيرته أيضاً حتي أن أول ظهور له علي المسرح السياسي وطنياً ودولياً كان يوم 16 ايلول (سبتمبر) 1969، أي في ذكري استشهاد عمر المختار وبالقرب من ضريحه في بنغازي. كنت حينها في الصف الأول ابتدائي وقد أحضرنا إلي ذلك الحفل الصاخب في المكان المهيب، ولم نعرف ماذا جري، وماذا يجري، ورأيت ـ وللمرة الأولي ـ ذلك المرقد الشامخ والباسق في ارتفاعه، وجلال وعظمة تصميمه، بأضلعه الثمانية، ومرت علينا سيارات الجيش، وإذ بالعقيد الفتي يرفع يده محيينا بابتسامة، وأنا وأقراني في ذهول من تلك المناظر التي منعت حداثة سننا فهمها. وتذهب الأيام بنا مرة أخري، وإذ بنا نُحضر ثانية وقد تجاوزنا سنوات الابتدائية والإعدادية لنصبح طلاباً بمدرسة بنغازي الثانوية، وفي يوم 16 ايلول (سبتمبر) 1980 تأتي بنا الحافلات وتلقي بنا حول الضريح، ولم نكن نعرف السبب أو الحدث، ولكننا أطبقنا علي مرقد البطل الشهيد كطبق السوار علي المعصم ننتظر، وإذ بالعقيد القذافي يطل علينا ثانية، وكأن قدرنا أن لا نراه إلا أمام هذا الضريح، ولكن هذه المرة معه ضيوفه، والذين برز منهم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات لحماً وشحماً بكوفيته الشهيرة التي أصبحت رمزاً لمظلومية شعبنا في فلسطين - كما هو هذا الضريح لنا نحن أهل ليبيا ـ والرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس اليمني علي عبد الله صالح، والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. وكنت حينها من الطلاب الذين كانوا علي مقربة من الضريح، ولم أكن أعرف ماذا سيحدث بعد دقائق، وإذ بهؤلاء القادة يخرجون علينا، وأمامهم عمر المختار نعشاً مرفوعا علي الأكتاف. وللدهشة لم نتساءل لأنه لم يكن يخطر بالبال بأن عمر المختار سينقل، واعتقدنا أنه أحد رفاقه، فلم يمض علي وفاة المجاهد عبد الحميد العبار إلا ثلاث سنوات، ولكن أخبرنا فيما بعد أنهم نقلوا الشهيد الرمز عمر المختار إلي ضريحه الجديد في بلدة سلوق، وهو المكان الطبيعي الذي يفترض أن يكون قد دفن فيه لأنه قتل هناك. وهنا تساءلنا ببراءة: لماذا لم ينقل إلي عاصمة البلاد طرابلس، حتي يكرم أكثر، أو إلي مسقط رأسه في زاوية الجنزور بالبطنان. تساؤلات وتساؤلات ولكن لا مجيب. وبالفعل نُقل عمر المختار جسداً، ولكنه بقي رمزاً متمثلاً في ضريحه، علي الرغم من أن المسؤولين أرادوا أن يغيروا اسم الضريح من عمر المختار إلي ضريح الجندي المجهول ، ولكن عمر المختار بقي، ولا زال صامداً راسخاً في عقول الناس، علي الرغم من هدم مرقده كما كان في حياته وفي عناده لعنت وظلم الاستعمار. عائلة الشهيد والضريح أما قصة الضريح كما تراها عائلة عمر المختار فهي ما أخبرني به الحاج محمد صالح ابن الشيخ الشهيد عمر المختار الوحيد في لقاء أجريته معه وكذلك ذلك الحوار الذي أجراه معه الصحافي اللامع الأستاذ خالد المهير حين قال: علاقته بالسنوسية (الفيلم كلف 27 مليونا) الملك أمر ببناء الضريح لعمر المختار، في بنغازي (اللي أزالوه) وكلف معنا وزير العدل عبد الحميد الديباني، طلعنا رفات عمر المختار، واحضروا سيارة مكشوفة وكان هذا في سنة 59، ووضعنا عليه العلم، وبيتوه في مجلس النواب ببنغازي، وثاني يوم نظموا موكب كبير، وزراء، ونواب، وشيوخ، والمجلس التشريعي، والوالي، والحكومة الاتحادية والولايات، حضروا نقلة عمر المختار، من مجلس النواب، ثاني يوم في المساء، ووضعوه في الضريح، وصار التأبين من رئيس مجلس الوزراء. في الثمانينات عند الساعة 12 في الليل، فتحوا القبر، ثاني يوم حضر إلينا إبراهيم بكار، وكنا مجتمعين في بيتي، والقذافي قال ما ننقل الرفات حتي يحضر ولد عمر المختار، في الأول رفضنا، ثم حضر إبراهيم بكار مرة أخري، ذهبت معهم، وجدت حافظ الأسد، وياسر عرفات، وواحدا من لبنان، وواحدا من اليمن، وشخصا من القوات المسلحة قال لي (كنك عطلت العقيد، قلت له مش شغلك تريح أنت) كنت زعلانا ومتأثرا لنقل الرفات، واللي أثرتنا أكثر هدم الضريح، الليبيين كلهم تأثروا، خاصة سكان بنغازي، هنا كان الزوار يضعون الورد علي الضريح، ويكتبون في سجل التشريفات، لكن الآن لا يذهبون إلي سلوق ـ تهديم الضريح أثر فينا واجد ـ في مصر وإيطاليا يسألوني علي نقل الرفات، انقول لهم عمر المختار خرجت روحه في سلوق، هذا الرد عليهم، كل شيء بأمر الله، التاريخ (قاعد ما يرحم حد، يسجل لك وعليك، وتاريخ عمر المختار معروف). الضريح الرمز أستطيع أن أفهم هذا الولع بعمر المختار من قبل العامة والساسة بمختلف مشاربهم ومدارسهم الأيديولوجية، ولكن نحتاج إلي وقفة مع مفهوم الرمزية .. ولماذا أصبح عمر المختار رمزاً للوطن وما بعده. دعيت من قبل دار الحكمة البحرانية في شهر محرم في إحدي السنوات التي خلت، حيث يحتفل الشيعة بذكري استشهاد الحسين بن علي، وطلب مني أن أتحدث بالمناسبة عن مفهوم وأبعاد الاستشهاد عند عمر المختار. وبعد المحاضرة جاءني الصديق الذي قدمني ليقول لي: يا ليت - نحن البحارنة - عندنا شهيد مثل عمر المختار لنحتفل به كما نحتفل مع بقية إخواننا (الشيعة خاصة) بذكري استشهاد الحسين . توقفت عند ذلك لأتأمل معاني تلك الكلمات، وتأثير عمر المختار عبر الفيلم الذي أشهره في الأصقاع، وقلت للنفس إن عمر المختار رمز تجاوز الحدود والمذاهب والأيديولوجيات السياسية .. حتي إن بعض القوميين العرب شبه وقوع صدام حسين في الأسر بوقوع عمر المختار في الأسر، فاحتج الدكتور إبراهيم الجعفري (الذي أصبح لاحقاً رئيساً لوزراء العراق) علي هكذا مقارنة، معللاً بأن عمر المختار دخل قلوب المسلمين، واستحوذ عليها .. فيا تري لماذا غدا عمر المختار رمزاً ؟ امتاز عمر المختار عن غيره من المجاهدين، ومن ثم الشهداء بأنه ألهب مشاعر الليبيين والعرب والمسلمين والإنسانية بمظلوميته بالدرجة الأولي. ثم إنه جسد الصمود والتحدي والصبر علي الرغم من المعاناة التي تجشمها، وكان يعيشها واقعاً مريراً بين إخوانه المجاهدين والأهالي الذين زج بهم في المعتقلات والسجون، ناهيك عمن ووري الثري صابراً محتسباً. ومع هذا كله بقي عمر المختار شامخاً يرفع أسمي معاني الكرامة والأنفة في وجه الظلم والاستبداد، وهو بذلك ينقل لنا صوت من فُقد صوته في أزيز المعارك، أو خلف الأسلاك الشائكة ممن بقي في صدره شيء من النفس. وفي الصدد نفسه قيل أن أحد مشايخ قبيلة البراعصة بعد استشهاد عمر المختار جاءه المتصرف الإيطالي يسأله عما يحتاجه هو ورهطه فطلب منه شيئا أزعج الحاكم الفاشي عندما قال: لا نريد شيئاً إلا أكفانا بيضاء فقط، فإننا نحن معشر المسلمين نكرم أمواتنا بدفنهم بعد الموت، ونحن قد قررنا الموت لأننا لا نستطيع العيش في هكذا ذل وهوان. فانصرف ذلك المتغطرس بنشوة نصره، ولا يدري أنه في حقيقة الأمر يجرجر خلفه خيبة نصره الموهوم. وأمر علي الفور بأن يؤتي بالدقيق والماء وما لزم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأهالي من الموت. وباستشهاد عمر المختار بالطريقة والصورة التي قررتها إيطاليا تكون قد جعلت منه رمزاً لنا، والمقصود بـ لنا كل من يري في نفسه أنه قد أصابها شيء من العنت والظلم والإساءة، وهذا لم يقتصر علي الوطن، وإنما تجاوز ذلك الحدود القطرية، ولكن يبقي عمر المختار باستشهاده رمزاً للوطن. مفهوم الرمز والرمزية وفي مفهوم الرمز والرمزية كتبت الباحثة السعودية الدكتورة مضاوي الرشيد طرحاً اقتبس منه ما يفسر بعض ما أرنو إليه وهو أن: دراسات الرمز والرمزية تفتح المجال للخوض في ماهية ما يسمي بالرمز وهو بتعريفه البسيط يدل علي شيء غير ذاته ومعني يتضمن كل أو بعض خصوصياته، ومن أهم خصائص الرمز ان تشترك في صنع معناه شريحة كبيرة من المجتمع ويتقبله طيف كبير من البشر. كذلك من خصائص الرمز أن يكون بعيداً عن التشكيك أي أن يكون متفقاً عليه. لنأخذ مثلاً كيف ان الأسد رمز للقوة، والثعلب رمز للمؤامرة والخيانة، والسيف رمز للقوة، والتاج رمز للاستقلالية.. وتستعمل هذه الرموز من الحيوانات والأشياء للدلالة علي المعاني المختلفة، فنطلق صفة الأسد علي الرجل الشجاع، والثعلب علي المراوغ الذي ينسج المؤامرة في الخفاء، وتلبس ملكة بريطانيا تاجها علي رأسها لترمز لاستقلاليتها واستقلال دولتها وهلم جرا. وبالإضافة إلي هذه الرموز تستعمل المجتمعات الألوان لترمز لمعان كثيرة فالأسود رمز للموت، والأحمر للخطر والدماء، والأبيض للسلام. تبقي هذه الرموز محصورة في بيئة محدودة إلي ان يعمم معناها ويشترك في فهمها الكثيرون، ويتفق عليها الجميع، ويفهم المجتمع الدولي ان رفع العلم الأبيض هو طلب للسلام أو الاستسلام، والمهم في الموضوع هو الاتفاق علي المعني؛ ولولا هذا الاتفاق يبقي الرمز محصوراً في بيئة ضيقة ولا يعمم مفهومه علي الجميع . العلاقة بين الرمز (عمر المختار الذي تم الاتفاق علي شخصه)، والوحدة الوطنية أمر ضروري، وأن بقاء الرمز سبب رئيسي للوحدة الوطنية، وهنا لا بد أن نسلط الضوء علي هذه العلاقة، لأنه ليس ثمة بيننا من يشكك علناً - علي الأقل ـ في قدسية عمر المختار علي تنوع خلفياتنا المعيشية حضرا كنا أم بادية وقبائلنا (عبيدي .. ورشفاني .. جبالي .. أولاد علي أو سليمان .. حطماني .. فاخري .. غرياني .. الخ) ومناطقنا سواء في طرابلس وبرقة وفزان، أو في المهاجر، وخلفياتنا الطرقية (سنوسي .. مدني .. عروسي .. عيساوي .. إلخ)، أو حتي الأيديولوجيات السياسية. إذن عمر المختار كان اتفاقاً بين فرقاء الوطن لأسباب ستأتي، وإن ربط الوحدة الوطنية برمز بشري حي يرزق مستحيلة، ولم تكن محل اتفاق، ولم تكن مقبولةً لأن البشر زائلون والوطن يبقي، ولذلك عندما انتفي وجود بشرية عمر المختار، وأصبح في عالم الشهداء - أي مادياً غير موجود بيننا - أصبح رمزاً لحقب تاريخية ستأتي لاحقاً بعد زواله من دنيانا الزائلة، لحاجتنا الماسة إلي رمز نستلهم منه النضال والاستمرار لتخليص العباد والبلاد من مأزق كاد أن يؤدي بنا جميعاً إلي التهلكة لو لا فضل الله علينا، وإصرار وعزيمة الآباء والأجداد علي النصر. فقدسية الشهيد والمكان ستبقي .. أما البشر فهم حالة طارئة مرتبطة بحقبة تاريخية تعتبر قصيرة في تاريخ أي شعب. كما أثبتت الأحداث المتتالية خلال أكثر من سبعة عقود أن هذا الرمز كان عامل وحدة، بل عاملا محركا للمجتمع حين اتبع سياسة فئوية علي صعيد المناطق والجماعات التقليدية كالقبيلة مثلاً، والحديثة كالنخب الثقافية الجديدة التي أفرزتها التنمية والتعليم منذ منتصف القرن العشرين. فعمر المختار الرمز استطاع أن يوحدنا بعدما تفرقنا قبلياً ومناطقياً ونخبا اجتماعية، وكل من اتخذ موقفاً صريحاً وواضحاً بقبول هذا الرمز. وهذا الرمز الذي اختزل روح المجاهد والشهيد في الوطن وخارجه هيمن علي كل مرافق الحـــــياة والمؤسسات سواء كانت الرسمية أو المدنية كأندية الثقافة والرياضة والصحافة وغيرها بالإضـــافة إلي المؤسسات الخيرية. لماذا عمر المختار رمزاً؟ اتفق الليبيون علي عمر المختار رمزاً لأسباب عدة، ولكن في مقدمتها هي مظلوميته التي ألهبت مشاعر من عرفه أو سمع عنه علي الرغم من أن هناك الآلاف من أمثال عمر المختار الذين كانوا سدي ولحمة مسيرة الجهاد المقدس، ولا يقلون شأناً وتضحية عن عمر المختار، ولعل الشيخ الشهيد محمد عبد الله البوسيفي يتقدم هؤلاء جميعاً لأنه من الذين رفضوا سياسة المهادنة، وفضّل القتال عقب الانقسامات التي ابتليت بها القيادات الجهادية في المنطقة الغربية التي آلت إلي هزيمة علي أثرها هاجر الكثير ليثبت الشهيد محمد البوسيفي ويتوجه إلي فزان ليعيد الكرة، ويقاتل ليلقي ربه في معركة المحروقة عام 1913. ولكن ما أظهر عمر المختار علي غيره هو زهده في الدنيا وحطامها حتي وصفه أمير الشعراء أحمد شوقي ببلاغة حين قال: خيرت فاخترت المبيت علي الطوي لم تبن جـاهاً أو تلم ثـراء ترك الدنيا فتركته ببهرجتها. وكذلك خلفيته القبلية التي كانت متواضعة في أجواء كان القوم فيها يتفاخرون برصيدهم القبلي، وكذلك كبر سنه وحنكته في التعامل مع هكذا أوضاع، فقد عُرف عنه كل الخير، ما كرس الكاريزما في شخصه وفي حياته، وألهب المشاعر بعد مماته. ظهرت عليه علامات النجابة ورزانة العقل، فاستحوذ علي اهتمام ورعاية أستاذه السيد المهدي السنوسي، مما زاده رفعة وسموا، فتناولته الألسن بالثناء بين العلماء ومشايخ القبائل وأعيان المدن، حتي قال فيه السيد المهدي واصفاً إياه: لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم . فقد وهبه الله تعالي ملكات منها: جشاشة صوته البدوي، وعذوبة لسانه، واختياره للألفاظ المؤثرة في فن المخاطبة، وجاذبية ساحرة لدرجة السيطرة علي مستمعيه، وشد انتباههم، فيصفه عدوه اللدود غراتسياني "وقد ظهرت عليه في هذه الفترة علامات الشدة والصراحة، فكان كلامه قوياً كأنه آمر يلقي أوامره لتابعيه". أما القدسية فقد تجلت في صورته الدينية وتدينه، فنحن مجتمعات الشرق نقدس الرموز الدينية، وكثير ممن نجل تجد عليهم لحافا دينيا، فالقرآن الكريم أعطاه الوقار الذي يفتقده الكثير في مجتمع يسوده الجهل والظلم، وما زاده رونقاً أصول قبيلته (المنفة) بين قبائل المرابطين ذات المناط الخاص بين مجتمع قبلي في برقة تتصارع فيه الأوزان القبلية الثقيلة من قبائل السعادي، وتتكالب علي الكلأ والماء وحتي الهواء، وولاؤه لدين الله تعالي المتمثل في الطريقة والحركة السنوسية، وهنا تطفح شخصية الرجل كونه شيخ دين وليس شيخ قبيلة، ولم يطلب جاها ولا سلطانا، فأحبّه رفاق الدرب فأحبّهم، حتي أنه قال ذات مرة للمجاهد عبد الرازق العوامي بعد إصابة بالغة في إحدي المعارك، وبعد أن رأي الدماء الغزيرة تنزف من جروحه الغائرة: إن استشهادك (مخاطباً العوامي) اليوم ليس خسارة لأنك تستحق الشهادة في سبيل الله والوطن، ولكن الخسارة التي لا تعوض هي أن تتركني وحيداً لا معين لي .. وهذه المحبة المتبادلة بينه وبين رفاقه في الله جعلتهم أوفياء له حتي بعد رحيله، فها هو الشهيد عيسي الوكواك يحاول اغتيال غراتسياني أكثر من 12 مرة انتقاماً لمقتل عمر المختار، وكذلك التواتي عبد الجليل، وحمد المختار، وصالح بومطير، وسعد ارحومة الرقيعي، وعبد الرازق العوامي، يتطوع جميعهم ليكونوا نواة الجيش السنوسي الذي تحالف مع الفيلق الثامن البريطاني ويحملوا شعلة الجهاد إلي الوطن مجدداً بعد هجرة ونفي، وها هو المجاهد عبد الرازق العوامي يثبت مع رفاقه في ما عرف بـ "حصار طبرق" إبان الحرب العالمية الثانية، ويستبسل أمام ذهول الإنكليز والأستراليين والهنود وغيرهم من جنود بريطانيا العظمي حتي تندحر ألمانيا وحلفاؤها من جبناء الطليان، لينالوا الشوكة التي طالما انتظروها، حتي تسهل لهم سل الوطن من براثن الاستعمار، ويضعوا بها اللبنات الأولي لدولتهم الفتية علي طريق الاستقلال ببركات الشهيد الرمز عمر المختار. الأمر الآخر أن عمر المختار لم تتلوث أياديه بالفتن وطلب الزعامة التي سالت عليها دماء ليبية ليست بالقليلة، فقد عاش جندياً عادياً منذ السنوات الأولي للاحتلال (1911 ـ 1922) ولم يذكر له كثير من المآثر حتي بدايات 1923م حين أصبح قائداً بعد رحيل كبار القادة عن الوطن حتي استشهاده في 1931م، فالرجل ألهم الناس بثماني سنوات من القتال المستمر، في حين ان رجلا مثل الشيخ المجاهد عبد الحميد العبار قد أطلق الرصاص قبل عمر المختار وبعد عمر المختار، وكان قائداً وعمدة وما قام به من أجل الوطن أكثر بكثير مما قدمه عمر المختار الذي لم يكتب له طول العمر الذي تمتع به الشيخ عبد الحميد علي الرغم من رفقتهما وطلبهما للشهادة في سبيل الله ثم الوطن، والشيخ عبد الحميد استضاف السيد أحمد الشريف ورجاله ثلاثة أشهر، أكرم فيها وفادتهم في ظروف صعبة للغاية، ولعل ما ميز عمر المختار أنه رفض الهجرة إلي دول الجوار، بل ظل ثابتاً علي الرغم من يقينه بأنه سيهزم عسكرياً، وأنه لا محال سيلقي ربه عاجلاً أم آجلاً، كما أنه لم يكن معنياً بالقبيلة وما ترتب عليها من نعرات قبلية وجهوية .. فقد كان يستفتي قاضي الدور الشيخ محفوظ الورفلي من رجالات منطقة بني وليد، واصطحب معه في الجبل الأخضر رجال رمضان وسعدون السويحلي الذين عُرفوا بطابور عرب الغرب حباً في الشهادة، وعصمان الشامي أحد أبناء فلسطين، وأحد القادة الخمسة الذين قض بهم مضاجع الطليان في برقة، وما أعلي كعب عمر المختار عن غيره هو ثقته بنفسه ورجاله وقضيته مقرونة بمرونة وبراغماتية افتقدها كثير من قادة الجهاد، فعلي الرغم من أن عمر المختار قاتل الطليان باستبسال فلم يجد ضيراً في التفاوض معهم، حتي أن الدكتور وهبي البوري كتب عن مفاوضات سيدي ارحومة سنة 1929م: انتهي الاجتماع (سيدي ارحومة) بصورة ودّية وتبادل الطرفان الهدايا فقد وزّع بادوليو ساعات ذهبية علي مساعدي عمر المختار وأهدي (عمر المختار) الأخير جواداً عربياً أصيلاً إلي بادوليو وأخذت الصور التذكارية للمفاوضين يتوسطهم عمر المختار وبادوليو وقد نشرتها مجلة اللطائف المصورة في وقته . ولكن ما أشهر عمر المختار وجعله الرمز الذي كان وما زال وسيبقي هو ما قاله فيه فحول الشعر العربي، وفي مقدمتهم أحمد شوقي أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم شاعر النيل، وخليل مطران شاعر المهاجر، ومعروف الرصافي أمير القوافي، وغيرهم. وتفاعل العرب والمسلمون بمقتله، سواء في مصر، أو فلسطين، أو تونس، أو سورية، أو العراق سواء بسنته، أو الحوزة الشيعية في الكاظمية ... إلخ. ولذلك اجتمعت في عمر المختار عدة جوانب جعلت الإجماع عليه ميسراً أكثر من غيره، وسيبقي عمر المختار رمزاً للوطن والأمة، متجسداً في ضريحه، وإن لم يرجع هذا الضريح المهدوم، سيبقي حاجزاً نفسياً بين القيادة الليبية والشعب الليبي عامة، والبناغزة بصفة خاصة، ولم ولن تجدي أي محاولة لرأب الصدع ما دام هذا الرمز المقدس مهدماً بهذه الطريقة المبتذلة، مما يشكل إحدي العوائق الكثيرة التي أشكلت علي القيادة الليبية في استرضاء شرائح واسعة من الشعب، ولن يرضي أهلنا عمن أومأ وأوحي وشارك وهدم ورضي بهدم ضريح عمر المختار، وكذلك من يرفض إعادة بنائه كما كان .. ولكن إذا ما أعيد الضريح إلي كيفما كان فأنا متأكد من أن أهلنا سيتجاوزون هذا الهنة .. ولذلك عندما شرعت في كتابة هذا البحث كتب إلي أحد الأعزة متسائلاً : هل تريد أن تطالب بإعادة عمر المختار لمكانه ... وإعادة الضريح؟ ... يا ليت تقام حملة وجمع توقيعات من أجل ذلك ... فإعادة رمز البلاد إلي مكانه ذات دلالة رمزية عالية ... ولكن موضوعة إعادة بناء الضريح هي موضوعة سهلة ... وفي اليد لأن هناك إجماعا عليها ... فلا أملك إلا أن ارفع يدي وابتهل، وأقول ربنا أعد إلينا عقولنا .. وضريح رمز جهاد واستبسال آبائنا أجدادنا *عن القدس العربي |