المحاكم الإسلامية»هل تعيد السلام إلى الصومال ؟ بدأت الحكومة الجديدة التي تشكلت في الصومال بعد الاستقلال بقيادة الرئيس المنتخب عبدالرشيد علي شرماركي بالمناداة بإقامة كيان سياسي موحد يضم أقاليم «الصومال الكبير» استجابة لرغبة جامحة تأسست على مفهوم «لم شمل الصوماليين» الموزعين على الدول المجاورة، ما أدى إلى دخول الصومال في حروب وصراعات متتالية أنهكته وأتت على اقتصاده. ففي عام 1964م اتخذت الحرب الباردة بين القوتين العظميين من الأراضي الصومالية والإثيوبية ميدانًا لإحدى تجلياتها، فاندلعت حرب كبيرة بين إثيوبيا والصومال، حاولت الصومال فيها استرداد إقليم «أوغادين»، فدعمت الولايات المتحدة إثيوبيا بالمال والسلاح والتأييد السياسي في المحافل الدولية، بينما وقف الاتحاد السوفيتي السابق وجمهورية الصين الشعبية وراء النظام في الصومال وقدما له المال والسلاح، واستمرت الحرب ثلاث سنوات، وأنهك القتال الدولتين ولم يعد في مقدور أي منهما الاستمرار في هذا النزاع، فقبلا بوقف إطلاق النار، وهدأت حدودهما - ساعدهما على ذلك أن حدة الاستقطاب من قبل الدول العظمى على مسرح الأحداث الدولية خفت نوعًا ما - ولكنه كان هدوءًا حذرًا. وفي الخامس عشر من أكتوبر سنة 1969م تم اغتيال الرئيس المنتخب عبدالرشيد شرماركي على يد أحد حراسه، وبعد أسبوع واحد أطاح الجيش بقيادة الجنرال سياد بري بالحكومة المدنية، بعد اتهام البرلمان بالوصول إلى طريق مسدود في محاولته لاختيار رئيس جديد. وتم تعليق الدستور وحظر كافة الأحزاب السياسية وتكوين مجلس ثوري ترأسه بري وتألف من خمسة و عشرين عضوا جميعهم من ضباط الجيش والشرطة. وفي عام 1970م وفي محاولة لكسب ود الاتحاد السوفيتي، أعلن المجلس العسكري أن الصومال دولة اشتراكية وتبنى «الاشتراكية العلمية». وقد ترتب على هذا الاتجاه التوسع في السلطات الممنوحة لعناصر الأمن والاستخبارات. وقد عمل بري على تقديم الدعم المالي والعسكري للفصائل الصومالية وللمعارضة الإثيوبية الموجودة في إقليم أوغادين المتنازع عليه، وطالب إثيوبيا رسميا باستعادة الإقليم و هو ما رفضته الأخيرة فاندلعت في يوليو 1977م حرب استنزاف محدودة بين مسلحين صوماليين والجيش الإثيوبي، تحولت إلى حرب شاملة بين الدولتين، وتقدم الصوماليون في القتال واحتلوا أجزاء كبيرة من إثيوبيا حتى وصلوا إلى مناطق في العمق الإثيوبي مثل «هرر» و«بالي»، ولكن الاتحاد السوفيتي غير موقفه وخذل الصومال، وتحالف مع إثيوبيا مما دفع بري إلى طرد ستة آلاف روسي وكوبي وحلفاء سوفيت آخرين كانوا يعملون في الصومال، وفي ظل المساعدة الأمريكية و تحت ضغط دولي كبير اضطر الصوماليون للتراجع عما حققوه من مكاسب، وأعلنت الصومال في مارس 1978م انسحاب قواتها من إقليم «أوغادين». وكانت نتيجة هذا الانسحاب أن شعرت المؤسسة العسكرية الصومالية بالإهانة والتفريط في النصر الذي تم تحقيقه، ما دعا مجموعة من ضباط الجيش الصومالي إلى القيام بمحاولة لقلب نظام حكم سياد بري، لكن المحاولة فشلت، وشدد بري قبضته وبدأ في وضع السلطات في أيدي أقاربه, وأبناء عشيرته، ثم هدأت الأوضاع حتى عام 1988م؛ حيث شنت الحركة الوطنية الصومالية هجوما مسلحا في شمال البلاد على الجيش التابع لبري ورد الجيش بقصف المنطقة، الأمر الذي أدى إلى قتل ونزوح مئات الآلاف من المدنيين، وكان ذلك هو أول تحد حقيقي لحكم سياد بري وبداية تغلغل المعارضة المسلحة في النظام. وفي عام 1990م صدر بيان رسمي في مقديشو يدعو إلى عقد مصالحة وطنية شاملة لتجنب حرب أهلية ضروس، ووقع البيان (144) شخصية من: السياسيين والزعماء الدينيين والمهنيين ورجال الأعمال الذين يمثلون كافة العشائر الصومالية، إلا أنه ما لبثت أن اندلعت ثورة مسلحة في مقديشو هرب على إثرها سياد بري، واستولت القوات الموالية للمجلس الصومالي الموحد على المدينة، وتم تعيين علي مهدي محمد رئيسًا للدولة خلفًا لبري، لكن المجلس العسكري بزعامة الجنرال محمد فارح عيديد رفض هذا التعيين. وفي نوفمبر 1991م شب قتال ضار بين فصائل المجلس الصومالي الموحد، تبعه قتال في المنطقة الشمالية الشرقية بين الاتحاد الإسلامي من جهة والمليشيا الموالية للجبهة الديمقراطية الصومالية للإنقاذ بقيادة العقيد عبدالله يوسف من جهة أخرى، ثم أعلن إقليم أرض الصومال استقلاله عن بقية الصومال في الثاني عشر من مايو 1992م. وقد شهدت الصومال في نفس العام مجاعة عمت البلاد، وبدأ من وقتها التدخل الدولي في شؤونه الداخلية؛ حيث دخلت القوات الأمريكية الصومال مع مجموعة من دول أخرى تحت غطاء حماية المساعدات الإنسانية، و تحولت قيادة هذه القوات إلى الأمم المتحدة عام 1993م، لكن هذه القوات - خاصة الأمريكية منها - تعرضت لضربات قوية من المقاومة الصومالية عندما حاولت القبض على الجنرال محمد فارح عيديد، مما أجبرها على الانسحاب من الصومال في عام 1994م خاصة بعد الحادثة الشهيرة التي تم فيها سحل بعض الجنود الأمريكان في شوارع مقديشو. وفى عام 1995م نصبت بعض الفصائل الصومالية عيديد رئيسًا للبلاد لكن لم ينضو الكثير من الفصائل تحت لوائه، وبقيت البلاد دون حكومة مركزية، ثم لقي عيديد حتفه متأثرًا بجراح أصيب بها أثناء قتاله ضد إحدى الفصائل المنشقة في عام 1996م وخلفه ابنه حسين محمد عيديد الذي كان يعمل مجندًا في البحرية الأمريكية. وقد حاولت دول الجوار الصومالي أن تعيد ترتيب الأوضاع وفق مصالحها فدعت إلى مؤتمر المصالحة الوطنية المنعقد تحت رعاية الحكومة الإثيوبية في نوفمبر 1996 والذي قاطعة حسين عيديد, وكذلك المؤتمر الوطني المنعقد في جيبوتي في عام 2000م والذي أثمر عن وثيقة وطنية أطلق عليها «الدستور المؤقت» واختير على إثرها : عبدي قاسم صلاد حسن المسؤول السابق في عهد سياد برى رئيسا للبلاد, وأدى القسم في احتفال حضره رؤساء حكومات إرتريا وإثيوبيا والسودان واليمن وجيبوتي بالإضافة إلى مندوبين من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية وفرنسا وإيطاليا والكويت وليبيا, و توجه صلاد إلى العاصمة مقديشو في أغسطس من نفس العام ولكن أربعة من كبار أمراء الحرب المتمركزين في جنوب الصومال رفضوا الاعتراف به وبحكومته. وفي يناير 2001م استولى أمراء الحرب الصوماليون على مدينة «غرباهارى» الجنوبية بمساعدة إثيوبيا، ثم ما لبثوا أن أعلنوا نيتهم لتشكيل حكومة وطنية خلال ستة أشهر مما أثار حفيظة الحكومة الانتقالية، وأسفر عن اندلاع معارك ضارية في مقديشو بين قوات الحكومة ومليشيات مسلحة بقيادة حسين عيديد، وفي نفس العام عمت البلاد موجات جفاف لم يشهدها الصومال من قبل ، ما أودى بحياة المئات وعانى أكثر من نصف مليون شخص من الجفاف . ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتزيد من حدة الأزمة الصومالية, فقد أجلت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عمال الإغاثة الأجانب من الصومال، وتم تجميد الأموال المحولة إلى الصوماليين في الداخل للاشتباه في علاقة بعض التيارات السياسية بتنظيم القاعدة. وفي عام2002 أعلن جنرالات الحرب في الجنوب الغربي من الصومال استقلال ست مناطق وشكلوا حكومة جنوبية غربية إقليمية واستمر الوضع غير مستقر حتى أكتوبر 2004م حيث حدث تقدم مفاجئ في محادثات السلام وعقد القادة الصوماليون اجتماعًا بإثيوبيا اختاروا خلاله عبدالله يوسف رئيسًا للبلاد بديلاً عن عبدي قاسم صلاد، وتم تعيين محمد علي غيدى رئيسًا لحكومة جديدة تكونت من سبعة وعشرين وزيرًا ضمت معظم أمراء الحرب، وأدت الحكومة القسم في كينيا، ثم وقع أمراء الحرب والسياسيون اتفاقًا لإنشاء برلمان جديد, وتم افتتاح البرلمان الانتقالي في كينيا, ولكن البلاد لم تنعم بهذا التقدم السياسي, حيث تعرضت لموجات مد بحري عارمة بسبب «تسونامي»، وتأثرت السواحل الصومالية بهذا المد فسقط مئات القتلى وتشرد عشرات الآلاف. وفي يونيو 2005م بدأت الحكومة الصومالية في العودة من المنفى في كينيا وسط انقسامات شديدة حول المقر المقترح للبرلمان الجديد في الصومال , ولكن عدم استقرار الأوضاع أدى إلى محاولة اغتيال لرئيس الوزراء علي محمد في مقديشو بعد اعتراض موكبه وقتل ستة أشخاص. وفي فبراير 2006م عقد أعضاء البرلمان الصومالي أول اجتماع لهم داخل الأراضي الصومالية في مدينة بيداو، غير أنه ما إن حل شهر مايو حتى نشب صراع مسلح كبير بسبب التنازع من أجل السيطرة على العاصمة بين فصيلين رئيسيين: الأول يطلق على نفسه اتحاد المحاكم الإسلامية، والآخر يدعى التحالف لإعادة السلم ومكافحة الإرهاب، وقد حققت الميلشيات التابعة لاتحاد المحاكم الإسلامية تقدمًا كبيرًا، وسيطرت على معظم مناطق الصومال. ويعود تاريخ إنشاء المحاكم الإسلامية في الصومال إلى بداية 1991م عقب انهيار الحكومة المركزية، لكنها لم تعمر سوى أشهر قليلة بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت أواخر ذلك العام، ثم عادت المحاكم الإسلامية إلى الظهور ثانية عام 1994 وحققت استقرارًا في بعض مناطق الصومال. وفي عام 1996 أدت الخلافات القبلية والسياسية في الصومال إلى تحجيم دورها بشكل كبير، ما أدى إلى انحساره في قضايا التحكيم بين الأطراف المتخاصمة بالتراضي دون أن يكون لها تأثير سياسي أو عسكري يذكر. وظلت تعمل كذلك إلى أن تعزز دورها مرة أخرى عام 1998. وفي أعقاب هجمات سبتمبر خضعت الحكومة الانتقالية لضغوط لإلغاء تلك المحاكم اعتقاداً منها أنها مرتبطة بجماعة الاتحاد الإسلامي، المدرجة ضمن القائمة الأميركية الخاصة بالمنظمات الإرهابية. وبموجب تلك الضغوط اتفقت الحكومة بعد مفاوضات طويلة مع عدد كبير من رؤساء المحاكم الإسلامية بضمهم إلى الجهاز القضائي الحكومي واستيعاب الميليشيات التابعة للمحاكم إلى جهاز الشرطة الحكومي، وهو ما تم بالفعل وطوي ملف المحاكم الإسلامية في العاصمة مقديشو على الأقل. وفي هذه المرحلة أوقفت المحاكم الإسلامية تطبيق الحدود، كقطع يد السارق والرجم والجلد العلني، التي كانت تطبقها في مرحلتها الأولى، وهو ما جلب عليها انتقادات واسعة من قبل المنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان، فاكتسبت اسم «المحاكم الشرعية». لكن الحكومة الانتقالية لم تتمكن من السيطرة على الوضع الأمني ولم تتجاوز سلطاتها بضعة جيوب في العاصمة الكبيرة، ما أدى إلى ظهور الميليشيات القبلية المسلحة من جديد التي تقوم بأعمال سطو ونهب في العاصمة وخطف أشخاص للحصول على فدية. وطالت عمليات الخطف موظفين أجانب تابعين لمنظمات دولية. وبعد تفاقم الأوضاع الأمنية بسبب انشغال الحكومة وقادة الفصائل المعارضة بالمفاوضات الجارية في نيروبي تشكلت لجان شعبية قبلية لإقناع العلماء بوضع حد للفوضى في العاصمة، ثم تطور الأمر إلى إنشاء كل قبيلة محكمة إسلامية في المناطق التي تسكنها من العاصمة علي يد علمائها. وقد اكتسب دور المحاكم الإسلامية أهمية كبيرة في هذه الظروف لأن ثقة الناس في العلماء كبيرة كما أنه ليس للعلماء ثمة طموح سياسي يقلق قادة الفصائل، و هو ما جعل نشأة المحاكم الإسلامية تعد استجابة لنداءات ورغبات المجتمع الصومالي، ويشمل جهاز المحاكم الإسلامية منظومة متكاملة لإقرار الأمن، تضم بين أجنحتها قوات مسلحة مدربة، ومحكمة تقوم على فصل المنازعات والحكم في المخالفات حسب الشريعة الإسلامية، وسجون يحبس فيها من يتم الحكم عليه بالحبس، وكانت كل محكمة مختصة بالفصل في النزاعات وحل المشكلات التي تواجه القبيلة الواحدة وبين أبنائها. وقد تنامى نفوذ المحاكم الإسلامية في ظل الحاجة إلى من يفرض الأمن وغياب أمراء الحرب عن الساحة، وانشغالهم في المفاوضات على السلطة، وتقسيم مناطق النفوذ، ومحاولة كل منهم للحصول على نصيب الأسد منها، وعندما أفاقوا على الواقع كانت المحاكم قد اكتسبت دورًا و ثقة مجتمعية جعل من الصعب التخلي عن وجودها، وبالطبع كان التوتر موجودا بين أمراء الحرب والمحاكم الشرعية في تلك الفترة، ظهر ذلك من خلال حدوث مواجهات عسكرية كبيرة بين الجانبين لأسباب كثيرة منها اختطاف نشطاء إسلاميين صوماليين على يد زعماء الحرب وتسليمهم إلى الولايات المتحدة لاستجوابهم خارج الصومال. وكذلك تنفيذ مداهمات مشتركة بين قوات خاصة من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي ايه) وميليشيات زعماء الحرب قتل فيها إسلاميون واعتقل آخرون ، كما كانت عمليات ترحيل الإسلاميين المختطفين تتم عبر مطارات خاصة تابعة لزعماء الحرب موجودة حول العاصمة مقديشو . وبداية من عام 2004 ظهرت المحاكم «الشرعية» للساحة السياسية مرة أخرى، وبقوة وبدعم من رجال أعمال صوماليين، كانوا يرون المحاكم الإسلامية قوة قادرة على حماية الأمن وسلامة العملية التجارية من جهة ولكي يرفعوا عن أنفسهم تلك الإتاوات التي فرضها أمراء الحرب لتمويل حربهم من جهة أخرى . كما شهد عام 2004 تطورا إيجابيًا في مصلحة تلك المحاكم، عندما تحولت من محاكم قبلية تختص كل محكمة بقبيلتها فقط إلى شبكة من المحاكم يسيرها علماء ينتمون إلى قبائل مختلفة تتعاون فيها بينها وتقوم بأعمال مشتركة، ثم اندمجت هذه المحاكم في كيان جديد تحت اسم «اتحاد المحاكم الإسلامية» تنضوي تحته إحدى عشرة محكمة في العاصمة مقديشو، وتم اختيار الشيخ «شريف شيخ أحمد» رئيسًا لها. ولكن الأوضاع تغيرت إلى الأسوأ وتفجرت بين الطرفين في الثامن عشر من مايو 2006، عندما أعلن أحد عشر زعيمًا من زعماء الحرب الصوماليين، بينهم أربعة وزراء في الحكومة الانتقالية، عن تأسيس تحالف جديد يدعى «التحالف من أجل إعادة السلام ومكافحة الإرهاب». ومهمة هذا التحالف، كما جاء في بيانه التأسيسي: «القضاء على الإرهابيين الأجانب الذين تؤويهم المحاكم الإسلامية في الصومال». وبعد عدة معارك عنيفة كان النصر من نصيب المحاكم الشرعية حيث دحرت أمراء الحرب واحدا تلو الآخر واضطر بعضهم للتسليم وإلقاء السلاح وصارت القبائل الواحدة تلو الأخرى تنضوي تحت لواء المحاكم الشرعية حتى سيطرت على العاصمة مقديشو وأغلب بلدات الجنوب، مما حدا بالسلطة المؤقتة إلى فتح باب جديد تحت مسمى التفاوض من أجل صومال آمن. ورغم أن هناك اثنين أو ثلاثة من أمراء الحرب الذين كانوا يتمركزون في مقديشو ممن لم يشاركوا في تحالف مكافحة الإرهاب وهما لا يزالان في مدينة بيداو مقر الحكومة الجديدة، فإنه يمكن أن يقال إن المحاكم قد أصبحت صاحبة القول الفصل في العاصمة. وقد تم الإعلان عن سيطرة المحاكم أيضًا على مدينة «دينيلي»، وهي ضاحية من ضواحي مقديشو كان تحالف مكافحة الإرهاب يتخذها مقرًا له. وتم تسليم مقر أقوى أمراء التحالف وأكثرهم تسلحا محمد قنيري أفرح الذي كان وزيرًا للأمن في الحكومة الجديدة التي تشكلت عام 2004 ولم تستطع فعل شيء منذ ذلك الحين. كما تم تسليم المدينة ومقر وأسلحة قنيري سلميًا إلى أعضاء من نفس قبيلته المنضوين تحت المحاكم الإسلامية، وفر الرجل الذي كان يتهم بتسفير وتسليم المطلوبين أميركيًا إلى الولايات المتحدة. استبشرت كل فئات الشعب الصومالي في جميع المناطق وحتى في المهجر بما حدث وقد أرجع المحللون انتصار قوات المحاكم الإسلامية إلى عدة أسباب من أهمها: أن زعماء الحرب بعدما هزموا في المراحل الأولى من القتال أرادوا أن يضعفوا قوة المحاكم بإثارة النعرة القبلية بهدف تشتيت شملها، ولكنهم في هذه المرحلة لم ينجحوا، في مؤشر آخر على أن الشعب الصومالي بدأ يتعافى من داء القبلية ويدخل مرحلة أخرى مغايرة. وأن الحرب التي دارت معاركها مؤخرًا في مقديشو خلال الأشهر الأربعة الأخيرة مختلفة تمامًا عن الحروب التي كانت تقع بين القبائل في الصومال. فبينما كان التأثر بالقبلية ونعراتها باديًا للعيان وغير خاف على أي مراقب، جاءت معارك مقديشو لتؤسس لدخول الصومال مرحلة الحرب على أساس أيديولوجي أي على أساس المبدأ وليس القبيلة. فكلا الجانبين (تحالف مكافحة الإرهاب واتحاد المحاكم) كان من بين زعمائه أفراد من القبائل المسلحة في مقديشو. كما أن زعماء الحرب لم يكن معهم أي من الشعب الصومالي ولا حتى من قبائلهم، وأنهم كانوا منبوذين شعبيًا ولم تكن الميلشيات التي استخدموها في حروبهم سوى مجموعات من المرتزقة سيطروا عليهم بفعل غسيل المخ والمخدرات. ولذلك وجدنا أنها في أول مواجهة حقيقية مع المحاكم انهزمت رغم قوة عتادها الحربي المدعوم من الولايات المتحدة وإثيوبيا. وقد دللت هذه الانتصارات على أن الإسلام ما زال قويًا في الصومال وأنه ليس هناك ما يمكن أن يوحد هذا الشعب أمام التحديات سوى الإسلام الذي وحد بين جميع قبائل الجنوب تحت لواء المحاكم، هذه القبائل التي كان أمراء الحرب يتقاتلون باسمها في يوم من الأيام، وأن الاقتتال وعدم الاستقرار في الصومال كانا بإرادة قوى إقليمية ودولية لا يسرها استتباب الأمن في هذا البلد العربي المسلم، لذا فإنهم وقفوا مع أعداء الشعب الذين قتلوه وشردوه ستة عشر عامًا. ويمتلك اتحاد المحاكم الإسلامية كقوة سياسية كثيرًا من نقاط القوة من أبرزها: نقاء قيادته من مساوئ الحكم الديكتاتوري وعدم مشاركتها في الحرب الأهلية، ما يعطيها ثقة الشعب والتفافه حولها, سيطرته على معظم أراضي الجنوب وأجزاء من الوسط سيطرة عسكرية فعلية أو ولاء وعدم وجود قوة تناوئه على امتداد هذه الرقعة، ونجاحه في إحلال النظام والأمن، ورفع الحواجز ونقاط التفتيش من جميع الطرق والمناطق التي سيطر عليها، وتمثيله لجل أطياف التوجهات الفكرية الشعوبية، مع التوفيق بين القبيلة والعقيدة في مجتمع يعتبر الأمرين من خصوصيات مكوناته، ولذلك فقد أصبح الآن قوة فعالة وسيحسب لها ألف حساب سواء في المستقبل السياسي للصومال أو في معادلات التسويات الأخرى. لكن يبقى سؤال ملح وهو: كيف ستتعامل الحكومة الصومالية الموجودة في بيداوه مع انتصار المحاكم في مقديشو؟ جواب هذا السؤال ليس سهلاً لأن الحكومة نفسها كانت مكونة من أمراء الحرب من جميع القبائل وأن هؤلاء الذين هزموا الآن في مقديشو يشكلون جزءًا عضويًا من الحكومة. هناك احتمال أن تجري الحكومة اتصالاً مع اتحاد المحاكم لتمهد انتقالها إلى العاصمة مقديشو، ولكن ليس واضحًا حتى الآن كيف ستتصرف المحاكم وهل ستضع شروطًا معينة على الحكومة أم لا؟ وقبل أن تأتي الحكومة يواجه اتحاد المحاكم تحديًا استراتيجيا يتمثل في كيفية تعاملها مع الوضع السياسي الجديد للعاصمة والذي بالتأكيد لم تحسب حسابه حين دخلت المعارك ولم تكن على يقين من أنها ستحسم الأمر بالسرعة التي حسمته بها والنصر المؤزر الذي أحرزته فيها. وهناك قوى سياسية عديدة في العاصمة واتجاهات دينية متعددة من بينها السلفيون والإخوان والتبليغيون والصوفية والعلماء التقليديون وزعماء العشائر التقليديون إضافة إلى الزعماء السياسيين غير المسلحين، وهؤلاء كلهم يكوّنون المجتمع المدني ومن بينهم هؤلاء الذين يقودون المحاكم. فكيفية تصرف المحاكم مع كل هؤلاء هو الذي سيحدد مستقبل العاصمة وسيؤدي دورًا في استقرار الوضع وتجاوز مرحلة القبلية أو العودة إليها مجددًا باسم محاكم القبيلة. ورغم عدم امتلاك المحاكم الخبرة والحنكة السياسية نظرًا لعدم ممارستها لهذا الأمر من قبل، فإن نفََس ونبرة الخطاب الذي بدأت به عبر خطاب الشيخ شريف في مؤتمر إعلان النصر كان يشي بقدر من العقلانية والحكمة، حيث صرح أن المحاكم لا تمثل جهة أو طرفًا أو قبيلة بل هي للشعب كله ولا تخضع لأي قوة خارجية إسلامية كانت أو غير إسلامية، وعليه فلن تحاول الاستحواذ على الأمر بل ستشرك فيه الشعب الذي كان له الدور الأساسي في النصر على زعماء الحرب الذين أذاقوا الشعب الأمرّين خلال الأعوام الـستة عشر الماضية . ولا يبدو للزعماء المهزومين في مقديشو أي دور الآن، وكان قرار الحكومة تجريدهم من مناصبهم الوزارية إسدال ستار على تاريخهم السياسي، لذا فقد لحق عدد منهم بجيبوتي وكينيا. وحتى الآن ليس واضحًا إذا ما كانوا سيبقون في دول الجوار ليُستخدموا فيما بعد من قبل الخصوم أم أنهم سيعودون إلى الوطن بدون أي دور. في حال عودة أمراء الحرب إلى قبائلهم فمن المؤكد أنهم سيعودون بدون مخالب وبدون أي دور سياسي أو مليشيات، وقد ألمحت المحاكم في المؤتمر الذي عقدته في مقديشو إلى مثل ذلك. ويرى المراقبون أن قادة المحاكم يحتاجون إلى شخصية حكيمة تعرف متي تحارب ومتى تفاوض ومتى تلقي السلاح لبناء الوطن. لأن النصر العسكري للمحاكم في حاجة إلى تعزيزه من خلال انتصار سياسي بإعداد برنامج وطني شامل تشارك فيه جميع القوى الفاعلة في المجتمع ومن خلاله يتم إعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة التي أصبحت بؤرة التوتر والفوضى في البلاد. وتعد المفاوضات التي بدأها الطرفان الحكومة الانتقالية واتحاد المحاكم تعتبر بداية طيبة وخطوة أولى في الاتجاه الصحيح. حيث يبدو واضحًا أن الطرفان بعضهما في حاجة بعض ولا يستغني أحدهما عن الآخر. فالحكومة رغم ما يبدو عليها من الهشاشة والضعف إلا أنها تحظى باعتراف المجتمع الدولي وتتمتع بقدر من الشرعية باعتبارها نتيجة مؤتمر مصالحة وطنية استمر عامين بدعم دولي وإقليمي. وكذلك المحاكم على الرغم من عضلاتها العسكرية التي لا تقهر ولا تبارى في الوقت الحالي في الساحة السياسية الصومالية إلا أنها في حاجة إلى غطاء شرعي معترف به ومقبول من المجتمع الدولي. وهكذا الطرفان يتكاملان ولكن قبل ذلك كله لابد من بناء الثقة بين الطرفين وذلك من خلال خلق مناخ يسوده الإخلاص وحسن نية وتبديد الشكوك والمخاوف التي يتبادلها الطرفان عبر وسائل الإعلام . إن المبادرة العربية الأخيرة مهمة جدًا رغم أنها جاءت متأخرة وبعد غياب شبه كامل عن الأزمة الصومالية. فالوساطة العربية تكتسب أهميتها بكونها تحظى بثقة واحترام جميع الأطراف وهو ما لا تتمتع به أي جهة أخرى إقليمية أو دولية بحيث تتهم بعض الأطراف بانحيازها إلى طرف ضد الطرف الآخر. ثم إن هناك تحديات خارجية تواجه اتحاد المحاكم الإسلامية أهمها إزالة المخاوف التي أبداها المجتمع الدولي تجاه الانتصارات العسكرية للمحاكم. وفي هذا السياق تعتبر الرسالة التصالحية التي بعث بها الشيخ شريف إلى مكاتب هيئات البعثات الدبلوماسية في نيروبي والمنظمات الإقليمية والدولية ومكتب العلاقات العامة لوزارة الخارجية الأمريكية - تعتبر خطوة مهمة تنبئ عن مرونة سياسية يتمتع بها الشيخ حيث شرح فيها سياسات وأهداف الاتحاد مؤكدًا كونها حركة محلية لأغراض وطنية لا علاقة لها بالإرهاب ودعا إلى فتح حوار مع جميع الأطراف. كان ذلك موقفًا حضاريًا وأخلاقيًا لاقى ترحيبًا دوليًا واسعًا لكن ما ينتظره العالم هو تطبيق هذه الوعود على أرض الواقع . وفيما يخص تحديات الإصلاح الداخلي وإعادة إعمار البلاد، فإن الصومال يمتلك ثروات طبيعية كثيرة مثل اليورانيوم وخامات الحديد والقصدير والملح والغاز الطبيعي، وقد تم التأكد من وجود النفط بكميات تجارية وكذلك وجود الجبس والنحاس والموز، ويعتبر جنوب الصومال كله أرضًا زراعية خصبة وتعتبر تربية الماشية حرفة غالبة السكان وفي حال تطوير هذا القطاع يمكن أن تصبح الصومال من الدول الرئيسة في تصدير اللحوم ومشتقات الألبان، كما تمتلك الصومال شواطئ ممتدة وغنية بالثروة السمكية. كما يطالب العديد من أصحاب الماشية الصوماليين برفع الحظر الذي تفرضه كثير من الدول العربية على ماشيتهم, وكانت الضريبة التي تجنيها الصومال من تصدير ماشيتها أحد مصادر الدخل الرئيسة للبلاد. وقد أعادت قوات المحاكم الإسلامية افتتاح ميناء العاصمة مقديشو بعد أن ظل مغلقًا منذ أحد عشر عامًا خلال الحرب الأهلية. فقد ظل الميناء مغلقًا منذ انسحاب قوات حفظ السلام الأممية في 1995 بسبب صراع زعماء الحرب للسيطرة على عائداته. الشاهد أن الصومال بات يمتلك مفاتيح استقراره و على العالم بصفة عامة ودول الجوار بصفة خاصة أن يساعدوه في تحقيق ذلك . المراجع - أحمد إبراهيم محمود، الحروب الأهلية في إفريقيا، القاهرة: مطبوعات مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 2001م. - مركز الدراسات الإفريقية، جامعة كولومبيا، www.columbia.edu/cu/lweb/indiv/africa.html - موقع الجزيرة: www.aljazeera.net -Library of Congress, Country studies ,History of Somalia , < http://countrystudies.us/somalia/73.htm> - مجلة المعرفة |