في الذاكرة والوجدان بعد أربعة عقود من النضال الوطني والفني، رحل الفنان الكبير محمد حمود الحارثي وسكت عوده الشجي مخلفاً للمكتبة الفنية ثروة هائلة من الأغاني الأصيلة المعبرة عن أنبل المشاعر وأنقاها. وقليل هم الفنانون الذين يمتلكون قدرة فائقة على أداء الأغنية التراثية بالشكل المرغوب والمحبوب، ومن حسن حظ الفنان الحارثي، بل ومن حسن حظنا كذلك، أنه نشأ في بيئة وثيقة الصلة بالأغنية اليمنية التراثية، فقد ولد في مدينة “كوكبان”، مدينة العلماء والفن والفنانين، مدينة احتفظت مجالسها وأسمارها بأجمل أغاني التراث وأكثرها حضوراً وشجناً. وفي مناخ كهذا والذي تميزت به مدينة كوكبان ليس غريباً ان نصغي بقلوبنا قبل آذاننا إلى أغنية عمرها ثمانمائة سنة كتلك التي كتبها الشاعر أحمد بن فليته في القرن السابع الهجري، وظلت بكلماتها ولحنها تتردد على ألسنة الفنانين وكأنها كتبت ولُحنت منذ أيام: لي في ربا حاجز غُزيل أتلع يسبي القلوب حنب لقلبي عند بان لعلع وقت الغروب أو أن نستمع إلى أغنية أخرى من القرن نفسه وبلحنها القديم البالغ العذوبة والشجن. يانسيم السحر هل لك خبر عن عُريب بوادي المنحنى خلفوني ولم أقضي وطر من لقاهم ولا نلت المنى تلك بعض الأغاني التراثية التي كان الفنان الفقيد يشدو بها ويجيد لحنها ويحافظ على كل نغمة من نغماتها، من دون تحوير أو تغيير. وبالمناسبة، فقد كانت تدور بيني وبينه، مناقشات طويلة حول هذا النوع من الأغاني من ناحية وحول تجديد الأغنية اليمنية من ناحية ثانية، وكان حريصاً على التجديد ولكنه يرى وهو على حق أن التجديد ينبغي أن يكون ابتكاراً وأن تكون الكلمات جديدة، ومعاصرة، واللحن جديدا ومعاصرا، لأن ما يقال عن تجديد أغاني التراث وتطويرها يعدّ عبثاً وعدواناً على الفن الاصيل، وعلى تلك الأغاني التي وعاها وجدان الاجيال المتعاقبة وحرصت الذاكرة الوطنية على أن تبقى كما هي صورة من تاريخ الحقبة أو الحقب التي ظهرت فيها. وكان رحمه الله يتساءل: ماذا لو ذهبنا إلى تطوير الشعر الجاهلي بتغيير ألفاظه وموسيقاه ليتناسب مع الشكل الشعري الجديد؟! وهو سؤال يحمل الكثير من الحق والإنصاف للموروث وكيف ينبغي أن تتعامل معه الأجيال المتعاقبة من دون ان تفسده أو تشوه بنيته التي حافظ عليها أنصار الفن وعشاقه عبر القرون وقبل أن تبدأ وسائل التسجيل والتوثيق الحديثة دورها المدهش في الاحتفاظ بأصوات الفنانين وألحانهم وصورهم والبيئة المحيطة بهم. لقد قام الفنان محمد حمود الحارثي بدورين أساسيين في حياته: الدور الاول يتجلى في مشاركته الفعلية في معارك الثورة والتحرر من الاحتلال الأجنبي وكان واحداً من الفنانين الذين دفعهم الواجب الى أن يتركوا المدينة إلى قمم الجبال حيث المدافعين عن الثورة لكي يشدوا من أزرهم بالأناشيد الوطنية والأغاني الحماسية. وفي أرشيف الثورة كثير من صور هذا الفنان الملتزم وهو يحمل البندقية على كتفه والعود بيده، وذلك موقف لن ينساه له الشعب وسيظل موضع تقدير دائم من الدولة ومن جماهير الشعب. أما الدور الآخر الذي قام به الفنان الحارثي فهو ذلك الذي تمت الاشارة اليه فيما سبق وهو الحفاظ على الاغنية التراثية من الضياع والتحوير أو التطوير العابث أو استمراره في أدائها بالطريقة التي التقطها بها عن طريق فنانين تناقلوها جيلاً عن آخر صافية ومبرأة من المحاولات المشبوهة والعدوانية التي أحدثها المتطفلون من مطربي آخر الزمن. |