ما بين ثقافة الإنسان وحضارة الآلة..رؤية فلسفية بين كلمتي الثقافة Culture والحضارة Civilization هنالك فرقٌ واضح واختلاف يظهر في اللغات الأوروبية ولا يظهر هذا الاختلاف في لغتنا العربية إلا في الأصل الاشتقاقي. ويظهر الترادف بين الكلمتين بمجرد أن ننظر فيما نعنيه بالمثقف والمتحضر. فالمثقف هو المصقول المهذّب. وقيلَ عن الرمح المثقف الكثير، أي الرمح المقوّم المصقول. كذلك الحال بالنسبة للمتحضر. فهو أيضاً صَقَلَتْهُ حياة الحضر وَنَعِمَ بثمرات المدنية فاتسعت مداركه وتغيرت أساليب فكره وسلوكه بفضل ما استحدثه الحياة الحضرية من طرق وأساليب لا تعرفها حياة البداوة أو الفِطرة. أما ما تبيّنه لنا اللغات من اختلاف بين معنى الثقافة والحضارة فيظهر من مجرد النظر إلى ما تعنيه الثقافة Culture في أصلها اللاتيني، إذْ نرى أن الأصل فيها هو كلمة Cultura وتُفيدُ معنى الزراعة والإنماء. فهي في حقيقة الأمر تعني في معناها التأويلي تعامل الإنسان مع الطبيعة ولرعايته لها وتمهيد الطريق السوي لرعاية ما هو موجود لينمو ويزدهر. وكما تفيد الثقافة في الأصل التعامل مع الطبيعة المادية فإنها تمتد أيضاً إلى مجال الإنسانيات فتعني رعاية النفس وقواها العقلية والأخلاقية. وقد استخدمها كتّاب الرومان ومفكروهم بهذا المعنى فحدّثنا شيشرون عن "ثقافة الروح" Culture Animé. ولم يستخدم الإغريقيون القدماء هذه الكلمة ولم يقدموا مرادفاً لها وإنما كانت الثقافة عندهم ثمرة التربية الحرّة ولا تنفصل عن أسلوب حياتهم نفسها. ولم يكن هنالك فارق بين المثقف وغير المثقف وإنما كان الفارق بارزاً في انشغال المواطن الحر وعنايته بالأمور العامة أو انشغال الحِرَفيين. وهذا النوع من الانشغال هو المرادف لكلمة ثقافة. وقد أُشيرَ إلى هذا النوع من العمل والانشغال بكلمة Bananos. فالثقافة على ضوء هذا التفسير هي نوعٌ من السلوك والتفكير والإحساس بكسب صاحبه شخصية معينة يتلقاها من بيئته الاجتماعية ويستنشق عبيرها على نحو ما يكتسب الكائن الطبيعي شكله ولونه من البيئة التي ينمو بها وهي تسري إلى الأفراد بلا وعي منهم كما يقول المفكر والفيلسوف الانجليزي هربرت ريد. فالثقافة تنعكس في أسلوب السلوك والعمل والاستجابة بمعزلٍ عن نصيب الإنسان من المَدَنيّة أو الحضارة. فمن هنا، مثلاً، يمكن أن يُنسَب لصنّاع الأواني الفخارية أو للفنان عند تزيينه لبيته أو لطريقة بناء المساجد ثقافة خاصة تميّز كل منهم. فالثقافة تنعكس إذن في السلوك والإنتاج والأخلاق والفنون وتنتشر بين أفراد مجتمع معين لتقترب بينهم وتٌكسِبَهم طابعاً خاصاً يتميزون به عن غيرهم. وبهذا المعنى، يمكن أن نتحدث عن ثقافات مختلفة بغير تفصيل بينها بل يمكن أن نتحدث عن ثقافة بدائية Savage Culture بغير أن نقع في تناقض. وليس الأمر كذلك بالنسبة للحضارة إذ من التناقض أن نتحدث عن حضارة بدائية Savage Civilization وذلك لأن نتاج الحضارة اختراعات واكتشافات وصناعات وهي الشكل الواعي للاكتساب وثمرة للخلق الجديد لا يعتمد على أثر البيئة الطبيعية وحدها. والحضارة بهذا المعنى تصنع وتجلب وقد تنقل من بيئة إلى أخرى ولذلك تتميز بالاختراعات الصناعية والتقدم التكنولوجي لمجتمع من المجتمعات ومن ثم فقد كان العامل الأساسي في حضارة اليونان هو استخدام الحديد وتعميم صناعته في الآلات الحربية التي هيأت للانتصار الحربي. في الحضارة العربية، تبدو الانطلاقة الحضارية مغايرة قليلاً. فالعامل الأساسي فيها كان ما أُنجِزَ من تقدم في حسابات علم الفلك ساعدت على الكشف الجغرافي والاطلاع على أحوال الأمم الأخرى. أما الحضارة الغربية فهي حضارة البخار والكهرباء والذرة والأزياء والمعلوماتية. وتتميز حضارتها بأن ثمارها سريعة الانتشار وهي تحمل مع آثارها المادية الثقافية الإنسانية التي تتشكّل فيها فتنعكس في الفكر والدين والأخلاق والفنون. بمعنى آخر، تٌكَوّن الحضارة المضمون، بينما تكوّن الثقافة الشكل الذي يعكس هذا المضمون المادي في أسلوب معين من السلوك الأخلاقي أو من الفكر الديني والأخلاقي أو التعبير الفني. ويبيّن التاريخ كيف تتبع الحضارة الغزو السياسي وكيف يفرض شعبٌ غازٍ حضارته وثقافته على مجتمع على مجتمع مخالف. فكذلك سادت، مثلاً، الحضارة اليونانية بلاد المشرق القديم وسادت معها الثقافة اليونانية بفلسفتها وفنها وعقائدها. وقد نقل أهل الشرق عن اليونان الكثير من ثمار حضارتهم وعلومهم وفنونهم ولكن إن صحّ أن الشرق قد تقبّل حضارة اليونان إلا أن الصراع الفكري سرعان ما ظهر بين الجانب العقائدي المتمثل في الثقافة اليونانية الوثنية وثقافة أهل التوحيد الذين عاشوا في هذا العصر ولعل أبرز مثال على لذلك الصراع الذي حدث بين يهود الإسكندرية وفلسطين وبين الثقافة اليونانية في القرن الثاني الميلادي، فقد تأثرت ارستقراطية هذه البلاد بالثقافة اليونانية إلى حد أنهم نبذوا ثقافتهم القديمة فنَسَوا العبرية وترجموا كتبهم إلى اليونانية ودخلت آلهة اليونان ضمن عقيدة اليهود في حكم أنتيخوس إيفانوس ١٦٤ – ١٧٥ م ومنع الختان وسمح بتقديم الخنازير قرابين للآلهة. وقد أثار هذا شعور المحافظين من اليهود وهم جماعة الحسيديم Hasidim ومنهم جماعة الزهّاد الأسيتيين وقاد ثورة هؤلاء المحافظين يهودا المكّابي. ولقد خشي العرب أيضاً في بداية نشأة دولتهم من علوم الأوائل ورأوا في التمسك بالقرآن ما يُغنيهم عن ثقافة الفرس والرومان ولكنه سرعان من تفتّحت عقولهم وأذهانهم لنقل هذه الثقافات التي التقوا بها في بلاد الشام ومصر وفارس، ومن هذا اللقاء تمّ للعرب نهضة فكرية عظيمة بلغت أوجها في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. والغزو الثقافي وإنْ كان يتبع انتصار حضارة على أخرى، مرتبطاً بالنصر السياسي، إلا أنه لا يُصدّق دائماً. فتاريخ الفكر يبين لنا كيف سادت الحضارة والثقافة اليونانية الدولة الرومانية وبهذا انتصرت اليونان ثقافياً على غزاتهم من الرومان، وثقافة العرب تغلّبت بدورها على غزاتهم من المغول وامتدت إلى الشرق الأقصى. واليوم نرى الحضارة الغربية الحديثة قد حققت من التقدم العلمي والتكنولوجي ما يفوق كل خيال، وبفضل اكتشافاتها العلمية هذه أمكنَ للإنسان السيطرة على كثير من الآفات والأمراض التي فتكت بالبشر دهوراً طويلة، وبالتكنولوجيا الحديثة تمكّن الإنسان من الحركة وسط المجموعة الشمسية وقربت سرعة الحركة والاتصالات، وبذلك تغيرت مفاهيم الإنسان عن المكان والزمان. كل ذلك دون أن ننسى أن لهذه الحضارة كان هنالك ولما يزل وجهها المجرم في التسليح واستعمالاته الدموية. كذلك استُخدِمت التكنولوجيا في توجيه الحياة الاجتماعية وظهرت نُظُمٌ من الإدارة وذاهب في الاقتصاد والسياسة جعلت التخطيط في الحياة الإنسانية أمراً لا بد منه بحيث لم يعد للإنسان نفس الحرية المطلقة في توجيه حياته بمعزل عن حياة مجتمعه، وتدخلت السياسة في مدى استخدامه لحريته وذلك لأنه في نطاق حياة الجماهير والإنتاج الجماهيري الآلي لا يمكن للإنسان أن يتصرف إلا بقدر ما تتيحه له حياة تحكم فيها الإنتاج الآلي إلى حدٍّ جعل الإنسان أقرب إلى أن يكون ترساً في آلة بل ما أشبهه في ظل هذا النظام ب" قنطور" Centaur جديد على حد تعبير لغة أساطير اليونان أي كائن خرافي نصفه بشر ونصف الآخر آلة. ذلك أنه لو جاز لقدماء اليونان أن يُبدعوا أسطورة يصورون بها الإنسان كائناً نصفه بشر ونصفه حصان، فإنما كان ذلك رمزاً لمرحلة من الحضارة الإنسانية استأنس فيها الإنسان الحيوان وسخّره لخدمته. إلا أن حضارة التكنولوجيا التي استأنس فيها الإنسان الآلة جاءت بمشكلة جديدة هي علاقة الإنسان بهذه الآلة التي يستخدمها والتي تنعكس آثارها في حياته. فالآلة هي أداة الحضارة وهي أساس التكنولوجيا الحديثة. فعلاقة الإنسان بالآلة تصبح أيضاً مشكلة الحضارة وعليها يتوقف مستقبلها. وما من شك في أن كل تقدم علمي يصل إليه الإنسان إنما هو ثمرةٌ مدينٌ به للآلة التي أبدعته، إذ بغير الآلة وبغير التقنيات لا يتقدم العلم ولا يتسع آفاق العلم. فبغير المجهر ما كان لعلم الفلك أن يصل إلى ما قد وصل إليه من تقدم. وبغير الميكروسكوب ما كان لعلم الأحياء، البيولوجيا، أن يكتشف البكتيريا وأن يقوم بما قام به من خدمة في سبيل تقدم علوم الأحياء والطب. بل أن أكثر العلوم تجريداً وعقلانية مدينة بتقدمها للآلة. فعلوم الرياضيات والطبيعة قد قفزت قفزات هائلة بفضل الآلات الحاسبة التي أمكن باستخدامها الوصول إلى المسائل والمعادلات التي لم يكن يُتاح للعقل البشري أن يصل إليها إلا بعد مجهود قد يدوم آلاف السنين. وإذا كانت الأرقام العربية التي أدخلت النظام العشري في لغة الحساب قد يس{ذرت على الإنسان العمليات الحسابية التي لم يكن بمقدوره أن يقوم بها عندما كان يستخدم الأرقام الرومانية، فإن إدخال الحاسبات الالكترونية في علوم الحضارة الحديثة إنما يمثل حلقة جديدة من تاريخ العلم الإنساني لم تكن تتم لولا ما سبقها من اكتشافات واختراعات. إن تاريخ العلم كتاريخ الحضارة حلقات مرتبطة بعضها ببعض وتقدمها مرهون بهذا الارتباط إذ لا يمكن لحضارة من الحضارات مهما ارتقت أن تنكر فضل الحضارات السابقة عليها. فحضارة قدماء اليونان مدينة لحضارة قدماء المصريين بقدر ما تدين لها ولحضارة العرب في العصور الوسطى الحضارة الأوروبية الحديثة. إن الحضارة بآثارها العلمية والتكنولوجي، وإن ترعرعت ونمت في ظل أمة ومجتمع معين، إلا أنها عالمية في طبيعتها لأنها ملكٌ للإنسانية، وانتقال العلم والتكنولوجيا سريع الحدوث، ومن المستحيل على الإنسان في أي مجتمع كان أن يرفض تطبيقاً معينا لاكتشاف يحرره من مرضه أو يحقق له معيشة أفضل أو أسهل وليس هناك مجتمع من المجتمعات متحضرٌ أو فطري أو بدائي يمانع في أن ينعم بثمار الصناعة الحديثة أو يرفض ما هيأّته له هذه الصناعة من اختراعات توفر عليه مجهوده. إذ من الطبيعي أن يفضل الإنسان ضوء الكهرباء على ضوء الشموع، وأن يمتلك السيارة التي تقطع الطريق في ساعات بدلاً من أن يقضي الأيام على ظهر حصان أو جمل. غير أن الحضارة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية لا تسود بغير أن تسود معها الثقافة الفكرية المواكبة لها. إذ من الطبيعي أن تنعكس آثار الحضارة المادية على سلوك وعقائد ومشاعر أهل المجتمع الذي يحياها وهي تتمثل في آثاره الفنية وقيمه الأخلاقية. ولو طبقنا ذلك على موقف المجتمعات الشرقية من الحضارة التكنولوجية الأوروبية فسوف يتضح كم يُرحَّب باستخدام اختراعاتها التكنولوجية ولكنه كثيراً ما يتردد عندما يواجه القيم الأخلاقية والبدع الفنية والأفكار والمعتقدات التي لم يألفها والتي تصدم أحياناً معتقداته وتقاليده وعاداته. ولكن المفارقة تظهر لو تساءلنا: هل يمكن أن نتعامل مع الآلة وألا نقبل أخلاقياتها؟ هل يمكن لراكب السيارة أن يستمر على عادة راكب الحصان؟ وهل يمكن للمرأة العاملة أن تعيش بنفس تصورات عصر الحريم؟ إن التكنولوجيا الحديثة التي أمدّت الإنسان المعاصر بسيلٍ وافر من المعلومات والتي فتحت أمامه آفاقاً شاسعة من المعرفة هي أيضاً التي فرضت عليه أساليب جديدة في السلوك وقيماً أخلاقية جديدة وغمرته بمشاعر وانفعالات لم يكن يألفها في ظل حياته في القرون الماضية. ولذلك فليس من السهل على أمة أو مجتمع معين أن يتقبل ثقافة غريبة عنه بغير صراع مصدره تمسكه بقيمه التقليدية ورغبته في مسايرة العصر ومقتضيات التطور والتجديد. إننا لو تتبعنا ظواهر الثقافة لوجدنا أكثر المفكرين قد التقوا على أنهل تظهر في حب الحقيقة الذي يثمر العلم والمعرفة، وفي الفن الذي يعبّر عن الجانب الشعوري والوجداني لأمة معينة. ولكن هنالك جانباً هاماً لا تخلو منه حضارة أو ثقافة من حضارات العالم وثقافته الفنية أشاد به الفيلسوف الإنجليزي ألفرد نورث وايتهد ، وهو روح المغامرة على "أنها الدافع الحقيقي وراء قيام كل حضارة وكل ثقافة". والمغامرة التي يقصدها ليست مجرد الاندفاع في أعمال لا تتطلب سوى الشجاعة البدنية والتورط في ما يفوق الاتزان، ولكنها القدرة على التجديد والتغيير والابتكار. إنها بمعنى آخر، نبذ المحاكاة والتقليد والركون إلى الأساليب المعتادة المتكررة. فإذا صح لنا أن نكرر اكتشافاً علمياً أو ننقل اختراعاً صناعياً مما تحفل به الحضارة التكنولوجية الغربية فليس من الجائز أن ننقل نفس القيم الأخلاقية أو نفس أساليب السلوك أو نحيا نفس الوجدانات والمشاعر ذلك لأن هذه القيم الثقافية يمكن أن نصوغها بأشكال وفي صور وبرموز مختلفة. إننا لا نستطيع أن نقضي على الحب والكراهية أو على الشجاعة والخوف، ولكننا نستطيع أن نصوغها بأشكال وصور متعددة ولا يلزم أن ننقلها عن الغير بنفس الأشكال ونفس الصور الني عبروا بها عن مشاعرهم ذلك أن المشاعر قد تكون واحدة والأفكار قد تلتقي ولكن أسلوب الصياغة وشكل التعبير يختلف من امة لأخرى كما يختلف من فرد إلى آخر. لقد انتهى البحث في الحضارة الإنسانية عند الفيلسوف الألماني أرنست كاسيير إلى القول بأن الأساطير والفن واللغة والدين ليست في الواقع سوى صور وأشكال رمزية يصوغ بها الإنسان مشاعره وانفعالاته. إن الأسطورة في رأيه لا تصدر عن تفسير عقلاني لحادثة أو قصة خيالية ولكنها تفسر وتعبر عما يسود حياة المجتمع من مشاعر وانفعالات. إنها تصدر عن أفعال وطقوس تقوم بها الجماعة. إنها ليست الانفعال نفسه، ولكن أسلوب وصورة تحوّل بها الانفعال إلى موضوع يمكن فهمه. وفي هذا التحول الذي تتموضع بع استجابة الإنسان تنشأ الحضارة الإنسانية، إنما العامل الأساسي في قيام الحضارة الإنسانية إنما يتلخص في أن الإنسان لا يكتفي بالتعبير المباشر عن انفعاله وإنما يحوّل انفعاله كما يحوّل مدركاته الحسية إلى رموز يتأملها. إنه يحوّل مدركاته الحسية إلى رموز اللغة ويحول رغباته وآماله إلى رموز دينية ويحول مشاعره وانفعالاته إلى أساطير . لذلك، إن جاز تفسير الحضارة العلمية بأنها المضمون الثابت، فالثقافة القومية الخاصة بأمة معينة هي الشكل الذي يكشف عن صدى هذه الحضارة على حياة أفرادها. فالمحاكاة والتقليد وإن جازا على ظواهر الحضارة من صناعات أو طرق بناء أو مواصفات إنتاج صناعية، فإنه لا يجوز أن نصطنع نفس الشكل الذي صاغوا به هذه المصنوعات، فقد تكون لنا طريقة أخرى في الاستعمال وقد يكون لنا ذوقنا الخاص في العمران الذي يتلاءم وبيئتنا الجغرافية وعاداتنا المحلية. إننا قد ننقل مواصفات إنتاج مادة ولكن لنا أن نشكلها بما يتناسب مع عاداتنا. وقديماً تشابهت حضارات بابل وكنعان والهند ومصر في أساسها المادي، فكانت الزراعة هي عماد حياتها ولكن ثقافة قدماء بابل وعقائدهم الدينية وفنونهم تشكلت بحسب بيئتهم واختلفت عن ثقافة مصر القديمة وثقافة الهند وكنعان، فكان لكل من هذه الثقافات أساطيرها وفنونها وسلوكها وعاداتها الخاصة. لقد كانت ظاهرة الفيضان مثلاً ظاهرةً عرفتها حضارة نهر النيل كما عرفتها حضارة ما بين النهرين. ولكن فيضان النيل محسوبٌ ومنظم على دورات. أما فيضان دجلة، فكانت عواصف هوجاء وطوفان عنيف. لذلك شعر إنسان الحضارة البابلية بعنف الطبيعة وبأنه لعبة في يد الأقدار والقوى الجبارة. ومن هنا كان الصراع في الطبيعة عنده أشد مما هو لدى المصري القديم . كذلك أيضاً قد تتشابه ظواهر الحياة التكنولوجية وصور الحضارة الحديثة في أمم مختلفة ولكنها تفجر أشكالاً مختلفة من الفنون والقيم وأساليب السلوك والحياة متنوعة. فقد وصل الإتحاد السوفييتي سابقاً إلى استخدام الأقمار الاصطناعية وسفن الفضاء مثلما توصلت إليها الولايات المتحدة الأمريكية ولكن لكل منهما ثقافته التي تتشكل بحسب أسلوب حياة أفراده وقيمه ومشاعره. لا ينبغي لنا أن نعتمد إلى التقليد، كما لا ينبغي أن نقف عند حد الترديد لما توصل إليه الأسلاف فنلبس نفس ثيابهم ونردد نفس أقوالهم ولكن علينا أن نعرف كيف كانوا يتغلبون على مشاكل عصرهم وكيف كانوا يبدعون ما يعبّر عن مواقف حياتهم ذلك لأن الحاضر يفشل إذا ما ترك الماضي يسوده ويفشل أيضاً إن لم يستفد من الماضي لأن من لا يستفيد من الماضي قد يقع في تكرار خطأ القدماء، كما قال الأديب الروسي غوغول:"من يحاول أن ينسى الماضي، فإن المستقبل سيطلق الرصاص مدافعاً عنه". إن خير ما يوضح لنا اتصال الثقافة القومية بمشاعر الأمة وأحلامها ما يُرْوَى في مسرحية فاوست لجوتيه. إذ يصور مشهداً يظهر فيه فاوست يشرب من شراب الساحرة ليعيد إليه شبابه ثم ينظر إلى المرأة المسحورة فتتم له رؤية عجيبة. لقد رأى وجه امرأةٍ ذو جمال أخّاذ، فدُهِش وأخذ بهذه الرؤية، ولكن الشيطان مفيستو كان واقفاً بجانبه، فسخر من حماسته ذلك لأنه كان يعرف أكثر من أن ما قد رآه فاوست لم يكن صورة امرأة حقيقية بل مجرد وهم من خياله. كذلك أيضاً، نحن نسقط على أشكال الحضارة وظواهر ثقافتنا المختلفة من قيم أخلاقية وفنون وأساليب في الفكر والعمل هي الجانب المشترك بين أفراد أمة ومجتمع معين، أو هذه هي مهمة الثقافة أن تقرّب من وجدان الأمة وأن تموضع لهم قيمهم ومعاييرهم وأحاسيسهم وهي الشكل الخاص بهم والذي لا يجب أن يكون مكرراً أو منقولاً ولكن يكوم شكلاً مؤصلاً عندما ينبع عن هذه المشاعر والقيم الأصلية وهو الشكل الذي تفجره الحضارة. ولا يلزم أن تفجر الحضارة شكلاً واحداً ولكنها تفجر أشكالاً تتناسب وحياة الإنسان الذي يحياها ذلك أن علاقة الإنسان بالآلة والتكنولوجيا هي في نهاية المطاف علاقة تبادل وتفاعل. والإنسان تشكله التكنولوجيا وتوجهه الآلة إلا أنه يستطيع أن يستجيب ويعبر عن استجابته بأصداء مختلفة يشكلها بإرادته وقدرته على الخلق والإبداع، وبهذا تتكون الثقافة فتكون شكلاً له تلك الحضارة بآثارها المادية واختراعاتها العلمية، ذلك لأن من الواضح أنه لا يمكن أن توجد الحضارة العلمية الحديثة في مجتمع ما بغير أن تؤثر في قيمه ووجدانه وفكره. ولكن ليس من الضروري أن يتخذ هذا التأثير شكلاً واحداً أو نمطاً ثابتاً في الأمم والمجتمعات المختلفة لأن ثمة عوامل ثقافية محلية كالمناخ الجغرافي والتراث الموروث وطبيعة الجنس الإنساني تتفاعل ونتاج الحضارة العلمية المادية لينتج عن هذا التفاعل ثقافة لها لونها الخاص وسماتها المميزة لها دو غيرها. |