عندما تهز عملية الإصلاح "عتاولة" الفساد...عبدالغني الحاجبي عالم بدون فساد هو الهدف الرئيسي لكثير من الدول والحكومات والمؤسسات والمنظمات الدولية. الفساد له آثار سلبية كبيرة تتعدى الإضرار بالمصالح الفردية إلى الإضرار بالمصالح الجماعية. هذه الآفة السياسية والاقتصادية والإدارية غزت الشعوب كلها وبدون استثناء ولكن بنسب متفاوتة. الفساد قضية موجودة منذ بداية البشرية ولكن تختلف مسمياتها باختلاف الزمان والمكان. ليس الهدف هنا استعراض مظاهر الفساد ومسمياته عبر التاريخ بل سأحاول عبر هذه السطور التطرق إلى قضية الفساد في المجتمع اليمني والمواقف المتناقضة لأرباب الفساد في البلاد. الفساد في اليمن جزء من الفساد العالمي قد يؤدي لقاء على فنجان قهوة، أو دعوة عشاء في أحد الفنادق الفخمة (ربما بآلاف الدولارات) ، في بلد فقير- مثل اليمن- وبسرعة كبيرة إلى ضياع مئات الملايين من الدولارات مما يسبب تعثر بل تلاشي خطط التنمية وتلاشى قرارات الاستثمار. طرق لا تكمل، ومدارس تسقط أو آيلة للسقوط،، وأنظمة صحية مشلولة، ومشروعات متعثرة هذه هي بعض الأمثلة التي تُبرز خطورة هذه الظاهرة في العالم. الفساد ليس ظاهرة يمنية أو عربية بل ظاهرة عالمية تكتسح كل الحكومات مع أن أغلبها تقوم في نفس الوقت بإنشاء اللجان واستصدار القوانين لمحاربة الفساد بغض النظر عن جدية تلك الدول من عدمه. ونرى في الأشهر الأخير تسارع وتعالى الأصوات المنادية بمحاربة الفساد في جميع أنحاء العالم. عقدت دول أمريكا الوسطى في منتصف شهر نوفمبر الماضي المؤتمر الثاني عشر لمحاربة الفساد، وقطع رؤساء تلك الدول عهداً على أنفسهم بمحاربة الفساد بالرغم من الصعوبة التي يواجهونها. وأكبر دليل على ذلك جواتيمالا، البلد الأكثر فساداً في أمريكا اللاتينية. ففي الوقت الذي وعد رئيسها الأسبق، الفينسو بورتيلو (2000- 2004)، بمحاربة الفاسدين وبدون رحمة هو أيضاً متهم بالفساد من قِبل قضاء بلده بسحب ما يقارب 17 مليار دولار من صندوق وزارة الدفاع. وإذا كانت دول أمريكا الوسطى قد عقدت مؤتمر لمحاربة الفساد فإن ذلك يعتبر خطوة جادة من تك الدول. أما في الشرق الأوسط فإن مؤتمر دولي ابتدأً من يوم الأحد 10 ديسمبر وحتى 14 ديسمبر 2006 تشارك فيه جميع الدول التي صادقت على معاهدة الأمم المتحدة لمحاربة الفساد . ويهدف المؤتمر إلى مناقشة مدى التزام حكومات هذه الدول الأعضاء بتعهداتها بمناسبة مرور عام على دخول المعاهدة حيز التنفيذ في 14 كانون الأول/ديسمبر 2005. واليمن هي من أوائل الدول التي شعرت بخطورة الفساد ومن أوائل الدول التي وقعت على هذه الاتفاقية. وإدراكاً منها بخطورة هذه الآفة على الوطن والمواطن فإنها قد عقدت العزم على محاربة الفساد الذي استشرى في العشر السنوات الأخيرة في جميع أجهزة الدولة. وما المؤتمرات التي عقدت في عدن في شهر نوفمبر الماضي والمؤتمر الذي عقد يوم السبت 9 ديسمبر في صنعاء وقانون محاربة الفساد الذي سبب ضجة كبيرة في قاعة مجلس النواب في الأسبوع الماضي لأدلة واضحة على خطورة آفة الفساد من جهة وجدية كل من الدولة والشعب في محاربة الفساد من جهة أخرى. الفساد في اليمن: ظاهرة أم جزء من آليات الأداء السياسي والاقتصادي والإداري؟ في الآونة الأخيرة أصبح الكل يهاجم الفساد، سواء الحكومة أو المعارضة أو الشعب، لكن الحديث عن الفساد ومهاجمته دون اتخاذ آليات جادة وحقيقية ليس إلا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع. رغم تعدد الأجهزة الرقابية في اليمن بدءاً من مجلس النواب والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ونيابة الأموال العامة وغيرها تعددت قضايا الفساد حتى تحول من مجرد ظاهرة محدودة إلى جزء من آليات الأداء السياسي والاقتصادي والإداري. والكارثة أن قضايا الرشوة واستغلال النفوذ لا يقتصر فقط على صغار موظفي الدولة بل صار المتهمون أيضاً ممن يتبوءون مناصب عليا في الدولة. فتضخم عدد القضايا وتضخم حجم الأموال المهدرة من إيرادات الدولة وأصبح من الصعب الإمساك ببداية إخطبوط الفساد. ولو حاولنا معرفة أسباب هذا التحول في منظومة الفساد من مجرد ظاهرة إلى مرض تأصل في جميع مرافق الدولة في الفترة السابقة نجد من أهم أسبابه التالي: 1- عدم فاعلية الأجهزة الرقابية. 2- سياسة الخصخصة وتحويل بعض شركات القطاع العام إلى القطاع الخاص وما يشوب هذه العملية من فساد وإهدار لأموال الدولة لصالح بعض المنتفعين. 3- سياسة الاقتراض التي تسارعت عجلتها في العشر السنوات الأخيرة. 4- الظهور المفاجئ لمجموعة من أصحاب المناصب العليا بشركات خاصة الغرض منها احتكار مناقصات الدولة. 5- ضعف الرواتب وعدم تكافؤ المدخول الشهري مع القوة الشرائية للفرد. 6- زيادة الاستهلاك لمختلف المنتجات العالمية وقلة الإنتاج وعدم الالتزام الوظيفي. 7- ترسخ الشعور في عقول الناس بأن القانون لا ينفذ إلا على المساكين مما أدى إلا الشعور بغياب العدالة. 8- انتشار المحسوبية والوساطة واستغلال أصحاب النفوذ لموارد الدولة لتحيق أهدافهم الخاصة. 9- عدم تقديم الفاسدين للمحاكمة العادلة ونشر ملفاتهم في الإعلام والصحافة. وأهم من هذا كله غياب النية الصادقة لمحاربة الفساد والتي بوجودها فإنه بالإمكان تبني الحلول المناسبة والفاعلة لهذه القضية الهامة. عندما تهز عملية الإصلاح "عتاولة" الفساد... تخبط ، وتناقض، وحملة شرسة على الوزير العسلي كم يفقد الإنسان مصداقيته عندما يبدأ بمهاجمة الحكومة أو وزير أو مدير بعد أن يتم عزله بسبب قضايا فساد أو عدم حصوله على ما يتمناه. لماذا لا يصبح هذا الشخص نزيهاً إلا عندما يفقد مكانه؟ هذا ما يحصل حالياً مع بعض من تم إبعادهم من مهامهم أو تغيير مناصبهم أو عدم حصولهم على ما تعودوا عليه. هذا ما نلمسه من الحملة الشرسة التي يشنها حماة الفساد بحق وزير المالية الدكتور سيف العسلي منذ أن تسلم وزارة المالية وبدأ يرسي فيها نظام مؤسسي يخدم مصلحة الوطن كله وليس مصلحته الشخصية والمنتفعين. قد تكون ردة الفعل هذه طبيعية عندما تهز عملية الإصلاح "عتاولة" الفساد لكن لا يجب السكوت عنها بل ينبغي مقاومتها وبكل الوسائل. الكل في السلطة والمعارضة يعرف نزاهة ومصداقية الدكتور سيف العسلي منذ أن كان محاضراً في كلية الاقتصاد، والكل يدرك كفاءته وخبرته في المجال الاقتصادي، لكن البعض ممن تضررت مصالحهم الشخصية منذ تسلمه وزارة المالية بدءوا ينشرون الإشاعات المغرضة ويحيكون له المؤامرات لإفشاله، لكن الشعب هو الحكم الأول والأخير. الوزير العسلي هو أحد أكبر الاقتصاديين في اليمن ويبذل الرجل جل جهده وطاقته لإرساء نظام اقتصادي مبني على أسس قوية. لكننا نجد أن هؤلاء الذين يشنون حملتهم المكشوفة يتخبطون في كل شيء وفي لا شيء، ينادون مع الشعب بمحاربة الفساد ويقفون في الوقت نفسه ضد محاسبة الفاسدين، ويحيكون المؤامرات لتشويه سمعة الآخرين بغير حق. حينما بدأت الحكومة بتنفيذ إجراءات الإصلاح تعالت أصواتهم ضد تلك الإجراءات الجادة. فماذا عساهم يريدون؟ هل يريدون الاستمرار في الوضع الحالي الذي هم أيضاً يعبرون عن عدم رضاهم عنه!؟ لكنك مهما فعلت أيها الوزير- وغيرك كل الشرفاء- لن يرضى عنكم الفساد ولا الفاسدين! لا أريد هنا أن أذكر أسماء لكي لا يتحول الموضوع من نقد أفكار متناقضة إلى نقد أشخاص وإن كانت أفكارهم هي جزء من شخصياتهم المريضة. فلتحدد هذه "الشلة" المشلولة فكرياً سواء كانوا من السياسيين أو الصحفيين ما إذا كانوا مع الفساد أم ضده، أم أنهم "يلعبوا على الحبلين"! أنا على يقين أن الكثير من القراء يعرفون جيداً التناقض الذي يعيشه هؤلاء وكلنا أمل أن تواصل الحكومة اليمنية مسيرتها في استئصال الفساد أينما كان لما فيه مصلحة الوطن والناس دون أن تعبأ لمن أراد أن يعيق مسيرة الإصلاح والتنمية. إن عملية محاربة الفساد تُعد صراعا بين الخير والشر، ولا يوجد أحد لا يحب أن ينتصر الخير على الشر إلا صانع الشر وأصحاب المصالح الضيقة. وعندما يحاول البعض تعطيل قانون الفساد فإن ذلك يُعد تعطيل لتقدم الوطن وإجباره على البقاء فريسة للأهواء والأمزجة الشخصية. وليس لأحد مصلحة في ذلك سوى "شلة" قليلة ممن يخافون على مستقبلهم ومستقبل حاشيتهم، فنراهم يعارضون قانون الفساد بالسر مرة وبالعلن مرة أخرى وهو مازال حبراً على ورق في مجلس النواب. إلى أين يريد هؤلاء أن يوصلوا هذا البلد!؟ اليمن لم يعد يتحمل أكثر مما وصلت إليه الحالة، والواجب تضافر جهود الجميع لتغيير الأوضاع إلى الأفضل. قانون الفساد الذي يُعد الخطوة الأولى الجادة التي كان من المفترض أن تتخذها الحكومة منذ زمن طويل يلاقي اليوم اعتراض من بعض من تتضرر مصالحهم الخاصة. لكن لم يعد الوقت مناسباً للانتظار وغض البصر عما يحدث. كل يوم يمر بدون اتخاذ إجراءات جادة يعتبر فرصة ضائعة كان بالإمكان استثمارها لجعل مجتمعنا اليمني أكثر تطوراً وأكثر شفافية. وإذا كانت الدولة قد أخذت على عاتقها محاربة الفساد بمقاييس حقيقية فهذه هي الخطوة السليمة في الاتجاه الصحيح، ليس فقط لتترجم التعهدات الدولية بل لبناء الدولة اليمنية المؤسسية الحديثة والقوية والتي هي مطلب الجميع. [*] - كاتب وباحث يمني - باريس |