يوميـات رمضـانية (6)

المؤتمرنت/خاص-نـزار العبـادي -
قصـص من مـوروث الحكمـة اليمانيــة
أعتقد أن الطبيعة القاسية وحدها من ينمّي قوة الحدس عند المرء، لأنها تضطره لشحذ همه وطاقاته الذهنية للتغلب على جلفها وعنادها، وبغير ذلك فإنها- بلاشك- ستقهره وتجعل حياته محض بؤس وشقاء. وربما كان ذلك هو سرّ اليمنيين في تبؤ منازل رفيعة من الحكمة، والذكاء الفطري في ترويض الحياة من قبل أن تدب العلوم الحديثة في عروق البشرية.
*فِراسَــة يمانيــة
جلستُ مرة إلى راعي غنم في شِعْب من محافظة البيضاء، فنظر الرجل إلى وقع أقدام محفورة على الرمال في مكان يبدو أن الحاطبات تعوَّدْن أن يسلكنه جيئة وذهاباً.
فأشار الراعي بإصبعه على أثر قدم وقال: (أنه أثر امرأة حامل)، فابتسمت وسألته ساخراً: (وكيف عرفت أنه أثر امرأة حامل؟ بالله عليك أنظر فيه ثانية وأخبرني متى ستولد!)
فانتقض الرجل من مكانه، وسحب نفسه قليلاً إلى الأمام، ومدّ غصن شجرة رفيع جداً مشيراً به إلى طبعات الأقدام وهمّ بالحديث قائلاً: (اسمع يا ولدي.. من خلال تجربتنا تعلمنا أن نميِّز ثلاثة أنواع من آثار أقدام النساء إذا سارت إحداهن فوق الرمل، أو مكان ترابي كثيف.فالبنت العذراء التي لم تتزوج بعد يكون المكان الأعمق في أثر قدميها في المقدمة – أي منطقة الأصابع . أما المتزوجة فيرتكز ثقلها إلى الخلف ، لذلك فإن مكان الكَعْب هو الذي يترك أثراً أعمق في الرمل .. لكن المرأة الحامل – الحُبلى- فيتوزع ثقلها على القدم بأكمله، فيتساوى عمق الأثر الذي تخلفه من جميع الجهات؛ حيث أن هذا الوضع في المشي يجعلها متوازنة أكثر..) ثم أضاف لي معلومة جديدة حول جمال المرأة قائلاً: (النساء في اليمن يضعن لثامة على وجوههن، ولباسهن طويل ومحتشم جداً ، لكننا تعلمنا أن من علامات حُسن وجمال المرأة هو أولاً كعب قدمها، فكلما كان كروياً كلما دلّ على حسنها، والثانية كفها، فإذا كانت راحة الكف غنية باللحم؛ بحيث لم يترك نتوء عظمي في حلقة اتصال الكف بالرسخ فإن ذلك من دلالات حُسن المرأة أيضاً).
*من القصص التي تروى عن حدة ذكاء ابن اليمن، هذه القصة الطريفة التي تحكي بأن أحد الفلاحين في قديم الزمان سرق خروفاً على أحد أبناء قريته، ولما افتقد صاحب الخروف خروفه، واكتشف أنه تعرّض لسرقة صار يسأل الناس عن خروفه ويبحث عنه بين بيوت القرية، ولكن دون جدوى. إلاّ أنه اهتدى أخيراً إلى فكرة ذكية وهي أن يمر بالفلاحين وقت الغداء وهم يعملون في حقولهم، فإذا ما كان في طعام أحدهم مرقاً ولحماً سيكون هو السارق.
فكان اليمنيون آنذاك يعانون من ضنك العيش، ولم يكُ بوسع أحدهم تناول اللحم بغير يوم الجمعة، وربما تمر بعض الجُمَع دون أن تحظى بعض الأسر بفرصة كهذه. وكان من عادات اليمنيين أن تشترك مجموعة من الأسر في شراء رأس غنم وذبحه وتقاسم لحمه، لذلك مازال الكثير من الناس يسمون اللحمة (شٍرْكة)- أي من الشراكة بالشيء.
وبالعودة إلى حكايتنا- فإن الرجل فكر أن يبدأ بحثه بالأكثر شبهة، فقصد الفلاح الذي سرق الخروف فعلاً، ووجده يسقي (يَسْني)، أو (ينزع الماء من البئر)- كما هو شائع من لفظ، ويردد بعض المغاني الشعرية التي اعتاد الفلاحون ترديدها أثناء العمل. فسلّم عليه وجلس تحت ظل شجرة بالجوار متذرعاً بالتعب من حّر الشمس، بينما هو في الحقيقة ينتظر وصول الغداء.
وبعد حين من الترقب لمح الفلاح زوجته من بعيد وهي تقبل عليه وصحن الطعام على رأسها، فقلق من الأمر وظن أن صاحب الخروف إذا ما رأى المرق واللحم بين الطعام سيكتشف أمر السرقة. فخطرت برأسه فكرة مفادها أن يرسل ببعض الإشارات لزوجته أثناء ترديدة للمغاني علّها تفهم القصد، فصار يتغنى بصوت عالٍ قائلاً :
يا مُقبلة يا بنت مُقَيْبلاني *** ردّي رَمق وادّي على زماني
مولي العنيّة جالس على الوداني *** ون زهدتِ إدَّيْت لش صَداقاً ثاني
كما وتروى الأبيات الشعرية في بعض مناطق اليمن على النحو التالي :
يا مُقْبلة بنت مُقْبل *** ردِّي غَدانا عَشانا
ردِّي غَدانا على زَوْم *** راعي الرَّعاعَة على السَّوم
لوْ فَهمْتِ كَلامي *** شاجيب لكِ مَهَر ثاني
وظل الفلاح يكررها مرراً، فسمعته الزوجة وفهمت المعنى، وعادت بالطعام لتمسح آثار المرق من العصيد، وتُبعد اللحم وتضع (زوم) على العصيد بدل المرق ثم قدمت إليه.
فلما وصلت نظر صاحب الخروف إلى الطعام فخاب ظنه واستأذن بالرحيل شاكراً الفلاح على دعوته لتناول الغداء معه. وهكذا لم يفتضح أمره، ويُقال أن الفلاح كافأ زوجته بإهدائها واحدة من أفضل أراضيه الزراعية،والتي يسمونها (جِرْبة) وجمعها (جِرَبْ).

* من أقوال الحكيم الحُميد بن منصور:
- (الشوم على أهله حمولة... والجيد حّمال الأثقال)
- (يقول الحُميد بن منصور... نخس البتول ينفع الثور
بعض الرجال مثل ثوره.... والثور أصبر على الجور)
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 12-مايو-2024 الساعة: 08:05 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/3910.htm