المؤتمر نت - د. محمد الرميحي
د. محمد الرميحي -
حرب الهويات تهدد مستقبل الشعوب العربية
ربما يحتاج العرب اليوم إلى كاتب مثل الياباني «اهيرو كوساكي» الذي نشر كتابا في الستينيات من القرن الماضي بعنوان «سقوط القناع الياباني» صارح فيه أهل بيته بنقائصهم السياسية والاجتماعية. فمستقبل العرب مكتوب على الحائط لمن يريد أن يقرأ، وهو مستقبل مظلم، يعود بهم بسرعة شديدة إلى «الهويات الصُغرى» ويفرقهم إلى مجموعات عشوائية.

حدثني زائر عراقي بقوله إن القتل في العراق أصبح بسبب الاسم فقط، فقد قتل قبل فتره أثنى عشر شخصا لان أسماءهم تبدأ بعثمان! كما نقل لي صديق قبل ذلك بفترة قصيرة أن طلب منه برجاء حار أن يحاول تخليص ابنين لأحد أصــــدقــــائـــه، خُطفا لان اسميهما بالصدفة علي وحسين. تلك حقائق على الأرض تفسر جملة الصراعات التي يدخلها عالمنا العربي. الذي يفرق أبناؤه بعضهم بعضا بسبب الهوية والانتماء الضيق ليس في العراق فقط، بل وفي لبنان وفي السودان وحتى في فلسطين، فأنت تستطيع أن تفرق بين الفتحاوي والحمساوي ببساطة عندما تنظر إلى أيهما يلبس الكرافتة أو الآخر يترك ياقة قميصه مفتوحة!! إنها هويات متصادمة،وإن لم تكن موجودة فإنها تخلق، إما من خلال تعميق الهويات القائمة أو من خلال استنبات جديدة، كالاكتشاف فجأة أن هناك «أكثر من إسلام» وفرق «ناجية» وأخرى «مدانة».

قبل خمسين عاما بالمقارنة نشر المفكر والفيلسوف البريطاني ارنولد توينبي كتابا كان بمثابة الكتاب الأهم لجيلنا، والكتاب بعنوان «من النيجر إلى النيل» أهمية الكتاب وقتها أن توينبي،وبعد عدد من المقارنات، وهو المؤرخ الأشهر، تنبأ بالتالي فقال «إذا أنجز العرب وحدتهم بنفس معدل انجاز الوحدات الأوربية، التي حدثت في القرن التاسع عشر، فسوف تتحقق الوحدة العربية عام 1974». فات على ذلك التاريخ أكثر من ثلاثة عقود اليوم،ولم يتحقق حتى جزء مما تنبأ به ذلك المؤرخ، بل ان ما كان وقت نشر كتابه موحدا، تفتت إلى أجزاء.

الغريب أن ما قال به توينبي كان معتمدا على دراسات قياسا على الوحدتين الألمانية والايطالية التي تحققت في القرن التاسع عشر،ولو بقي المؤرخ حيا إلى اليوم ربما فوجئ بالوحدة الأوروبية التي انتشرت من الغرب إلى الشرق.

لقد انتقل الرجاء العربي من الوحدة إلى طلب متواضع هو التنسيق وحتى وحدة العمل، وحتى ذلك غير موجود، وأصبح العربي عدوا للعربي الآخر في موطنه الواحد، يعد له العدة ويحمل ضده السلاح.

جزء من المعضلة أن الذات العربية التراثية والحضارية طمست واهيل عليها الكثير من التراب، وقد استعصى علينا حتى الآن الانخراط في الإيقاع الحضاري والثقافي المعاصر،فوجدنا أنفسنا نبحث عن الجزئيات في تاريخنا ونعظم الخلافات ونتجاوز المشترك،ولم تعد «الوحدة» الشاملة مشروعا غير محتمل الحدوث، بل وأصبحت الوحدة الوطنية هدفا بعيد المنال في بعض دولنا.

إن الدعوة لإعادة تفسير التراث طبقا لمنطوق العصر وحاجاته هي الدعوة الصحيحة،فكيف يقاتل بعضنا بعضا بسبب أحداث مضى عليها أكثر من ألف عام؟ ولم تعد «الدولة الإسلامية» على كثرة المنادين بها هدفا عقلانيا يمكن أن يتحقق، بل أصبح لزاما على الجميع الحديث عن المواطنة، وهي الشكل المقبول عالميا وممكن تحقيقه على الأرض.

أما تقسيم المواطنة إلى هويات مختلفة تحت ذرائع مختلفة ما هو إلا محاولة لتدوير المربعات،عبثية وغير ممكنة. فلا احد يرى غير الفلسطيني يمكن أن يتحمل تبعات تحرير بعض أرضه، مهما قدم له الآخر من الكلمات المعسولة والوعود، ولعل التوجه لحكومة «وحدة وطنية» فلسطينية هي عين العقل، وكان يجب أن تأتي باكرا وليس لاحقا.

ولا احتفاظ جزء من الشعب اللبناني بقوة سلاح ضاربة تحت أية ذريعة سوف ينجي لبنان من المصائب، بل النجاة هي في الوحدة الوطنية،وحدة الهدف ووحدة السلاح.تحت مظلة الدولة.

كما أن قتل العراقي للعراقي سوف لن يأتي بالسمن والعسل لأهل العراق، فلا مناص أن يعيشوا معا تحت سقف الدولة الواحدة. أليس حرب الهويات المتنافرة في الوطن الواحد عملية عبثية وفارغة من المحتوى؟ إذن لماذا يتشبث بها البعض إلى حد الموت ؟

للإجابة عن هذا السؤال لابد من إذكاء روح العراك بين الفكر ونفسه، فالعيش على أفكار تأخذ العامة إلى مواقع التهلكة وتعطل ملكة العقل وتستهلك الطاقات وتحديات العصر تضربنا بقوة هو إضعاف ما بعده إضعاف للدولة العربية الحديثة. فلم يعد هناك بديل ثالث بين الانحطاط والانقراض من جهة وبين النهضة من جهة أخرى إلا العودة إلى العقل. إن الإعاقة التي تفرضها حرب الهويات على بلداننا من السودان حتى العراق مرورا بكل ما يحدث في منطقتنا العربية من اليمن حتى الجزائر،هذه الإعاقة هي اخطر من إعاقة المستعمر التي مرت بنا في القرن الماضي،واخطر من كل الأمراض التي ضربت امة العرب.

الحروب العربية الأهلية التي تنخر جسم شعوب عربية عديدة اليوم ليست بعيدة عن الجميع، فهي احدى حقائق العيش العربي.، ولأنها كذلك فان من الخطأ التغاضي عن نتائجها وشرورها، وفي الاجتماع القادم للقمة العربية قريبا والتي ستعقد في الرياض من الواجب طرح الأمر على الجميع، كما يتطلب تساند الجميع لوضع حلول عقلانية لهذه الحروب الأهلية الدائرة، أو التي تلوح في الأفق.

فهل يقرأ الجميع ما هو مكتوب بحروف كبيرة على الحوائط؟
الوطن
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 28-مارس-2024 الساعة: 05:52 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/40616.htm