المؤتمر نت - د. برهان غليون
د. برهان غليون -
المسؤولية العربية تجاه العراق
يمكن للعرب أن ينكروا مسؤوليتهم عما وصلت إليه الأوضاع في العراق، ويلقوا باللائمة كلية على الولايات المتحدة الأميركية التي ليس هناك أي سبب عند أي عربي لتوفير نقدها وتجريمها. ويمكنهم أن ينسوا ما قدموه، حكومات ورأياً عاماً، من دعم كبير لنظام صدام حسين ولخياراته التي كانت توصف بالقومية منذ انتزاعه السلطة، ومن تأييد لسياسات مراكمة القوة العسكرية، سواء أكان ذلك لضمان استمرار الحكم في الداخل أو لتأكيد النفوذ في الخارج. كما يمكنهم تناسي تحريض العديد من دولهم وأحزابهم وجماهيرهم على الحرب ضد إيران واستنجادهم بالعراق بوصفه البوابة الشرقية للوطن العربي. ويمكنهم كذلك تناسي موقف الجامعة العربية بأغلبية أعضائها من الحرب الأميركية الأولى على العراق عام 1991 ومشاركتهم العسكرية فيها، والصمت عن عقد ونيف من الحظر على الشعب العراقي وما أحدثه من تدهور مخيف لشروط معيشته. ويمكنهم أيضاً نسيان ما قدموه من دعم للتمرد الطائفي أو العشائري على أمل تحويل العراق إلى مقبرة للجيوش الأميركية وإنزال هزيمة بواشنطن تردعها عن الاستمرار في تطبيق أجندتها الاستعمارية الجديدة، ما يعني تحميل الشعب العراقي فاتورة الصراع ضد السياسة الأميركية العدوانية، بصرف النظر عن سلامة الموقف المناوئ لهذه السياسة.

لكن العرب لا يستطيعون التنكر لمسؤولياتهم اليوم في إنقاذ العراق من كارثة إنسانية، وتخليص شعبه من دوامة الاقتتال والفوضى التي دخل فيها أو قيد إليها من قبل الأطراف الدولية والإقليمية. والسبب أن نتائج انهيار الأوضاع في العراق لم تعد تقتصر على الشعب العراقي وحده، بل تهدد مستقبل الشعوب العربية المحيطة به، وتزيد من مخاطر انتشار العنف، بل تزيد من احتمالات فتح جبهة صراع إقليمية طائفية لن يستطيع أحد البقاء بمعزل عنها أو الاستفادة منها. إن تنكر العرب لمسؤولياتهم تجاه العراق، سيكون اليوم تنكراً لمسؤوليتهم تجاه بلدانهم وشعوبهم نفسها.

أقول هذا لأن كل الدلائل تشير إلى أن المرحلة القادمة في العراق قد تكون أكثر خطراً على الشعب العراقي والشعوب العربية من كل ما شهدناه في السنوات الماضية. فمن شبه المؤكد أن مخطط تأمين بغداد الذي تراهن عليه واشنطن لكسب الوقت، لا يملك أي أمل في النجاح. وها هي بريطانيا تعلن سحب قواتها من الجنوب العراقي، في وقت بدأنا نشهد فيه لأول مرة تطوراً خطيراً في نوعية السلاح المستخدم من قبل الميليشيات العراقية المتنازعة. فإذا حصل وقررت هذه الميليشيات، في صراعها الدامي على الموارد والسلطة، استعمال الأسلحة الكيماوية، وإن كانت أسلحة حرفية أو يدوية، فسيدخل العراق والمشرق العربي كله في دائرة تصعيد غير مسبوقة، ولن يكون معيار الانتصار السيطرة على المواقع الجغرافية أو السياسية أو اقتسام الموارد، وإنما المزاودة في عدد القتلى. وستكون تلك دائرة الموت المعمم في المشرق العربي كله.

من المشروع أن نفرح بهزيمة القوات الأميركية وبإخفاق واشنطن في فرض أجندتها العدوانية على منطقة عانت من تجاهل إرادة شعوبها وحكوماتها معاً من قبل الدول الكبرى. لكن بعد التعبير عن هذا الفرح، يتوجب على الدول العربية، حكومات وشعوباً، أن تتحمل مسؤولياتها تجاه العراق والشعوب العربية الأخرى، وتفكر في بديل عن الفشل الأميركي وأن لا تكتفي بالتصفيق، بل عليها أن تشرع منذ الآن في بناء شبكة إنقاذ تجنب العراق السقوط في الجحيم وتضمن انتقاله إلى ما بعد الاحتلال بحد أدنى من المخاطر والمفاجآت. من دون ذلك ستكون نهاية المغامرة الأميركية أسوأ عواقب على العرب من استمرارها. فلن يكون العراق أفضل حالاً بالنسبة لشعبه، ولا أقل خطراً على جيرانه، إذا كرس خروج القوات الأميركية والبريطانية أو هزيمتها سيطرة الميليشيات على السلطة وفتح الباب أمام مرحلة تعميم الحرب الأهلية الطائفية في جميع مناطقه. فمثل هذا الاحتمال يعني ببساطة اندلاع حروب تطهير عرقية ستمتد من الشمال حتى الجنوب. لأن منطق الصراع سوف يدفع لا محالة كل فريق إلى تطهير ما يعتقد أنها أرضه أو موطنه الأصلي الطبيعي في سبيل تعزيز موقفه الاستراتيجي في مواجهة الخصم.

حتى الآن وقف العالم العربي على الحياد لأن سياسة القوة الأميركية واجهت إجماعاً واسعاً حول هدف واحد هو إحباط السياسة الأميركية في العراق. أما الآن وقد تحقق هذا الهدف ولم يعد هناك ما يمكن إضافته إليه، فينبغي أن يكون الهدف الجديد إنقاذ العراق. ويعني الإنقاذ وقف الحرب الأهلية ومساعدة العراقيين على التوصل إلى تسوية تضمن مصالح جميع الأطراف وتفاهمهم على العيش المشترك. وبديل ذلك هو الحرب الدائمة وسير المنطقة بأكملها نحو الهاوية.

يمكن للعرب أن يسترشدوا بتجربة مؤتمر الطائف الذي نجح في تحقيق تسوية لبنانية أوقفت الحرب. مع الأخذ بالاعتبار أن العراق ليس لبنان، لا من حيث طبيعة النزاع وظروفه ولا عدد الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في النزاع. إن إيجاد تسوية في العراق غير ممكن بالاقتصار على المحيط العربي. إنه يستدعي تفاهماً إقليمياً يجمع بين بلدان المنطقة الرئيسية، والتي يشكل النزاع في العراق اليوم مناسبة لإبراز تباين خياراتها ولإظهار خلافاتها وتصادم استراتيجياتها القومية والإقليمية المختلفة. فمثل هذا التفاهم وحده هو الذي يخلق فرص تسريع انسحاب القوات الأميركية بقدر ما يؤمن العراق أمام مخاطر توسع الحرب الأهلية ويخلق شروط ملء الفراغ الذي أحدثه انهيار الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط بأكمله. فأي تفاهم حول العراق ينبغي أن يمر بتفاهم مسبق بين بلدان المنطقة، كما يتطلب إيجاد تسويات للنزاعات القائمة بين تلك الأطراف. وهو ما يستدعي التفكير بمشروع نظام إقليمي جديد قائم على دول الشرق الأوسط نفسها، لا يهدف إلى معاداة الأميركيين أو غيرهم، بل يسعى إلى ملء الفراغ الذي تركه منذ الآن، وسوف يبرز بشكل أكبر، إخفاق التكتل الغربي الذي تحكم بمصير المنطقة منذ أكثر من قرن، في الاحتفاظ بسيطرته المطلقة عليها وهيمنته الدائمة على شؤونها الإقليمية. إن المطلوب هو خلق إرادة جماعية إقليمية تأخذ على عاتقها المساهمة الكبرى في حل شؤون المنطقة ونزاعاتها وإيجاد الفرص والحلول المناسبة لمشكلاتها الخاصة، بعيداً عن تدخل الدول الكبرى الخارجية ونزاعاتها. نظاماً يضمن مصالح الأطراف الشرق أوسطية ولا يضحي بالمصالح الحيوية للدول الكبرى التي تحتاج إلى نفط المنطقة وتعاونها.

في هذا الإطار لا يبدو من المفيد عقد مؤتمر القمة الإسلامي المصغر في باكستان دون مشاركة إيران وسوريا. لكن لن يقلل ذلك من أهميته إذا كان هدفه توحيد مواقف الدول القريبة من الغرب قبل بدء مباحثات جماعية تضم جميع دول الشرق الأوسط، وتفتح الطريق أمام تسوية مقبولة في العراق، وربما الاتفاق على إرسال قوات إقليمية مشتركة تهدف إلى وقف القتال والتمهيد لرحيل قوات الاحتلال. وجهات نظر

تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 19-أبريل-2024 الساعة: 05:17 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/40954.htm