إيان شابيرو -
أزمات ما بعد الحرب الباردة...سياسة الاحتواء هي الحل
خلال الاثني عشر شهراً الماضية، دعا عدد كبير من المعلقين والمحللين السياسيين، ابتداءً من "جورج ويل"، و"باري بوزين"، أستاذ العلوم السياسية، وصولاً إلى الكاتب الصحفي "توماس فريدمان"، إلى أنه ربما من الأفضل احتواء إيران ولجم جماحها النووي، بدلاً من توجيه ضربة عسكرية لها. وفي الشهر الماضي، انضم "كينيث بولاك"، من "مؤسسة بروكينجز" إلى هذا المعسكر، من خلال إعداده لدراسة دعا فيها للعودة إلى سياسة الاحتواء في العراق، على رغم كونه فيما مضى، من أشد مؤيدي الغزو في عام 2003، استناداً الى قناعته وقتئذ بفشل سياسة الاحتواء في التصدي للخطر العراقي. وفي المنحى ذاته، ذهبت "مجموعة دراسات العراق" بقيادة جيمس بيكر، في تقريرها الذي نشرته في شهر ديسمبر المنصرم، إلى دعوة الولايات المتحدة للعمل والتعاون مع كل من سوريا وإيران، من أجل احتواء النزاع العراقي.

وكما نعلم فإن "سياسة الاحتواء" هي مفهوم من مفاهيم الحرب الباردة، كان قد صاغه وبلوره، المؤرخ والدبلوماسي "جورج كينان"، في أواخر عقد الأربعينيات، في مقال شهير له نشر بمجلة "الشؤون الدولية" تحت عنوان "مصادر السلوك السوفييتي"، تحت اسم مستعار هو X، بحكم حساسية منصبه كسفير للولايات المتحدة في موسكو حينئذ. ويمكن تلخيص فحوى ما دعا إليه "كينان"، في أنه وطالما لم يبادر الاتحاد السوفييتي بمهاجمتنا، فإن علينا ألا نهاجمه، وأن نعتمد بدلاً من ذلك، على "عصانا وجزراتنا الاقتصادية"، وكذلك على الدبلوماسية وعملنا الاستخباراتي، فضلاً عن الترويج لصحة وحيوية الرأسماليات الديمقراطية، بغية الفوز بالحرب الباردة. وكتب "كينان" في هذا المنحى قائلاً:"صحيح أن الروس يتطلعون إلى توسيع نفوذهم الإقليمي والدولي، لكن ومع ذلك، فإن على الولايات المتحدة الأميركية، أن تبنى سياساتها على أساس بعيد المدى، وأن تلتزم الصبر والحزم معاً، مع توخي اليقظة التامة في احتوائها للنزعات التوسعية الروسية". وكان في اعتقاده "أنه وبمرور الوقت، فإن الاتحاد السوفييتي آيل للانهيار من تلقاء نفسه، بسبب ضعفه وانعدام تماسكه الداخلي، وبسبب تمدده بعيداً وعلى نحو منهك واستنزافي، خارج حدوده السياسية والجغرافية". وقد أثبت التاريخ صحة ما ذهب إليه "كينان".

غير أن ذلك كان في الماضي، فماذا عسانا أن نفعل اليوم، مع مخاطر ومهددات ما بعد الحرب الباردة؟ والشاهد أن سياسات الاحتواء التي انتهجناها إزاء نظام صدام حسين، قد أخفقت في معرض أفضليات وخيارات المواجهة، أثناء الإعداد السابق للغزو، عندما وصفت إدارة بوش تلك السياسة بأنها لم تعد ملائمة للتصدي لجملة التحديات والمخاطر التي يواجهها عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، على حد قولها. وإذا ما واصل تنظيم "القاعدة" شن هجماته وعملياته الإرهابية، بينما ظل الإرهابيون طلقاء يجوبون العالم كيفما شاؤوا، بينما استمرت حكومات الدول المارقة في مدهم بالسلاح وتوفير الملاذات الآمنة لهم– والحديث لا يزال للإدارة- فإنه ليس من وسيلة أخرى تحمي به أميركا وحليفاتها الديمقراطيات نفسها، سوى اللجوء إلى الإجراءات الراديكالية، سواء كانت حرباً احترازية استباقية، أم تغييراً قسرياً للأنظمة المارقة.

وقد كان هذا الاعتقاد، بمثابة عودة إلى سياسة "الدحرجة إلى الوراء"- أي تلك السياسة الرامية إلى طرد السوفييت وإخراجهم من دول أوروبا الشرقية- التي كان قد اقترحها كل من المرشحين جون فوستر دالاس، ودويت إيزنهاور، أثناء حملتهما الانتخابية لعام 1952، غير أنهما سرعان ما استبعداها، ما أن وصلا إلى قمة مواقع السلطة واتخاذ القرار في العام التالي، بدعوى لا عمليتها وعدم جدواها.

وكما سبق القول، فقد أدرك "كينان" منذ عقد الأربعينيات، أنه من الأفضل لو أن عملنا جميعاً من أجل عالم لا يسوده أحد. وبسبب تلك القناعة، فقد رحب كثيراً بمناهضة الرئيس اليوغسلافي الأسبق، "جوزيف تيتو"، للهيمنة السوفييتية، تأسيساً على قاعدة أن انشقاق المعسكر الاشتراكي على نفسه، فيه مصلحة لمعسكر الرأسمالية الليبرالية. وهذا هو الدرس الذي غاب عن عين إدارة بوش الحالية. والملاحظ أنه قد توفرت لهذه الإدارة، ميزانية مالية هائلة، لم تتوخ الحيطة والحذر، في تبديدها في حروبها ومغامراتها العسكرية الأخيرة، طوال السنوات الماضية. غير أنها باتت اليوم مواجهة بدين حربي مالي في العراق، فاق حد التريليون دولار، مصحوباً بعجز عام في الميزانية الحكومية، لا يخفى عن عين أحد من المراقبين.

وبدلاً من أن تنحو الإدارة منحى "كينان"، القائل بتشجيع إثارة الشقاق والخلافات في صفوف أعدائنا، هاهي توفر لهم فرصاً مجانية ثمينة لتوحيد ورص صفوفهم ضدنا، في كل مرحلة من مراحل حربها عليهم. وليس أدل على ذلك من تشخيص بوش لما وصفه بـ"محور الشر" في خطابه عن "حالة الاتحاد" لعام 2002. وليس أقله كذلك، إقصاؤها لإيران في ظل رئاسة محمد خاتمي، ورجوح كفة الإصلاحيين في السياسات الإيرانية وقتئذ!

ومنذ عقد الأربعينيات كان من رأي "كينان" أن السبيل الأفضل لكسب العقول والقلوب، هو البرهنة على تفوق الرأسمالية الليبرالية، وتقديمها مثالاً مجسداً لأعدائنا وأصدقائنا على الأرض. ولا تزال تمثل هذه الرؤية بلسماً شافياً لأدواء عصرنا الحالي. والسبب هو أن الأصولية الإسلامية، شأنها في ذلك شأن الخطر السوفييتي السابق، تتقاسمان أرضية واحدة مشتركة، هي عجزهما عن تقديم نموذج اقتصادي سياسي قابل للعيش والبقاء. وأمامنا ما حدث للاقتصادين الإيراني والأفغاني، إثر وصول الأصوليين الإسلاميين إلى السلطة، في كلا البلدين. والمؤسف أن "كينان" قد رحل عن دنيانا قبل عامين، إلا أن نهج الاحتواء الذي خطه، يجب ألا يقبر معه.. لأننا أحوج ما نكون إليه اليوم.


أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز "ماكميلان للدراسات الدولية والإقليمية" بجامعة "يل" الأميركية.
*وجهات نظر


تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 24-أبريل-2024 الساعة: 05:49 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/40955.htm