المؤتمر نت -
صلاح الدين حافظ* -
الإسلام السياسي والحكم والدولة المدنية
مازلنا منذ مقال الأسبوع الماضي نتحدث عن معضلة العلاقة المعقدة بين نظم الحكم في بلادنا‏,‏ وبين مايسميه الناس تيار الإسلام السياسي‏,‏ بجناحيه القتالي الجهادي بتفريعاته العنقودية أولا‏,‏ وثانيا السياسي والدعوي‏,‏ وإن كانت القاعدة تحتل واسطة العقد في الجناح الأول‏,‏ فإن جماعة الاخوان المسلمين تمثل المظلة وربما القيادة التاريخية في الجناح الثاني‏.‏

وفي الوقت الذي ترفض فيه القاعدة وحلفاؤها‏,‏ كل نظم الحكم القائمة‏,‏ وتكفرها باعتبارها عميلة للغرب الكافر‏,‏ ومن ثم تدعو لتدميرها وإزاحتها تماما من السلطة‏,‏ فإن جماعة الاخوان‏,‏ بعد تردد طويل‏,‏ بادرت قبل شهور قليلة بإعلان برنامج أولي لحزب سياسي يمثلها‏,‏ فإذا بها تتلقي الصدمات تلو الصدمات‏,‏ بدلا من ترحيب كانت تتوقعه‏!‏

لقد حاولت الجماعة المحظورة قانونيا الناشطة واقعيا‏,‏ أن توجه خطابا براجماتيا للرأي العام في مصر والعالم من ناحية‏,‏ وللنظم الحاكمة المعادية لها من ناحية أخري‏,‏ تقول فيه إنها ترغب وتسعي للاندماج في الحياة السياسية‏,‏ والدخول تحت مظلة الديمقراطية‏,‏ التي كثيرا ما رفضتها تاريخيا هي ومؤسسوها الأوائل‏,‏ باعتبارها تقليدا غربيا نقيضا لأصول الاسلام‏!‏

لكن البرنامج الذي طرحه الاخوان‏,‏ لتأسيس حزب سياسي‏,‏ اصطدم فور إعلانه بعديد من العوائق والرفض المصحوب بالصدمة‏,‏ لأنه جاء في بعض أسسه السياسية والفكرية نقيضا لمبادئ الديمقراطية‏,‏ مثل المساواة والتسامح وقبول الآخر‏,‏ خصوصا فيما يتعلق بالمرأة والمواطنين المسيحيين‏,‏ حين حرم البرنامج هؤلاء جميعا من حق الولاية وتولي المناصب الرئيسية‏,‏ وحين أكد مفهوم الاخوان لتطبيق الشريعة الاسلامية الواردة في المادة الثانية من الدستور‏,‏ وحين ابتدع هيئة العلماء لتكون مرجعا دينيا أعلي لها حق القبول أو الرفض لسياسات السلطة التنفيذية ولتشريعات البرلمان المنتخب‏,‏ ربما تقليدا للنموذج الايراني‏!‏

وبرغم ان البرنامج تعرض في أبوابه الخمسة للتوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏,‏ وفق المفهوم الاخواني بالطبع‏,‏ إلا أن القراءة الدقيقة لهذا البرنامج‏,‏ تدل علي أنه برنامج للحكم في دولة دينية‏,‏ وليس اجتهادا سياسيا لحزب في دولة مدنية يقبل بشروطها وأفكارها الرئيسية‏,‏ وإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي أن فكر ورؤي الآباء المؤسسين‏,‏ أو الحرس القديم‏,‏ داخل الجماعة لايزال هو المسيطر‏,‏ برغم محاولات الأبناء السياسيين‏,‏ أو الحرس الجديد‏,‏ صياغة برنامج يوائم بنوع مابين الجماعة الدعوية التقليدية وبين الفكر السياسي الحديث‏,‏ الذي يشتعل ويزدهر بمبادئ الديمقراطية‏,‏ في ظل الدولة المدنية‏.‏

وفي ظل هيمنة فكر الحرس القديم‏,‏ المتمسك بفكر الجماعة وإصرارهم علي الجمع بين المصحف والسيف‏,‏ بين السلطة الدينية وسلطة الحكم المدنية‏,‏ انكسر جناح الحرس الجديد‏,‏ في مواجهة جمود الكبار‏,‏ فهجرها شباب كثيرون‏,‏ وانكفأ غيرهم داخل أطر وتنظيمات الاخوان‏,‏ يحاولون قدر الإمكان‏,‏ تحينا لفرصة جديدة‏.‏

***‏

هكذا رأينا كيف تركت مجموعة الوسط بقيادة أبوالعلا ماضي وعصام سلطان‏,‏ تنظيم الاخوان‏,‏ في ظل حافز التجديد والتحديث مع التمسك بالأصول الإسلامية‏,‏ وكيف أخذت رموز اخوانية قديمة ومشهورة لنفسها سبيلا آخر‏,‏ بالصمت أحيانا‏,‏ وبالتصريح أحيانا أخري‏,‏ وكيف استمرت مجموعة أخري منها عبدالمنعم ابوالفتوح وعصام العريان‏,‏ تحاول من داخل تنظيم الجماعة تغيير مفاهيم الآباء الكبار سنا ومكانة في قيادة مكتب الإرشاد‏.‏

إلا أن المحصلة الأساسية حتي الآن بعد أسابيع من طرح مشروع تأسيس الحزب السياسي للاخوان‏,‏ هي المراوحة بين صدمة الرفض المطلق من أطراف وقوي سياسية وثقافية عديدة‏,‏ وبين المراجعة والتعديل مصحوبا بالنقد الرقيق من جانب قوي وشخصيات أخري‏,‏ ولم يكن السبب في كل ذلك إلا حالة الغموض المقصود الذي صيغ به برنامج الحزب‏,‏ في وقت يتطلب الوضوح والإفصاح‏,‏ وإلا تغليب ماهو ديني علي ماهو سياسي في الدولة‏,‏ وإلا تهميش المرأة والتمييز في المناصب العليا ضد المسيحيين‏,‏ وإلا فرض الوصاية الدينية العليا علي سلطات الدولة الحديثة‏!‏

والمؤكد أن أصدقاء الاخوان‏,‏ وأنصار دمج التيارات الاسلامية السياسية المعتدلة في العملية الديمقراطية الحديثة‏,‏ كانوا أول المصدومين في برنامج حزب الاخوان‏,‏ لأنهم توقعوا تطورا في فكر الاخوان‏,‏ وانتظروا مبادرة جريئة من جانب الجماعة‏,‏ تزيل هواجس القوي السياسية المدنية‏,‏ وتقنع المتخوفين بأن الاخوان يعملون حقا علي الاندماج في مجتمع الدولة المدنية‏,‏ ويقبلون بشكل واضح بمبادئ الديمقراطية الحقة‏,‏ ابتداء من حرية الرأي والتعبير والاجتهاد والاعتقاد‏,‏ وصولا لحرية تداول السلطة وتبادل المواقع من القمة إلي القاع‏,‏ دون استغلال الدين في السياسة‏.‏

ولسوء حظ جماعة الاخوان في مصر‏,‏ ان طرحهم لبرنامج حزبهم السياسي المقترح‏,‏ قد جاء في أوقات غير مواتية لقبول التيارات الاسلامية شريكا نشيطا وفعالا في الحياة السياسية‏,‏ بعد تنامي تهديدات القاعدة وفروعها بل تنفيذها عمليات دموية وإرهابية‏,‏ وفي ظل النتائج المأساوية والأخطاء الفادحة‏,‏ التي وقعت في دول عربية شارك فيها الاخوان المسلمون وتيارات إسلامية اخري في السياسة والحكم‏,‏ كما حدث في السودان مع بداية ثورة الإنقاذ تحالف البشير ـ الترابي التي خاضت ما سمته حرب الجهاد الإسلامي في جنوب السودان‏,‏ وكما وقع في الجزائر منذ بداية التسعينيات وحتي الآن من مواجهات دموية بين السلطة والجماعات الاسلامية المسلحة‏,‏ وكما نراه الآن في غزة المحاصرة بعد انقلاب حركة المقاومة الاسلامية حماس علي السلطة الفلسطينية بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع‏.‏

ولا يزال الرأي العام في مصر‏,‏ يتذكر بكل معاني القلق‏,‏ مافعلته التنظيمات الاسلامية المتطرفة خلال الثمانينيات والتسعينيات وماارتكبته من جرائم ارهابية‏,‏ خصوصا جماعات الجهاد والجماعة الاسلامية والتكفير والهجرة والناجون من النار والطائفة المنصورة‏,‏ وغيرها مما يصنفه الخبراء علي انها كلها خرجت من عباءة الاخوان‏,‏ بدرجة من الدرجات‏,‏ وانها وليد النظام الخاص الذراع المسلحة لتنظيم الاخوان منذ القدم‏.‏

ونظن ان جماعة الاخوان المسلمين مازالت أسيرة فكرها القديم وموروثها التاريخي‏,‏ ومازالت تطبق مبدأ الطاعة المطلقة في المكره والمنشط‏,‏ لقياداتها من حسن البنا في البدايات‏,‏ حتي مهدي عاكف وعبدالله الخطيب اليوم‏,‏ ومازالت مترددة حقا في نزع غطائها الديني أو مفهومها للدين‏,‏ عن وجهها الحقيقي‏,‏ وطموحها السياسي ومازالت تراوغ في تقديم دلائل الإقناع للرأي العام علي الأقل‏,‏ بأنها تقبل فعلا بدخول اللعبة السياسية الديمقراطية بكل قواعدها المعروفة‏..‏ ولذلك فهي اليوم في مأزق‏!‏

***‏

وفي المقابل فإن جماعات وتيارات اسلامية سياسية في بلاد اخري نجحت فيما فشلت فيه جماعة الاخوان بمصر‏,‏ وها هي جماعة الاخوان في الاردن جبهة العمل الاسلامي تعمل شرعيا وتشارك سياسيا‏,‏ بل تدخل البرلمان والحكومة‏,‏ ليس لأن النظام الأردني متفاهم معها فقط‏,‏ ولكن لانها قبلت منذ البداية قواعد العمل السياسي العلني‏..‏ والأمر نفسه قائم في المغرب حيث جاء حزب العدالة والتنمية الاسلامي في المرتبة الثانية في الانتخابات الأخيرة‏,‏ وفي اليمن حيث حزب الإصلاح جزء رئيسي من التركيبة السياسية الرسمية‏,‏ و هكذا في الكويت والبحرين وغيرها‏.‏

أما في تركيا حيث يحكم الاسلاميون حاليا مدعومين بأغلبية برلمانية وبمنصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء‏,‏ فالتجربة لها خصوصيتها الشديدة وخلطتها النادرة‏,‏ التي يختلط فيها الديني بالدنيوي‏,‏ والمدني بالعسكري‏,‏ والاسلامي بالتغريبي‏,‏ والشرقي الآسيوي بالغربي الأوروبي‏..‏ ولم يحدث ذلك إلا بميراث من التغيير والتحديث انتقالا من بلاط السلاطين إلي مؤسسات الدولة الدستورية‏,‏ وإلا بانفتاح التيارات الاسلامية علي متغيرات العصر وشروط العيش فيه وقواعد الاندماج والتعامل معه‏,‏ وبالطبع جاء الرضا الأوروبي الأمريكي عن الاسلام التركي المعدل ليضفي مزيدا من البهارات علي الوضع كله‏!!‏

قد نعرف أن جماعة الاخوان في مصر تنتقد تجربة تيار الاسلام السياسي في تركيا‏,‏ وتراها تجربة لا تصلح شرعا وسياسة‏,‏ ولكن لماذا لا تمد الجماعة بصرها الي تجربة أبنائها وتلاميذها في الأردن وفي الكويت أو في المغرب الأقصي‏.‏

ونحسب أنها لو انفتحت وفطنت‏,‏ لغيرت كثيرا من أفكارها‏,‏ ولطرحت برنامجا سياسيا جديدا‏,‏ يقنع ويتحاور ويجادل‏,‏ ويزيل المخاوف والهواجس والشكوك المتراكمة‏.‏

أما أن تظل جماعة الاخوان‏,‏ متمسكة بالسلطة الدينية والسلطة المدنية‏,‏ فإنها ستظل محل شك الناس‏,‏ وموضع ارتياب القوي السياسية والديمقراطية‏,‏ وهدف القصف المدفعي لسلطة الحكم‏!‏

***‏

**‏ خير الكلام‏:‏
البصيرة أحد رؤية من البصر‏..‏


تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 08-مايو-2024 الساعة: 11:09 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/50652.htm