المؤتمر نت -
محمد أبوعبيد -
أقزام في الانتماء
المفارقة العجيبة فينا كعرب، هي أننا أهل الإسهاب والإطناب في الكلام، وذوو تنميق وتزيين في الحديث، لا يعرف الاختصار ولا الإيجاز طريقاً نحونا، إلا ما ندر. بيد أننا ماهرون ومحترفون في اختصار ذواتنا حين نجاهر أو نُسِرّ في انتماءاتنا العقائدية، أو المذهبية، أو الطائفية، أو الوطنية وحتى الفكرية. ليس من المضر بشيء أن يحدد المرء هواه واتجاهه أياً كان توصيفه، بل هو صحيّ يحمل دلالات تنفي أنه يعيش لمجرد أنه يأكل ويشرب وينام ويصحو. لكن الطريقة التي يمارس فيها كثيرنا هذه الرياضة الذهنية والروحية خاطئة، وتعود بالضرر والمفسدة على صاحبها، ولنا أن نتخيل ما سيحدث لمن يمارس الرياضة الجسمانية بالشكل الخاطئ.
النتيجة لهذه الممارسة غير المتمرس عليها صاحبها، هو هذا التجزؤ لما هو مجزأ أصلاً، فيختصر العالم الرحب والفضاء الواسع إلى مجرد جزء من قبيلة أو جماعة، أو حتى إلى مجرد انتماء إلى من يقود هذه الفئة أو تلك المجموعة، بصرف النظر إن كان قائداً بجدارة، أو قائداً خلقه الفراغ. يصبح هذا القائد ذا كلام لا يجوز تخطيئه، ولا تجوز معارضته، ولا يحق تبيان خلله. والأمثلة على ذلك كثيرة، تيسّر كثرة الفضائيات العربية علينا رصدها بالعينين والأذنين.
هذا الانتماء الضيق، ليس بمختلف عمن وضع نفسه طوعاً رهن الإقامة الجبرية، أو حتى في غياهب سجن فكري دشنه لنفسه. المصيبة هنا أنه يظن أنه يبني لنفسه قلعة تحميه، لكن القلعة لا تبنى بهشاشة الأعمدة، ولا بميوعة الجدران. على الأقل يمكن للمرء الواقف على القلعة أن يرى الآخرين من دون الاستعانة بزرقاء اليمامة. أما المنتمون الضيقون عندنا فقد شاهت وجوهم وعميت أبصارهم وغشيت بصيرتهم فلا ينفعهم نور النواظر، وهم لا يختلفون البتة عمّن هم صُمٌ بكمٌ عُميٌ.
في الحالة العربية الراهنة يمكن أن تساق الأمثلة بجميع صنوفها، لولا ضيق المجال وإيجاز المقال. ولعله من الكافي النظر فقط إلى الطريقة التي ينتمي بها العربي إلى وطنه، ومن ثَمّ الطريقة التي يقسِّم بها ابن وطنه ذاته، ليكون أسير منطقته ورهينة حزبه المنتمي إليه، إن كان وطنه يحتمل الأحزاب، حتى بلغت هذه الأنفلونزا الجسد الفني، ليتضح ذلك أكثر من خلال المسابقات الفنية وما يرافقها من معارك يدوية ولسانية وشتائم بين العرب الذين من المفروض أنهم إخوة كما درسنا في التاريخ. ليتنا مثلما نستحضر البلاغة وطول الكلام في وصف ما أو مَن ننتمي إليه، نستحضر بلوغ المدى الأطول، متخطين حواجز الانتماء الذي قزمناه لدرجة أننا بتنا بحاجة إلى المجهر حتى نراه.
[email protected]

تمت طباعة الخبر في: الأحد, 28-أبريل-2024 الساعة: 10:38 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/70906.htm