بقلم-الدكتور مروان الغفوري -
لان التاريخ ليس اكثر من قصة دين( رؤية مختلفة للتغيير)
لعلّ قول " زيد بن عمرو بن نفيل " حين وقف بين ظهراني القوم في مكّة معلناً : يا أهل قريش ، ما منكم من أحدٍ على دين إبراهيم غيري " تسلّط الكثير من الضوء على الحالة الاجتماعية و الروحية لمجتمع مكّة ـ و الجزيرة العربية جمعاء ، التي دفعت مثل هذا الرجل المتحنّث بعيداً عن معاشات مجتمعه بكل تنويعاتها .. بل لعلّها تقودُنا إلى تصوّر الوضع الروحاني ـ الانساني العالمي ، الذي بلغ ذروة انحطاطه في القرنين السادس و السابع الميلادي .فلم يكن حالُ الجزيرة العربيّة الانساني رغم قسوة الضمائر فيه و انعدام شبهِ كامل لمفهوم " إنسان " في ظل انتهاكٍ سادٍ لعلامات الفطرة ، بأسوأ من حال غيرها من شعوب الأرض " كما يقول أبو الحسن الندوي في " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " " بل على العكس ، مثّلت الجزيرة العربية المعقل الأخير لهشاشة الضمير الاجتماعي و الانساني ! كانت هناك بقايا الحنيفيّة تتمثّل في بعض دعاةِ الرشاد و التغيير في المجتمع المدني العربي ، أشار إليها القرآن في سورة الزمر .جاء في أسباب النزول ما أخرجه الواحد وأبوالفرج أن قوله تعالى : " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب". سورة الزمر أية 17 - 18 . نزل في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يوحدون الله عز وجل هم : زيد بن عمرو بن نفيل ـ وأبو ذر الغفاري ـ وسلمان الفارسي ... أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي !

كما أنّ الطبع العربي الرجولي و الانساني حفظ للمجتمع العربي البدائي ـ رغم انحطاطه الحضاري ـ بعض معالم " الانسان " ، فكان الكرم ، و النجدة ، و العفّة ، و الفروسية ، و الحميّة ، و غير تلك الوشمات الروحانية ... كانت تمثّلُ مفارز غير صقيلة ، و محاضن أو نويات محاضن لنشوء تغيير اجتماعي عالمي يبدأ من أرض العرب ـ الأكثر روحانية بين سائر بلدان الأرض . تلك الصفة الروحانية العربيّة نالت شهادة النبي الكريم فيما بعد حين قال " إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق " ..! فقد كان القرنُ السادس الميلادي " مخاضاً " لتغيير كبير ، يطال كل جزئيات الانسان ، و يعيد ترتيب أجندة الحضارة و الروح من الأبجديّة الأولى حتى منتهاها .. بمعنى أن التغييرَ كان مطلباً جماعيّاً ـ و حتميّةً حضارية تقتضي " نقض " كل عوالق الذهن و الممارسة ، و تبني " ميداناً " جديداً لانسانٍ جديدٍ في الروح و المادة . و يرفضُ التغيير ـ باعتباره منهجاً بديلاً ـ اعتبار التشوّه الحضاري جزءً " فكريّاً " أو اعتباراً " ماديّاً" ، بل أكثر من ذلـك .. إنهُ نقضُ الواقع المعاش ، و إعادة " خلقه " وفق البنية الأصلية الثابتة " الفطرة " ...
و لأنّ التأريخ ليس أكثر من قصةِ " دينٍ " و صراعٍ أزليٍّ حوله ، فقد ظلّت آثار تعاليم الأنبياء تربط العرب بالسماء عن طريق " وسائط " غير منطقية ، و تحكم شريعتهم ، حتى تلك التي انتهكت الحرمات ـ فهي من " الدين " ـ أيّاً كان لون هذا الدين و شكله ..و في الوقتِ نفسِه ، و حيثُ كانت الانسانية تلفظُ آخر أنفاسها ، و تضعُ حتميّة " التغيير " أمام أعين الرائي المصلح ـ كانت المجتمعات العالميّة تتخبطُ في " تديّنها " فتسفك ، و ترهبُ ، و تذبحُ " الآدمية " باسم الآلهة .. و قد مثّل القرن السادس ، و من خلفه ، القرن السابع الميلادي ذروة التصدّع الانساني ـ الحضاري ، و لعلّ التأريخ لا يبالغُ حين يذكرُ أن مئات الآلاف كانت تقتلُ في الهند كقرابين للآلهة و تموتُ من أجل البراهمة الذين تفرّدوا في الطبقة الأولى الناصبة باسم الإله القدير ، بينما تمايز الشعبُ من خلفهم إلى " شترا ـ ويش ـ شودر " ، و هم رجال الحرب ، و الزراعة و الخدمة ... حيثُ تمثّل طائفة الخدمة فصيل المنبوذين باسم " الآلهة " ـ وفق القانون الديني المرجعي " منوشاستر " ، و امتازت الآلهة بشرهٍ لا ينضب للدم ، و الخمر و النساء ، حتى كانت تمثّل في تصوّر المجتمع آنذاك واحدةً من الكوارث الطبيعيّة التي تأكل الأخضر و اليابس .. و في المجتمعات الأنجيليّة كان مؤتمر نيقيه " الديني " يحدِث شرخاً في طرح تصوّره الجديد عن المسيح ، الأمر الذي قاد المجتمعات القبطية إلى الاقتتال في المصاطب و الشوارع ـ و الأزقة .. باسم المسيح ، و " الدين " المسيحي . و أدل شاهدٍ على ذلك هو مأساة الأمبراطور البيزنطي الطيب " موريوس " في سلسلة الصراع على عرش المسيح ، و ما تلا ذلك من رعبٍ و قتلٍ حتى كانت الجثث ـ كما يقول "جيبون " ـ تملأ الشوارع ـ في الوقت الذي كان فيه النبي الكريم " محمد " عليه الصلاةُ و السلام شاباً يافعاً في طور المشاهدة و التشكّل ـ و الرعاية الإلهية ..و العالمُ من حلوه يصطخبُ من أقصاهُ إلى أقصاه ـ و يهدمُ ما تيسّر له من " الانسان" باسم " الدين ـ الآلهة ! و لم تسلم أمبراطوريات الأكاسرة من هذا الانحطاط ـ بل مثّلت هي الأخرى مرحلةً أشبه بالنضج اللإنساني المطلق ـ تحت ظلّ معبودهم " النار " ..!

حالة الاحتضار كانت هي المعلَـمَ الوحيد لمجتمع الذروة المنحطة ! و من هنا كانت كل التباشير تدلل على أنّ اصلاحاً جذريّاً قد آن أوانه ، و جهر اليهود في جزيرة العرب بأن ميعاد نبيّ يأتي ، يتّبِعونه ... فيقتلون الناس معه قتل الشاة ، و البعير ... ! هنا اكتملت أجندة " مطالب التغيير " ، و أصبح الغدّ المغاير للأمس حتماً لا يقبلُ المواربة و التواري ـ حفاظاً على النوع البشري ، و وثاقه الانساني المحتضر !

و ماذا بعد ؟

لم تمضِ على نبوءة " ورقة بن نوفل " إلا أيامٌ قلائل ، و إذا بفتى قريش النقي يحملُ بين يديه حقائق الكون و الانسان ، و الآخرين ...فكانت ولادة مشروعٍ ضخمٍ يعيد ترتيب الانسانية وفق محددات عليا ، تحفظ حقوق الجميع ، و تسوق الانسانية نحو مهبطها الأول ، و تضع معالم الطريق الطويل واضحاً دون غبش أو رذاذ . قدّم المشروع الجديد أوراق تحرير الانسان من عبودية الانسان ، و صاغ في ذكاء مدهش أجندات تحمل في طياتها أسس المعاملات ، و منظومات العمل الاجتماعي و التعبّدي ـ الكهنوتي ، و العسكري ـ الحربي ، و علاقات الأجناس ببعضها .. بل تضع أحجار الاساس لبنية جديدة اسمها " الانسان " !
كان على النبي الكريم أن يخرج إلى الناس ـ بهذا المشروع ! يتحسس السؤال العريض : من أين أبدأ ، و كيف أبدأ ، وبمن أبدأ ؟ .. خيال مآتةِ العثرةِ الأولى يرجفُ تصوّره ـ فهو بين ثنائية غائرة الحواف ، التلّقي ـ و الواقع المعاش ! فكسر دائرة التساؤل و الحيرة ، و خرجَ بمنهجه الدعوي الذي صاغته قدرتُه اللامتناهية على إدارة الحوار ، و تكييف أدوات اليوم و الليلة من أجل الدعوة ، و صدق الضمير الحي الذي يحمله ، و كونه طبيباً للنفوس قبل أن يكونَ معلّماً دالاً على الجادة . و ما نطق عن هواهُ قط !
أصبحت قريشُ ـ المجتمع الذي وجد نفسه في مواجهةٍ لم يكن يحبّ التورط فيها ـ مع هذا النهج الجديد ، و الخطاب الفذ ، لتجد نفسها أخيراً أمام جيلٍ يولدُ من رحم الغيب ، قوياً ! أمام جيل من النسق الفكري و الذهني ، يخالِفها في كل شأنها ـ و إن لم تكن ولادة الصدور التي ستحملُ هذا النسق ، قد آنت بعد ... إلا أنها أدركت بمحض حساسية أمبراطوريتها المفرطة في رؤية الذات ، أن عقدها الاجتماعي سينفرط أمام هذا الخطاب الواسع الرحاب ، و المغدق بالطموحات و قيم التحرر ـ و المتلمّس لدخائل النفوس فلا يكاد يخطؤها في صغيرةٍ من شأنه و شأنها !
بدأ الخطاب الروحي و الاجتماعي الجديد يحقق نجاحاته في مجتمع مكة ، و انطلق من الصفوف الخلفية حيثُ طائفة المنبوذين ، و" شترا " ، ومن حيثُ تأكل زوجُ " شيفا" الصبايا قرابيناً للآلهة ! و بدأت علامات التصدّع في البنيان الأسري تظهر ـ و ليس لقريش أنْ تسمح بمثل هذه التململات ! فهي قبلة التجارة و المركز الديني للقبائل قاطبة ً ، كما أنّها تمثّل تجمعاً سياسياً و مقصداً ثقافيّاً مهماً ـ و أي حركة اضطراب أو تصدّعٍ ستصيبُ أول من ستصيب ـ أرباب المال ، و الاتحادات التجارية المتواجدة فيها ـ و قد تؤثر الحركة التغييريّة الجديدة على معدلات توافد الزائرين من تجار و غيرهم إلى مكة ، بسبب تفاقم القلاقل ، و الاضطرابات ..

إن أمبراطورية التجارة لا تسمح بوقتٍ و لو هامشيّ في مراجعة الذات ، أو استجلاء ما تخفيه " مواعظ " مجموعة من الدراويش يعيشون عالماً حالماً من المثل دون أدنى رؤية لخطورة ما يمكن أن يجنيه تصوّرهم الساذج للتعاملات البشريّة الكبرى على أمن المجتمع و بنائه الاقتصادي الشامل ، بل و مركزيّته الروحية ـ من صدوعٍ و شروخ ! لم تبرح قريش تردد هذا المنطق التليد ـ الحديث ، و في سبيل تشكّل هذه الرؤية بمناطاتها الذاتية ، و أبعادها الأمبراطوريّة ، قطعت السبيل على كلّ من يمكن أن يقلق الحلف التجاري الأكبر ، و جماعات الضغط في مجتمع مكّة ـ فحرصت على إقامة تحالفٍ كبير يضم القوى الفاعلة في المجتمع المكّي ، و التي يمكن أن تتضرر مباشرةً بفعلِ هذه المنظومات الفكرية الجديدة ،ليس بسبب قوة أصحابها المعدودين في درجة " الأراذل ـ المنبوذين " ، و إنما بسبب ما تحويه هذه المنظومة من " مغالطات " برّاقة ـ وفق تعبيراتها ـ قد يلتف حولها الناسُ غير واعين للخطورات الكبرى التي ستنجمُ عنها !

و لأن العنصر " الخارجي " لاعبٌ مهم في القضايا التي يكون ميدانها الفكر أولاً و أخيراً ، لذا كان لا بدّ من استدعائه ثم استعدائه ـ خشية أن تتسرب إليه بعض الأجندات الواقعية لهذه الجماعة ، مما قد يشكّل و لو جزئيّاً رافداً خارجيّاً ، و إن لم يكن حقيقياً ، فهو على الأقل إعلامي ... و لأن هذا الفتى المكّي يجيد " تسويق "منتوجه الفكري بطريقة ساحرةٍ ، مدعّماً بقدرة بيانيّة فريدة ، و مستخدماً أهم وسيط معرفي لنقْل نتاجه ، و معتمداً على الأداة الأكثر عمقاً في الوجدان " الخطاب البليغ " ، أو على حد تعبير الوليد بن المغيرة ( سحرٌ يؤثر ) بمعنى يفضّل في الذاكرة السمعية و الوجدانية على غيره من الخطابات ( السحر ) ـ و هو الاعتراف الذي قاد الرجل الأكثر كفاءةً ماليةً و تجاريةفي مكة " الوليد " إلى الانسحاب و الانزلاق عن غير وعي إلى درجة الـ " الشرود " أو " التسامي " مع محتويات النص القرآنية الحامل للوعي الجديد . هنا كان على سائر أقطاب الحلفِ الدار ـ ندويّ أن يتداركوا مثل هذا الانقلاب الوشيك و التغير الطارئ في تصوّر الحليف التجاري الأكبر المسمّى عند مكة و العرب بـ " الوحيد " ..فقد كان يكسو الكعبة لوحده ! ... و بدت أولى خطوات انهيار الحلف في الظهور ... لولا أن تداركوها !

النبي الكريم ُ يرى أنّ أدوات الخطاب الروحي و الاجتماعي الذي ينتهجه قد اكتملت ، و أنّ حقائقه مشروحةٌ بتفصيلٍ فيه من الذكاء و العلْميّة ما يكفي لاحداث انقلاب فكريّ عالمي ـ فقد استطاع البيان القرآني و التفصيل النبوي أن يطارد كل تلكُّآتهم و اعتذاراتهم عن الاتباع ، و ناقشهم بكل هدوء و علميّة عارضاً حيثيات رفضهم ، و سارداً في أسلوب عبقريٍّ حججهم و فلسفاتهم ، حتى أوصلهم في نهاية كل خطابٍ إلى واحدةٍ من حقيقتين تتمترسان خلف هذا الجحود و الانكار ، بل و الرغبة في اقتلاع الآخر المخالف عقديّاً و من حيث المبدأ ـ و هاتان الحقيقتان هما : ـ

1- " إنّا وجدنا آباءنا على أمّة و إنا على آثارهم مقتدون " ...فحين تسيطر ثقافة التقليد و التبعيّة على ذهنية مجتمع ما ، كما هو الحال في مجتمع مكة ـ قريش يصبحُ التغيير جنيناً مشوّهاً ، و ضريبةً في ثياب مكوس ـ و تطالُ المغالاة طرفي النقيض ، فالتغيير يتحوّل من مقام النبيّ الحنون ، طبيب القوم ، إلى المجالد المستميت ، الناقض لكل شيئ ـ و قد يستهلك نظريته التغييرية في الرغبة في إلغاء الآخر كليّة ـ كما حدث حين تحوّلت الفلسفات الليبرالية العقلانية للمعتزلة إلى أيادي جزّارين على أيدي مستشاري المأمون ، و مقربيه ، في مسيرةٍ مقيتةٍ في تأريخ الفكر الاسلامي .

و إذا كان الاسلام ـ في تصوّري ـ قد استطاع أن يبنى امبراطوريته الكبيرة في القلوب و على الأرض ، فإنه في الوقت نفسه لم يسطع أن يكيّف الفهوم التي واجهها بادئ الأمر في مجتمع " مكة ـ المنكفئ على مصالحه الذاتية ، و فلسفته العقديّة الدراغماتية " حسب منهجه المطلق ، و أن يفتح عقولهم على آفاقه الكبيرة التي أوجدت من المعتنقين الأولين عدّائين يقطعون المسافات الطويلة في لمح العين عندما تحققوه كما ينبغي ... بل أكثر من ذلك ، فلقد ظلّت " التقليدية " مسيطرةً على تفكير ـ حتى ـ المجموع المسلم نفسه فيما بعد ، حتى أوشكت أن تكون سمةَ المجتمع الناطقةِ باسمه ، إلى الحد الذي مكّن المستشرق "رينان " أن ينال جهاراً من الذهنية المسلمة حين وصفها أنها غير علمية و غير جادة ، و أنها تتواصل مع الثقافات الأخرى تواصلاً صراعيّاً ، و إذا تلقّت ثقافةً عقلية فلا تقدر على هضمها ..و أنا هنا لا أشد قبضتي لأهوي بها على جبهته كما فعل كل دارسي التأريخ الاسلامي الفكري ، بل أقفُ إلى جوار " رينان " في بعض ما ذهب أليه ، و يطيبُ لي أن اذكر في هذا المقام ما جاء في " مقابسات " أبي حيّان التوحيدي ، إذ يعرضُ في ذلك إلى الذهنية التقليدية الكهنوتية ، تلك التي تفتعل مقدمات شكلية للصراع مع الجديد ، و ترفضه بالمجمل .. فقد نقل عن ابن ثوابة ، أحد كتاب الدولة العباسية ، أنه قال : قيل لي أنت ذو عقلٍ و فطنة ، فلو قرأت المنطق و الهندسة ، و تدبّرت إقليدس ... قال : فجيئَ إليّ بمهندسين أحدهما مسلمٌ و الآخر نصراني ، فقلت للمسلم : اخطط ! فذهب يخطّ غير متعاظمٍ ، و هو يقول : هذا خطّ مستقيم لا عرض له ! فقلت له : اتقِ الله ، إنما الصراط المستقيم طريقُ الله ، و والله ما أردت بقولتك هذه إلا ضلّتي عن الدينِ والجادّة ِ ،و تالله لا أتعلمُ الهندسة و الكفر ما حييت ـ و هذه وصيتي لأولادي من بعدي ألا يقربوها ما دامت تدعوهم إلى الشرك بالله ..!
الماكر " أبو حيّان " عرض بذكاء الثقافة السائدة في عصره ـ تلك التبعية التي تمثّل العائق الأول أمام دعوات التجديد و الاصلاح ، و هي من ترسبات المجتمع الأول في " مكّة " ـ لم يستطع الذهن المسلم أن يتخطّاها ، مما كان سبباً في حدوث انتكاساتٍ كبيرةٍ في صيرورة المدّ الاسلامي الحضاري ، و تجنّسه الواقعي بضرورات و إصابات المجتمع . فالتبعيّةُ تلغي الحدود الدنيا من الاستعداد الداخلي لخوض غمار تجربة جديدة وليدة ـ أو التعامل معها بمنطقيّة و حسم ..كما تحوّل المجتمع إلى مسطّحاتٍ بشريّة تعيشُ على صورة مكررة نمطيّة . و هذه الظاهرة ، هي الأخرى ، بحاجةٍ إلى تقصٍّ ذكيٍّ ، فالعقل البشري هو كائن تساؤلي ، لا يؤمن بالركود مالم يكن هذا الركودُ ديناً تفرضه سلطات خارجية ، و أخرى داخليه من مادة العقل الثقافية نفسه ، و تحرسه نظريات ارتقت بفعلِ فاعلٍ إلى مستوى الحقائق . إنّ غياب المفاهيم العليا للضرورات و الحتميّات ، و تعويم " التقشّف " المعرفي ، و انحسار مدى التحدّي عن مستوى الدافع الميكانيكي المحرّك ـ و تقهقر معادلات الحركة من أجل بقاءٍ أفضل ، كل هذه العوامل تساعدُ بطريقةٍ ديناميّةٍ في تجذير مبدء " السلبيةِ" ، و تسهمُ بفاعليةٍِ في طرح النموذج النمطي كـ " نهاية لشكل الحياة الاجتماعي و الروحي و الثقافي " .. و من هنا ، فإنه لحقيقٌ بأن تضع الحركات الاصلاحية التغييرية في اعتبارها إعادة صياغة التحدّي أمام المجموع المتلقّي للخطاب ، و عرض السائد المتبّع كمقدمة منطقية للهزيمة ـ و لا بأس من تسويق " غولَ " الآخر ككائنٍ يرابط بالمجتمع ليقتلعه ـ و هو في حالة مجتمعاتنا المعاصرة يتمثّل في فلسفة " العدو الخارجي المتربّص " و " التحدّي الصناعي المادي ... كل هذا قد يساعدُ في احداث اضطرابٍ في الواعية الجماعية ـ، مما يمكّن لاحقاً و تحت سطوة التوعيّة الجماعية من إيجاد جيلٍ جديد مقاوم تحت لواء " مشيئة النخبة " ..!
2- أما الحقيقةُ الثانية فتتمثل في ثقافة: ـ " لولا أنزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم .."..!إذن ، فهنا المعنى الحقيق لرفضهم المطلق و مناهضتهم الأبديّة /، الدافع الاقتصادي المادي لجماعات الضغط على صانعي القرار من كبار قريش و المحيطات المجاورة ، أولئك الذين يمتلكون تكييف و توجيه المجتمع نحو المشيئة العليا للارادة السياسية في سبيل خدمة رأس المال و حركته . و هو دافعٌ مهم لا يقلّ أهميّةً عن الدافعِ التحنيطي انكفائي ، الذي لا يقبل التغيير .. ليس لأن التغيير خطرٌ عليه ، بل لأن الدافع الاقتصادي هو الجدير بالاتباع و التقصّي ، و الاعتناق . فالتعامل المادي يعرضُ كل منتوج على ميزان الربحيّة والنفعيّة ، و من هنا كان التحوّل الثقافي محض " ترف " هم في غنى عنه .
الدينار لوحده هو الذي يصنع المصير ! .. فالنبوّة ـ التغيير في عرف سادة "قريش" تتشكّل في معنى آخر غير ذهني . فهي " سلطةٌ" مهمّة ، و " حصانةً " بالغة الخطورة ، تتيح لـ " منتهجها ـ النبي " الفرصة لتحقيق فتوحات اقتصاديّةٍ مهمّة في دوائر الربح ـ ثم هي تمنحُ إضافةً فاعلةً إلى السلطة الروحية لقريش على سائر الأعراب ، و بناءً عليه فظهور هذا الانتصار الثقافي و العلمي المهم على يد فقيرٍ من مكّة ـ و من دائرة " المعارضين " لنموذج السادة السياسي الأخلاقي ، سيجهضُ الفكرة في مهدها ، بل قد يكون مدعاةً للمحاكاة و من ثم المنافسة القوية ّ في حال اتباع هذه الوسيلة العبقرية في السيطرة الروحية و الثقافية على العقول من قبَل التكتلات الثقافية و الاقتصادية المجاورة ، مثل يثرب التي تعيشُ نظاماً مجتمعيّاً متنوّعاً و متمايزاً من الأوس و الخزرج ، و النصارى و اليهود ـ حيثُ كانت أكثر رحابةً سوسيولوجيّة ، فقلد كان نظام التعاملات المدنية في يثرب يخضعُ في كثيرٍ من بنوده إلى القانون الروماني ، و كذلك الفلسفة اليهودية ـ والأخيرة كانت تسيطر على التوجّهات اللاهوتية العليا في ذهنية المجموع اليثربي ..!
في " شروط نهضة المسلمين " استعرض روجيه جارودي تداعيات " التبعيّة " الذهنيّة و الفكرية ، و عرضها بطريقةٍ مجسّدةٍ لحالةٍ واقعيةٍ فعلاً ، حاصراً أسباب التدنّي الحضاري العربي ـ الاسلامي إلى ( تبعية الماضي ، تبعيّة الغرب ) .فالنموذج المقدّس المقدّم بأعين الذين ماتوا يحوّلُ الاسلام بأهليته الحضارية إلى بركةٍ آسنةٍ ليس فيها موطئ قدمٍ للعطاشى الجدد . كما أنّ تبعية الغرب تبرزُ جيلاً مسخاً فاقداً لمقومات التأهيل الذاتي ، يسيرُ وفق هوى قشور الآخرين ...و من هنا فقد حدد رؤيته في العملية التغييرية كفلسفةٍ منشؤُها المجتمع ، بحاجةٍ إلى روّاد عرضٍ ليسو من فصيلٍ أيٍّ من الجماعتين الأوليين " الماض ـ الغرب " ..
هذه النظرية الحصرية ، رغم منطقيّتها ، تنبع من المجتمع باعتباره محكّ التغيير ، و أداته و غايته . ملغيةً الدوافع الجماعية العليا ، و المسببات الخارجة الغالبة ، ذات التوجّه المناهض للتغيير ، خدمةً لمشروعها و فلسفتها . ففي مجتمع مكّة ، لعبت " التبعيّة " و عبادة الماضيِ دوراً مهماً في تحديد نوعية الوعي الجماعي المكّي، إلا أنّ مثالية عرض المنهج الاسلامي التغييري ، و ذكاء ملامسة الأداة الخطابية للمشترك العام و ردّه إلى الفطرة ، بما يحقق خلق حالةٍ عامة من الشعور بالانتماء و لو جزئيّاً إلى مادة هذا المنهج التغييري ، بل و الحاجة الحتميّة إليه ..كل هذا كان كفيلاً بإحداث انقلابٍ لصالح الفطرة العامة المعنيّة ابتداءً بالخطاب التغييري . لكن ما نلحظه من تتبعنا لحالة المجتمع المكّي في فصول مصادماته ، حتى مستوى الرفض المسلّح ، لهذا المنهج الجديد يجعلنا نفكّر بمسببات أخرى غير التبعيّة ، و لا يصنعها الوعي الجماعي العام . و لنا ذلك ، حين نجد الآلة الاقتصادية ، و من خلفها الدافع السياسي البحت ، تحرّك دفّة الصراع و المواجهة لمصالحَ غير تلك المعلنة في قولهم " ما نعبدُ إلا ما يعبدُ آباؤنا " .. فالأمر إذن لا يتعلّقُ البتةَ بفلسفة عبادة ٍ، أو اعتناق شديد الحنوّ على قلوبهم ، فحالة المجتمع الروحانية آنذاك ، تلك التي وصلت إلى أدنى مستوى إنساني تردّ على هذه الاعتذارات الدبلوماسية . و هنا تبرزُ أمام أعيننا مواسمُ التجارة الضخمةِ ، يتولى إدارة شأنها كبار المقاومين لهذا الدين الجديد . فحين نقرأُ أنّهم حرّموا على الوفود التي تزور مكّة أن يطوفوا بالكعبةِ إلا بثيابٍ قرشيّة الصنع ، ندركُ كيف تستخدمُ كل الوسائل الاستثمارية المتاحة ، و حتى " المقدّس " نفسه ، يصبحُ على أيدي صنّـاع القرار إلى صفقةٍ تجارية تجري إدارتُها بذكاءٍ .. هذا الشرهُ الأمبراطوري ـ الكمبرادوري لا يمكن مواجهته بخطابٍ مثالي طوبويّ و حسب ، بل قد يجعل الرهان على تغيير الوعي ، كوسيلةٍ لتغيير نوع المجتمع كلّه ، مستحيلاً أو محاربةً لطواحين الهواء .
استنفد الخطاب الاسلامي التغييري كل وسائله ، و كان الحصادُ بعد أكثر عشرمن سنينَ مرّاً ! فلا يمكن لحريّة فكرية و ثقافيّة أن تنشأ في ظل سيطرة رؤوس الأموال على مقاليد الأمور ، و تحكّم السياسة في صناعة التوجه الفكري ـ و تداخل السلطات ، و تكأكُؤها ، و سيادة ثقافة " التقليد " باسم " المقدّس . إن حالة قريش تلك أشبه بحالة مجتمع معاصر مغلق ـ وما أكثر الأمثلة فالصورة هي هي ، لم تتغير قط . و لنا أن نتصوّر أنه في ظل تلك الكهنوتية السياسية التي تتحكم في مصائر العباد لا يمكن أن يشهد النوعُ الانساني تطوّراً أيديولوجيّاً أو ثقافيّاَ ـ بل يصبحُ بعد حين من الزمان في حسابات الموتى . فالتصادم و التدافعُ هو المحدد الأكثر أهميّةٍِ لنشوء حضارة على أرضيةٍ ثقافية خليقةٍ بأن تكون لبِناتٍ في تكوين الجسد الاجتماعي النهائي . و في ظلّ القمع ، يكونُ الحديث عن أي تحديثٍ أو تغيير محض هراءٍ و شنشنات لا تسمنُ و لا تغني !

إنّ قليلاً من الوعي في العقليات التي تصنعُ القرار الثقافي أو السياسي هو ضرورةٌ ملحّة . لأن لغة " لا تسمعوا لهذا القرآن " التي اتخذتها قريشٌ يافطةً في مداخل مكّة ، و نشرتها في إذاعاتاتها المتنوعة على رؤوس الملأ في مواسم الحج و التجارة ، كل تلك اللغات لم تستطع أن تلغيَ وجود هذا النموذج الفكريّ المخالف ـ للعرف و السائد . و كان أن خرج اللاجئون الأولون إلى المساحات الأكثر حريّة في دول الجوار مثل " يثرب " ، و " الحبشة " .. و عادوا بعد ردحٍ من الزمن فاتحين ، و منتصرين ـ ليس بقوة السلاح و الاتباع ، و إنما بجذريّة الحقيقة التي يحملون ، و نوعية التغيير الذي يبشّرون به ، و اعتمادهم على صدق الضمير لديهم ، و تضعضع المخالف لهم من الداخل ـ و مستندين إلى الخارطة الإنسانية العليا التي تتيحُ لهم تقديم المشترك العام من أجل الانسان العام بعيداً عن لونه و طبقته الاجتماعية ـ و فقط ، لكونه " إنسان " !




تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 15-مايو-2024 الساعة: 06:34 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/9695.htm