التكفير.. سلاح الجهلة والمنافقين لا يستطيع منصف أن ينكر وجود ما يمكن تسميته “حرب الفتاوى الدينية"، التي تستخدم في المعارك الفكرية، في بعض المجتمعات الإسلامية، والتي تستخدم “سلاح التكفير" لنفي الخصوم الفكريين ومطاردتهم، وربما محاولة "إعدامهم معنويا"، وأحيانا ماديا!حدث هذا في تاريخنا القديم، والوسيط، والحديث، والمعاصر أيضا. لكننا يجب أن نضع هذه “الظاهرة” السلبية على فرض كونها "ظاهرة" في حجمها الطبيعي، وفي إطار ملابساتها وأسبابها أيضا، وذلك حتى نكون منصفين لمختلف الفرقاء الذين يتصارعون حول هذه النزعة الفكرية التكفيرية. ذلك بأن الفكر الوسطي المعتدل، الذي يمثل حقيقة الإسلام، والذي تنتمي إليه الجماهير العريضة من الأمة، هو فكر بريء من هذه الظاهرة المؤسفة، فقديما أفاض حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450 505 ه 1058 1111م) في نقد هذه النزعة التكفيرية، عندما حذّر “من تكفير الفِرَق، وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم، ماداموا متمسكين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، صادقين بها غير مناقضين لها، لأن الكفر حكم شرعي، لا يُدْرَك إلا بمُدْرَك شرعي، من نص أو قياس على منصوص. وأصول الإيمان ثلاثة، هي: الإيمان بالله، وبرسوله، وباليوم الآخر، وماعداه فروع. ولا تكفير في الفروع أصلا، إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلا دينيا عُلم من الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالتواتر، فالتكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على من يغلب عليهم الجهل. وأكثر الخائضين في هذا التكفير إنما يحركهم التعصب واتباع الهوى دون النظر للدين، والعصمة للدم مستفادة من قول لا إله إلا الله قطعا، فلا يدفع ذلك إلا بدليل قاطع..". ولقد ظل هذا الموقف الفكري، الوسطي والمعتدل، والمعبر عن حقيقة الموقف الإسلامي، هو التيار السائد لدى أغلب الأمة الإسلامية، على مر تاريخها الحضاري، وخاصة في حقب الاجتهاد والتجديد والازدهار الحضاري، حتى رأيناه سمة بارزة في فكر مدرسة الإحياء والتجديد بالعصر الحديث، وها هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266 1323ه 1849 1905م) يعبر عن هذا الفكر الوسطي المستنير، الرافض للمسارعة في التكفير، فيقول: “أصل من أصول الأحكام في الإسلام: البعد عن التكفير، ولقد اشتهر بين المسلمين وعُرف من قواعد بينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر. فهل رأيت تسامحا مع أقوال الفلاسفة الحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولا لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟!. إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية، ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقى في النار"! ويضاف إلى هذا الأصل من أصول الأحكام في الإسلام، أصل آخر اتفق عليه جمهور علماء الأمة، وهو أن التكفير إنما يتوجه إلى “المقولة، والرأي” ولا يتوجه إلى “القائل” لهذه المقولة الكافرة، إذ ربما كان لهذا القائل للمقولة الكافرة تأويل حتى ولو كان تأويلا فاسدا يدرأ عنه تهمة الكفر والمروق من الدين. هذا هو الموقف الحقيقي للإسلام من “نزعة التكفير”، كما عبر عنها التيار الوسطي في الفكر الإسلامي، المعبر عن جمهور الأمة، عبر تاريخ الإسلام، والمنطلق من أصول وثوابت الإسلام كما عبر عنها القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة التي طبقت وبينت هذا القرآن الكريم، فلقد عاش رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مجتمع كان فيه الذين آمنوا أول النهار وكفروا آخره، والذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا “وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" (آل عمران: 72)، "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا” (النساء: 137)، ومع كل ذلك لم يقم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليهم عقوبة دنيوية، لأنه “لا إكراه في الدين” (البقرة: 256)، أي أن الدين لا يتأتى بالإكراه، والإكراه لا يثمر إيمانا، وإنما ثمرته النفاق! نقلاً عن الخليج الاماراتية |