العراق.. اللعب الأميركي على المكشوف كشف ما كان مخبوءا لا يكف الأميركيون عن ارتكاب الأخطاء المميتة في العراق، الأمر الذي لا يفسر الا بأحد أمرين; إما انهم تخلوا تماما عن ذكائهم في التعامل مع الشأن العراقي، أو انهم اصبحوا يتعاملون مع الملف ـ ومع المنطقة العربية بأسرها ـ بدرجة عالية من الاستهتار واللامبالاة. لست أتحدث عن كذبة أسلحة الدمار الشامل، ولا أسطورة الدفاع عن الديمقراطية، ولا الوجه البشع الذي رأيناه في «أبو غريب»، ولا انتهاك عرض العراق بتحويله الى سوق يجذب المرتزقة وشركات الأمن الخاصة. انما الذي أقصده هو ذلك الإصرار على تسليم مقاليد العراق الى نفر من «المتعاونين» السابقين مع المخابرات المركزية، وعدم التحرج من الإعلان عن ذلك صراحة، وتعميم ذلك لاعلانه على كافة وسائل الاعلام، وكأن الارتباط بالمخابرات الاميركية اصبح مؤهلا يشرف المواطن العربي، ويرشحه لارتقاء اعلى المناصب في بلده. نعم الكل يعلم ان المخابرات الاميركية جندت نفرا من المعارضين العراقيين الذين كانوا مقيمين بالخارج، وأن هؤلاء اول المشجعين على اسقاط النظام السابق، وان افواجهم عادت الى العراق على الطائرات الحربية والدبابات الاميركية وكان مفهوما آنذاك ان يكون لأولئك المتعاونين نصيبهم من الكعكة، أو ما تبقى من الكعكة ان شئت الدقة لان الاميركيين لم يسمحوا لغيرهم بالاستئثار بها، واشركوا معهم البريطانيين في جانب ضئيل منها، من باب المجاملة وتطييب الخاطر. لكن آخر ما كان يخطر على البال ان ينصب بعض هؤلاء على رأس مؤسسات الدولة، هكذا من دون مواربة أو حرج، ويبلغ العراقيون علنا بأنهم من المتعاونين مع المخابرات الذين تربوا على أيدي رجالها، ثم يذهبون الى مدى ابعد في الجرأة حين يدعون ان ذلك هو العراق الجديد الذي يرشح للتمثل والاحتذاء في الشرق الاوسط المراد تغيير قسماته وهياكله. هذه المعاني تداعت عندي حين قرأت التقرير الذي نشرته «الشرق الاوسط» في 10 /6 /2004 عن الدكتور اياد علاوي رئيس الوزراء العراقي الجديد، الذي حفل بشهادات رجال المخابرات الاميركية، وهي الشهادات التي جاءت مثيرة ومهينة للعراقيين في ذات الوقت، اذ ذكرت ما يلي: * ان الدكتور علاوي تم تجنيده لصالح المخابرات الاميركية عام 1992 بعد ان جمع نفرا من العراقيين في المنفى وأسس بهم «حركة الوفاق الوطني»، التي صار زعيما لها. وأحد رموز المعارضة في الخارج. * ان الدور الاساسي الذي كان يقوم به بعد تجنيده كان ترتيب القيام بعمليات تخريب في الداخل عن طريق السيارات الملغومة واجهزة التفجير (التي زودته بها المخابرات المركزية)، وكانت تهرب الى بغداد من المنطقة الكردية في شمال العراق. * قال ضابط سابق في المخابرات المركزية ان احدى عمليات التفجير التي قام بها رجال علاوي في بغداد استهدفت حافلة كانت تقل تلاميذ احدى المدارس. وذكرت مصادر اخرى ان عمليات اخرى استهدفت دارا للسينما وأدت الى وقوع اصابات في صفوف المدنيين. * في تعليق مسؤولين سابقين في المخابرات الاميركية على وعد الدكتور علاوي بعد تنصيبه رئيسا للوزراء ان اولويته منصبة على تحسين الوضع الأمني وايقاف عمليات التفجير والتخريب، فانهم قالوا إن ذلك كلام «مثير للسخرية». تصدمنا المعلومات لا ريب، لكن ما بدا مدهشا حقا ان الدكتور اياد علاوي لم ينكر شيئا منها، ولم يتحفظ عليها، وانما أقرها وقال إنه احتفظ بعلاقات مع عدة اجهزة مخابرات غربية، وانه لم يتردد في أن «يتعاون» مع أي جهة تساعد على اسقاط النظام البعثي. حين وقعت على هذا الكلام، تساءلت على الفور: ماذا يكون شعور المواطن العراقي حين يفاجأ بأن سجل رئيس وزراء العهد الجديد بهذه الصورة؟ وما الحكمة في اختيار نموذج بهذه الخلفية في موقع بتلك الاهمية، وفي بلد يسكنه شعب عريق له كرامته وعزته؟ وكيف يمكن للحكومة الراهنة ان توقف التخريب، اذا كان رئيسها قد قاد منظمة باشرت ذلك التخريب في السابق، وكان ضحاياه من المواطنين العاديين؟ والا يكون ذلك الاختيار مسوغا يضفي شرعية على استمرار عمليات التخريب الراهنة، التي تستهدف مواطنين عراقيين، ويبرره البعض بأنه ازعاج للنظام الجديد وافشال له؟ واذا كنا قد دعونا في السابق الى التفرقة بين مقاومة الاحتلال التي تستهدف الوحدات الغازية وبين التخريب الذي يستهدف مواطنين عراقيين، وايدنا الاولى وعارضنا الثانية، فألا يؤدي تعيين رئيس الوزراء الجديد الى إزالة الفاصل بين هذه العمليات وتلك؟ سواء فسرنا هذه الخطوة بأنها من قبيل الغباء أو الاستهتار الذي يصل الى حد عدم احترام مشاعر الآخرين وتعمد النيل من كرامتهم، فالثابت ان السياسة الاميركية التي اسكرها غرور القوة فقدت حذرها ـ هل اقول رشدها؟ في تعاملها مع العالم العربي، بحيث تبنت اسلوب «اللعب على المكشوف» والتي لم تعد تقيم اعتبارا لأحد في المنطقة والشواهد الدالة على ذلك كثيرة، في مقدمتها الاطاحة بكل قرارات الامم المتحدة بل وبالمواقف الاميركية الرسمية بخصوص الحدود والمستوطنات وحق عودة الفلسطينيين، والتأييد العلني للعمليات الارهابية والمذابح التي تقوم بها اسرائيل في غزة والضفة ومطالبة الدول العربية والاسلامية باحداث تغييرات في مناهجها التعليمية ونظمها الداخلية، وملاحقة المشتبهين داخل الدول العربية وقتل بعضهم (كما حدث في اليمن) ومحاولة فرض الوصاية على الدول العربية عن طريق احداث تغييرات في هياكلها الداخلية، وتهديدها بالعقاب ان قصرت في ذلك، والاصرار على استثناء الاميركيين من أي حساب أو مساءلة عن أي جريمة ارتكبوها امام المحكمة الجنائية الدولية، والقبض على اكثر من 600 مسلم والقاؤهم في سجن غوانتانامو وحرمانهم من أي حقوق..الخ. اما الجرأة التي يمارسها الاميركيون في العراق فهي غير مسبوقة، بدءا من قرار الغزو الذي ثبت كذب كل مسوغاته، وانتهاء ببدعة «السيادة المنقوصة» التي تزور استقلال العراق، فتعطي العراقيين واجهات السلطة، في حين تبقي على القرار بيد الاميركيين، ومرورا بتدمير البلد ثم توزيع عقود إعمار على الشركات الاميركية والسيطرة على موارد العراق النفطية والتحكم في مقدراتها. في هذا السياق يأتي تعيين «متعاون» مع المخابرات المركزية رئيسا للوزراء ليشكل قمة الجرأة غير الذكية، التي تستفز الضمير الوطني وتؤجج مشاعره الرافضة والمعادية للسياسة الاميركية. وانعدام الذكاء الاميركي هنا ليس مقصورا اثره على اهانة العراقيين واستفزازهم وانما هو ايضا كاشف لحقيقة النموذج «الديمقراطي» العراقي الذي جرى تزيينه وتسويقه في مرحلة الاعداد للغزو، الامر الذي دغدغ مشاعر بعض المثقفين في العالم العربي، واقلق بعض الانظمة، ذلك ان ما حدث على المسرح العراقي نبه الغافلين وأخرس المهللين من ناحية، كما انه طمأن القلقين والخائفين الى ان حكاية النموذج «الديمقراطي» كانت قناعا تمت استعارته لبعض الوقت وان القبة ليس ثمنها شيخ ولا يحزنون. ان ما جرى في العراق يفتح اعيننا على عدة حقائق ومؤشرات مهمة يتعلق بعضها بطبيعة القيادات والنماذج التي تتخيرها واشنطن وترشحها لكي تتبوأ مواقع الصدارة في العالم العربي. كما يتعلق البعض الآخر بطبيعة واطار الاصلاحات التي يتحدثون عنها ويطالبون بادخالها الى ما سمي بالشرق الاوسط الجديد. من هذه الزاوية ورغم ما يستشعره المرء من حزن ومرارة فربما استحق المخططون والمديرون «الاذكياء» في واشنطن ان نتوجه اليهم بالشكر، لانهم كشفوا لنا بسرعة غير متوقعة الكثير مما كان مخبوءا ولم يترددوا في نزع الاقنعة التي يتجملون بها وهم يتأهبون للغزو ويداعبون احلامنا بنتائجه «الباهرة». المصدر صحيفةالشرق الاوسط |