الإسلام.. وحرية الفكر والعقيدة امتدت سماحة الإسلام بامتداد الفتوح الإسلامية التي أقامت “الدولة”.. وتركت الناس أحرارا في “الدين”.. فرأينا أبا بكر الصديق يوصي أمير الجيش الذاهب إلى الشام “يزيد بن أبي سفيان”: “إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبّسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبّسوا أنفسهم له”.. ووجدنا الراشد الثاني عمر بن الخطاب يكتب عهد الأمان “العهد العمري” لأهل القدس عند فتحها سنة 15ه سنة 635م الذي قرر فيه: “الأمان لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، وأنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود (وفق ما طلبوا) وعلى أهل إيلياء أن يُخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، وقد أقام منهم من آمن.. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم.. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين..”. بل لقد امتدت هذه المساحة الإسلامية من إطار التعامل مع أهل الديانات السماوية إلى أهل كل العقائد والديانات. إن الإسلام لم يطلب ولا يطلب سوى حرية الدعوة، ليحاور ويجادل بالتي هي أحسن وليس فقط بالذي هو حسن (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125.. وليقول للمخالفين (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة: 111 و(هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) الأنعام: 148. والإسلام لم يفرض على منكريه وجاحديه والكافرين به عقوبة دنيوية، وإنما أعلن أن حسابهم على الله يوم الدين.. ولذلك قال الإسلام حتى للمشركين الذين أشركوا الأوثان والأصنام مع الله، سبحانه وتعالى: “ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين” الكافرون: 4 6. وعندما أصبحت للإسلام دولة وسلطة ومؤسسات عقابية تعايش مع المنافقين في المدينة وهم أخطر من الكفار المعلنين وفي هذه الحقيقة يقول الإمام محمد بن جرير الطبري: لقد جعل الله الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر، لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد لكان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم للمنافقين بحكم الإسلام بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله، وقد كذّب الله ظاهرهم في قوله: (والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) “المنافقون: 1”. وحتى عندما كانت فلتات اللسان تظهر البواطن بواطن المنافقين فيطلب بعض الصحابة عقابهم، كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرفض إقامة العقاب الدنيوي عليهم، ويقول: “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”.. وكما يقول ابن القيم: “فإن نفاق عبد الله بن أبي وأقواله في النفاق كانت كثيرة جدا، كالمتواترة عند النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وبعضهم (أي بعض المنافقين) أقر بلسانه، وقال: “إنما كنا نخوض ونلعب”، ولما قيل للنبي، صلى الله عليه وسلم: ألا تقتلهم؟ قال: “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”. ولم يقم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حدا ولا عقوبة دنيوية على الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا.. ولا على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره.. ف(لا إكراه في الدين) البقرة: 256.. لأن الإكراه يثمر نفاقا، ولا يثمر إيمانا، إذ الإيمان تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، فاجتماعه مع الإكراه مستحيل.. وما الردة والزندقة والإلحاد إلا أمراض تعتري العقل كالأمراض العضوية التي تعتري البدن علاج الأولى بالحوار مع العلماء، وطلب الهداية والشفاء عند الهداة والحكماء.. كما أن علاج الأمراض العضوية هو من اختصاص الأطباء، لا المؤسسات العقابية للدولة.. ولذلك، جعل القرآن الكريم عقوبة الردة عن الدين أخروية، لا دنيوية (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 217 “يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم” المائدة: 54. ولم يقم رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو رأس الدولة حدا على مرتد إلا في الحالة الواحدة التي لم يقف فيها الأمر عند الردة عن الدين، وإنما بلغ الأمر مرتبة الحرابة والخروج المسلح على الأمة والدولة. نقلاً عن صحيفة الخليج. |