المؤتمر نت -
الكتاب الحكيم.. منهج يومي للمسلمين
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على رسول ونبي ينتمي إلى مجتمع عربي يتميز بعبقرية الفصاحة اللغوية، له رصيد ثري في الشعر والبلاغة، ولكنه في الوقت ذاته لم يكن مجتمعاً مبدعاً في القص المدون، إذ كانت الحكاية في الثقافة القبلية العربية تطل من بين ثنايا القصائد الشعرية، ما جعل العرب أكثر التجمعات البشرية قدرة في البلاغة اللغوية الشعرية، وأقلهم قدرة على صياغة القصص بعيداً عن الشعر.
وإذا كان الدارسون والباحثون في الرسالات السماوية يجمعون على أن رسالة الله عز وجل لكل أمة منذ بدء الخليقة اعتمدت في خطابها على ميدان تميز وتفرد هذه الأمة، فقد كان طبيعياً أن ينزل القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في ثوب لغوي إعجازي قادر على مخاطبة العرب المتفردين في البلاغة. بل كان ضرورياً أيضاً أن يتجاوز في بلاغته وعبقريته اللغوية حدود تفوقهم، ليجسد تحدياً إلهيا لقدراتهم اللغوية والبلاغية، تماماً مثلما حدث قبل ذلك حين بعث الله عز وجل نبيه موسى عليه السلام إلى قوم فرعون ممتلكاً لناصية الخوارق الإلهية التي بدت لهم سحراً فذا قهر حيل السحرة، إذ كانت هذه الحضارة تنتصر بوضوح للسحر والتنجيم الذي برع فيه قوم هذا الزمان.
وهكذا أيضاً كان طبيعياً أن يمنح الله نبيه عيسى عليه السلام بعض الخوارق الإلهية في مجال الطب وشفاء المرضى من أمراضهم المستعصية، إذ بعث عيسى في قوم يمتلكون ناصية الطب، فكان لا بد أن يقارعهم النبي في حقل تميزهم بمنح إلهية لا يقدرون على مثلها. ثم أنزل الله على خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم كتاباً هو المبتدأ والمنتهى في بلاغة وإعجاز الرسالات السماوية، لأنه كان يجب أن ينطلق الرسول في دعوته السامية وسط قوم متفردين لغوياً وبلاغياً ما لم يأت من عند الله بآيات تتحدى هذا التفرد، وهو ما جاء واضحاً جلياً في محكم التنزيل في قوله تعالى “وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين” (23 سورة البقرة).
آيات
من رحم الإعجاز الإلهي في القرآن الكريم خرجت إلى نور الدنيا والبشرية آيات رأى كثير من المفسرين أنها نزلت في رجال ونساء بأعينهم في صدر الإسلام الأول لتنير لهم الطريق وتمنحهم البصيرة على استجلاء الحقيقة وطريق الهداية، وهي إذ تكشف جانباً مهماً من العقيدة والسلوك الإسلامي الواجب، إنما ترسم للأمة بكاملها حتى يوم الدين منهجاً قويماً، إذ ان نزولها في حدث أو موقف محدد أو شخصية بعينها لا يعني أنها توقفت عند حدود هذا الحدث أو الشخص، وإنما هي تتخذه مناسبة لترسيخ مبدأ إسلامي أو سلوك قويم يجب أن يلتزمه الجميع.
وقد شغلت هذه المساحة القرآنية الكثير من الكتاب والباحثين والمفسرين، إذ اعتمدها المفكر الإسلامي الراحل خالد محمد خالد في سلسلته الشهيرة “رجال حول الرسول”، حيث أورد في مواضع عدة من مؤلفاته حول الرجال الذين أحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من الآيات القرآنية التي نزلت في رجال ونساء لترسي قيمة أو سلوكا إسلاميا قويما، وهناك قبسات النور التي أضاءت بتوهج في عبقرية الشخصيات الاسلامية التي كتب عنها الكاتب والمفكر الراحل عباس محمود العقاد الذي صاغ ملحمة في سبر أغوار شخصيات عظيمة أحاطت بالرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا المفهوم الذي جسده عدد كبير من الباحثين حاولوا الغوص في منزل التحكيم لتفسير الآيات القرآنية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في رجال ونساء معينين. ومن هؤلاء الباحثين أحمد صقر صاحب “أسباب نزول القرآن للواحدي”، و”تاريخ الخلفاء” للإمام عبدالرحمن جلال الدين السيوطي، و”أشهر مشاهير الإسلام” لرفيق العظم “والموسوعة الشهيرة للدكتور عبدالرحمن عميرة حول الرجال والنساء الذين أنزل الله فيهم قرآناً”، و”في ظلال القرآن” للداعية الراحل سيد قطب، و”أسباب نزول القرآن” لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي.
ولأن كل حرف وكلمة من منزل التحكيم نزل لهدف وغاية، فإن الآيات القرآنية التي نزلت في الرجال والنساء من الصحابة وغيرهم، إنما كانت لها أهداف محددة، فالدكتور عبدالرحمن عميرة مثلاً يرى في موسوعته ان هذه الأهداف شديدة الارتباط بطبيعة الرسالة السماوية نفسها، وظروف المجتمع الذي نزلت عليه، وكذلك العصور والأزمان التي يعيشها المسلمون حتى قيام الساعة، إذ يؤكد أن القرآن الكريم جاء ومن بين أهدافه تربية جيل من الناس، وتربية أمة من الأمم لتحمل هذا الدين إلى البشرية كلها، تربية توافق الفطرة البشرية، وتتواءم مع النفس الإنسانية ولا تحيد قيد أنملة عن الجبلة التي فطر الإنسان عليها.
حكمة ربانية
من هنا كانت حكمة الله سبحانه وتعالى في نزول القرآن منجماً على رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم “وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً”، نزل القرآن منجماً ليتدبر في عمق، وتنفذ تعاليمه بعد اقتناع، ويكون للبشرية منهجاً ودستوراً وقائداً ودليلاً، لذا فقد كان كل مسلم من جيل القرآن الأول جيل الصحابة يشعر أن عين الله عليه وأن سمع الله إليه، وأن كل كلمة منه، وكل حركة، بل كل خاطر، وكل نية قد تصبح مكشوفة للناس يتنزل في شأنها قرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل مسلم ومسلمة من الجيل الأول، إذا ضربه أمر أو واجهته معضلة انتظر أن تفتح أبواب السماء غداً أو بعد غد ليتنزل منها حل لمعضلته، وفتوى في أمره وقضاء في شأنه.
المصدر الخليج
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 05:18 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/13978.htm