المؤتمر نت -حسن العسيلى -
الإسلام ودلالة الشهور العربية
هناك علاقة تربط بين الشهور العربية و مفاهيم السلوك الحقي للإنسان على ظهر الأرض , هذه العلاقة وثيقة, و هناك ارتباط واضح بينهما ذلك لأن كل اسم من أسماء هذه الشهور، بل و ترتيبها يرمز إلى مراتب و درجات عن الحق .

قال الحق في كتابه العزيز " إن أنزلناه قرآنا عربيا " و فسر سيدي الإمام رافع معنى "عربي" أنه دلالة على أن هذا القرآن قد "عرى بي"، أي أنه قد أظهرني وكشف الحجاب عنى , أي عن الحق سبحانه و تعالى , فاظهر أفعاله و صفاته و أشار ضمنا إلي ذاته و كذلك هي الشهور العربية تكشف عن مدلول أسمائها , و تبين مراحل السلوك من خلال انتقال العرض الزماني من شهر إلي شهر , فكل شهر يختلف في زمانه و مدلوله عن الشهر الذي يسبقه ثم الشهر الذي يليه , و هكذا كانت الأزمان علي مر التاريخ البشري , لا يتشابه فيها زمانان ,فكل زمان له تجلي , يتجلى الله فيه للناس باسم من أسمائه وصفة من صفاته العلية ، و كل صفة و اسم يظهر به الحق ، يتناسب و الناس الموجودة في ذلك الزمان، و أهليتهم، و مراد الله بهم، و ما يريد الله كشفه و إظهاره من خلالهم .

و الشهور العربية هي علي الترتيب : المحرم - صفر - ربيع الأول -ربيع الآخر - جمادى الأولى - جمادي الآخرة - رجب - شعبان - رمضان - شوال - ذو القعدة - ذو الحجة .

و يلاحظ أن الشهور العربية تبدأ و تنتهي بشهر من الأشهر الحرم ، دلالة علي أن ما يصلح به أول الزمان يصلح به آخره ،و أول الزمان هو بداية السنة الهجرية ، و الهجرة هجرة إلي الله و رسوله ، تقتضي التجرد عن الدنيا و ما فيها ، و تقتضي الإحرام استعدادا لهذه الرحلة و التي تنتهي آخر ما تنتهي بالحج أو بشهر ذي الحجة ، و كأن الحق يخاطبنا قائلا أن هدف الرحلة الحياتية من خلال الاثني عشر شهرا إنما هي حج البيت ، و كما قيل " الحج عرفة" فكأن المراد من الرحلة هو تحصيل المعرفة ، معرفة الحق سبحانه و تعالي.

" و في أنفسكم أفلا تبصرون "(الذاريات 51 :21)

" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا "(آل عمران 3 :96)
أي أنه " بك " ، و القلب بيت الرب ،

و قيل أنه "من عرف نفسه فقد عرف ربه"... و بذلك كانت أول الشهور العربية تشير إلي حال من استعد للهجرة ، و آخرها يشير إلي هدف الهجرة ، فتعالوا نتدبر معا هذه الشهور في تتابعها ، لنستخلص سويا المعني المراد.....

شهر المحرم .. أي ذو الحرمة ، و هو يطلق في اللغة علي الإبل التي يصعب ركوبها ، و كأن ظهورها قد حرقت ، و هو أول شهور السنة الهجرية ، و ثالث الأشهر الحرم المتتابعة .
ومع بداية الهجرة يُحَرِّم المحرم القاصد وجه الله و رسوله كل ما حرمه الله و رسوله ، كقول الحق "إنما حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله"(البقرة 2 :173) ، ثم أنه بعد ذلك يحرم بقلبه عن كل ما يمنعه أو يعطله عن متابعة وجهته "وولي وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجهكم شطره "(البقرة 2 :144) ، و هو بذلك و إن كان يمارس حياته الطبيعية المادية ، إلا إنها لا تعطله عن بلوغ هدفه الذي ارتضاه ، بل إنه يتخذها مطية لبلوغ ذلك الهدف ، فهو مع كل فكر ، و قول ، و عمل ، وسلوك يعلم تماما أن مقصوده وجه الله ، فإذا علم الله صدق نيته و قوة توجهه ، جعل له نقطة حق يقتدي بها في توجهه فكان شهر صفر.

شهر صفر .. الصفر في اللغة هو الخالي من الأشياء ، وهو عند الحسابين رقم يدل علي الرتبة الخالية من الكمية ، و علامته نقطة ، ودرجة الصفر هي نقطة البدء ، و الله هو الأول .
قلنا أن من صدق إحرامه و توجهه ، أوجد الله له نقطة حق يتوجه إليها و يصاحبها في سلوكه ، فكان شهر صفر هو المعبر عنه بالنقطة ، رمزا يرمز به لتلك النقطة الحقية، وكما أن الصفر في اللغة هو الخالي من الأشياء، فكذلك هي نقطة الحق تكون خالية عن كل ما سوي الله ، إنها ترمز إلي الرجل الصالح ، إلي القيام الحقي ، إلي النور الرباني الذي لا ينقطع أبدا تواجده عن ظهر الأرض ، إنه السراج المنير المعبر عنه في كتاب الله بعباد الرحمن ، فيقول الحق " و عباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "(الفرقان 25 :63)

إن كل صفر أي كل نقطة ، هي في حد ذاتها دائرة ، و نقطة علي دائرة أخري لنقطة أكبر منها ، فكانت النقط المتواجدة علي الدائرة ، و المتوجهة إلي نقطتها تعبر عن كل من صدق في إحرامه متوجها إلي الله في شهر المحرم ، و كانت نقطة المركز بالنسبة لهم ، إنما هي الوسيلة لبلوغ الهدف النهائي من الرحلة و هو حج البيت ، فالنقطة تعبر عن البيت ، وهو بيت موضوع لبيت مرفوع ، فكانت النقطة دلالة علي الهدف المنشود تحقيقه في آخر الشهور العربية و هو ذو الحجة. و يقول الحق في كتابه العزيز " و كل شئ أحصيناه في إمام مبين " (يس 36 :12) فكان الإمام المبين إنما هو نقطة الحق في شهر صفر ، و كان من أدرك النقطة مؤهلا لميلاد الحق فيه ، إيذانا بقدوم هلال شهر ربيع الأول ثم ربيع الآخر.

شهري ربيع الأول ثم ربيع الآخر ..الربيع في اللغة هو النهر الصغير ، و هو أيضا الأخضر من النبات أي أن الربيع هو عين كل حياة، " و جعلنا من الماء كل شئ حي "(الأنبياء 21: 30) و الماء أصل كل أخضر يتقوت عليه الإنسان فترجم ميلاد الرسول في هذا الشهر عن حقيقته و كان رسول الله خلقه القرآن ، ووصف القرآن علي لسان " عمرو بن هشام" الملقب بأبي جهل بقوله : "إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمغدق" ، فعبر بذلك اعدي أعداء رسول الله عن حقيقته فانتصر الله بذلك لرسوله علي يد أعدائه لا علي يد أحبائه .
و كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم 12 ربيع الأول ، فأشار بذلك التاريخ إلي معني "ربيع الآخر " أي إلي من تحقق به مستكملا رحلته الحقية عبر الشهور العربية حتى ذي الحجة وهو الشهر الثاني عشر ، فكان رقم 12 يحمل في طيا ته الكمال و الاكتمال في الحقيقة المحمدية ، و كان شهر ربيع الآخر يعبر عن تكاثره " إنا أعطيناك الكوثر " (الكوثر 108 :1 )، و إلي قوله الحق " هو الذي يراك حين تقوم و تقلبك في الساجدين "(الشعراء 26 :218-219).

و بذلك كان شهرا " ربيع الأول " و "ربيع الآخر" يعبران تمام التعبير عن كل من توجه إلي نقطة حقية في "شهر صفر "فكان ذلك إيذانا و تلويحا لبدء ميلاد الحق فيه مرموزا له بربيع الأول ، ثم بشري التحقق به في نهاية السنة الهجرية مرموزا له بشهر ربيع الآخر .. إلا أن ذلك يكون للقلة،

"وما أكثر الناس و لو حرصت بمؤمنين "(يوسف 12 :103) أما الكثرة فتراهم مخاصمين لنقطة الحق حتى لو عرفوه ، فعبرت الشهور العربية عن ذلك بشهري جمادى الأولي ثم جمادى الآخرة.

جمادى الأولي - جمادى الآخرة : " جماد " في اللغة تقال لذم الرجل البخيل و يقال " أجمد فلان " أي دخل في شهور جمادى فاشتد بخله و قل خيره ، و منها أيضا " الجمد" أي الصلب المرتفع عن الأرض.
المعرض عن الحق ، المخاصم له ، المعاند لنوره ، هو من جحد نعمة الله عليه فلم يشكر هذه النعمة ، نعمة تواجده و إيجاده ليكسب الحياة الدائمة التي لا موت فيها و لا انحلال "و قليل من عبادي الشكور "(سبأ 34 :13) ، فكان اعراضه بخلا و شحا منه لمالك الملك الذي وهبه نعمة الحياة و فرصة الوجود " الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل " (النساء 4 : 37) ، و يصفهم الحق في موضع آخر بقوله " وأما من بخل و استغني و كذب بالحسنى فسنسيره للعسري "(الليل 92 : 8-9-10) ، .. و قلنا أيضا أن " الجمد " هو الصلب المرتفع عن الأرض ، و هي الحجارة و الصخور الصماء شبه بذلك الحق المعرضين عنه ، البخلاء ببذل نفوسهم من أجله ، بالحجارة الصماء التي لا حياة ظاهرة فيها " و تحسبهم أيقاظا و هم رقود "(الكهف 18 :18) . إلا أن الحق يحدثنا عنهم في موضع آخر قائلا "ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، و أن منه لما يشقق فيخرج منه الماء ، و أن منها لما يهبط من خشية الله ، و ما الله بغافل عما تعملون " (البقرة 2 : 74) .....فعنون الحق بذلك من كان أهلا لشهر رجب ، و رجب شهر الله ، فانفجرت من طبيعته الحجرية الماء ، الذي هو أصل الحياة بعد أن كان ميتا ، و هم القلة المغبوطة ، المصطفاة و ذلك لقول الحق : و أن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار فكان ذلك استثناء لتعميم و كانت هذه القلة هي المؤهلة لرؤية هلال شهر رجب .

شهر رجب : يقال في اللغة " رَجَبَ " فلانا أي خافه ، و هابه ، و عظمه ، وهو من الأشهر الحرم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رجب شهر الله " أي أنه الشهر الذي تتجلى فيه عظمة الله ، " ولمن خاف مقام ربه جنتان "(الرحمن 55 :46) ، و شهر رجب يحمل في طيات اسمه معني الجبر ، أي أن الله يجبر فيه ما انكسر و التوي من الأخلاق البشرية ليكملها فتستقيم علي مراد الله بها " اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم و لا الضالين "(الفاتحة 1 :5-6-7) ، أي أن الله يجبر من خافه وعظمه ، فيرده بعد ميله و اعوجاجه إلي الصراط المستقيم و من هنا قال الرسول" أنا أقربكم من الله و أخوفكم منه "، فافترق الناس في ذلك الموضع ، فمنهم من خاف الله و عظمه فجبره الله و رسوله ، و منهم من ظل علي التوائه و اعوجاجه ، فكان بعيدا بقيامه عن رحمة الله ، و رحمة الله إنما هي في رسول الله "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (الاتبياء 21 :107) ، فكان ذلك استهلالا لشهر شعبان.

شهر شعبان : جاء الاسم في اللغة من شَعَبَ ، و تشعب الشيء شِعبا أي فرقه و يقال شعب الصدع أي لمه و أصلحه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " شعبان شهري " أي أنه عندما أشهر محمدا رسولا لله وقدوة للناس ، اختلف فيه الناس فريقين ، فريق آمن و تابع ، و فريق ولي و استكبر مؤثرا عليه الحياة الدنيا " بل تؤثرون الحياة الدنيا و الآخرة خير و أبقي "(الأعلى 87 :16-17) ، و أن ذلك ليس بالأمر الجديد علي البشرية يا محمد ، بل هي سنة الناس علي الدوام من قديم الزمان و لذلك يكمل الحق قوله في الآية السابقة بقوله " إن هذا لفي الصحف الأولي صحف إبراهيم و موسى "(الأعلى 87 :18-19) .. أما من آمن و تابع ، فلقد تعرض لنفحات الله و رسوله و استجاب لهما ، فحيا بوجوده " يأبها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم "(الأنفال 8 :24) ، أما الشعب الآخر الذي تفرق عن الحق ، و آثر الحياة الدنيا فقد مات بانقطاعه عن مصدر الحياة و قطع بذلك وجوده عن ديمومة الحياة " و ما يستوي الأحياء ولا الأموات" ( فاطر 35 : 22) فكان المستجيب بذلك عرضه لهلال شهر رمضان.

شهر رمضان : مشتق في اللغة من رمض ، و رمض الشيء أي اشتد حره و يقال " رمضت الأرض " أي أشتد عليها وقع الشمس ، و" رمض الصائم "أي حر جوفه من شدة العطش،
و رمضت قدمه أي احترقت من الرمضاء و الرمضاء شدة الحر.

من ذلك نستنج أن رمضان هو شهر الجهاد و المعاناة ، شهر الجهاد الأكبر و من صفي فيه نفسه من شوائبها كان محلا لليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر ، و كان قلبه مهيأ لنزول الحق " فإذا قرأناه فاتبع قرأنه ثم إنا علينا بيانه "(القيامة 75 : 18-19) . والآية من سورة القيامة تشير إلي حال القارئ وقيامه.

و الشعب المصطفي من شعبان يكون محلا لاختبار الله و ابتلائه ، ليميز الله فيه الخبيث من الطيب

" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، و لقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين "(العنكبوت 29 : 2-3) ، و الآية وردت في سورة العنكبوت ، دلالة علي كون ذلك شرك يختبر الله به الناس لمعرفة قوة إيمانهم و يقينهم ، و لقد أوجب الله صيام ذلك الشهر تعبيرا عن الجهاد الأكبر ، الذي يصوم الناس فيه عن كل فكر و قول و عمل يخالف الفطرة النقية التي فطر الله الناس عليها ، بل أن الصوم في حد ذاته هو عود حميد إلي الفطرة ، ذلك أن الناس تعيش ذلك الشهر بأرواحهم، متخلين لفترة عن حاجات أجسادهم، فإن قاموا الشهر إيمانا و احتسابا غفر لهم ما تقدم من ذنبهم و ما تأخر كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم و ذلك لكونهم قد تخلوا عن مادي وجودهم مستجيـبـين لدعوة الحق " يأبها الذين آمنا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلي الأرض "(التوبة 9 :38)، و الآية وردت في سورة التوبة دلالة علي أن من ينفر في سبيل الله متخليا عن أرض ذاته يكون محلا للتوبة ، ثم تأتي آية أخرى في نفس السورة لتوضح جليا ذلك المعني في قول الحق " و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون "(التوبة9 : 81) ، و "فقه" الشيء أي كشف غطائه ، أي علم أن الحر المقصود إنما هو الجهاد المعبر عنه ب" الرمض " أي شدة الحر ، فأبرز المعني دلالة شهر رمضان ، فمن رابط و صابر و جاهد في الله حق جهاده ، كان محلا لنصر الله و مغفرته و رحمته ، و الرحمة الكبرى هو أن يكون محلا لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، و كيف لا وهي معني رسول الله الذي كان خلقه القرآن ، و الذي تنزل فيه كل أمر حكيم ، ذلك هو المقصود من قوله صلعم " تركتكم علي المحجة البيضاء " أي علي الفطرة السليمة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فحق له أن يفطر علي حق برؤية هلال شهر شوال.

شهر شوال : الكلمة لغويا مشتقة من "الشوْل " و هو البقية من اللبن في الضرع، أو بقية الماء في الإناء ، و الشوال بذلك يكون صيغة مبالغة عن كثير اللبن و الماء ، و كلاهما فطرة التي لم تمتد إليها يد صانع ، فكان الإفطار في شوال كناية عن الفطرة التي فطر الناس عليها " خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "(التين95 :4) ! ، أي علي الفطرة النقية ، فكانت نتيجة الجهاد في شهر رمضان سببا في عودة الإنسان إلي الفطرة ، فطرة الله "التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون " (الروم30 :30) فمن عاد إلي الفطرة أذن له في رؤية هلال ذي القعدة.
شهر ذي القعدة : الاسم لغويا مشتق من" القعدْ " و هم الذين لا يمضون إلي الحرب ، وكذلك يشير إلي "القَعِدة " و هو مقدار ما يأخذه القاعد في المكان ، و شهر ذي القعدة هو أول الأشهر الحرم الثلاثة المتتابعة و سمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الأسفار و الغزو
و المعني يكمن في كون من عاد إلي الفطرة النقية فقد وصل إلي نهاية الرحلة و مقصودها ، و هو البيت الحرام ، أو القبلة ، فقعد و استقر فيه ، إلا أنه لم يحج بعد .. قد انتهي سفره فقعد ، و تغلب علي نفسه فسالمته فكف عن الجهاد و الغزو ، و ذلك معني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح " فالواصل إلي هذا المقام قد اشهر هلال شهر ذي القعدة فقعد و عكف في ساحة البيت انتظارا للحج الأكبر " و عهدنا إلي إبراهيم و إسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود "((البقرة 2 :125) و الطائفين هم أهل شهر " صفر " ممن أدرك نقطة الحق فطاف حول النقطة في دائرتها ، أما العاكفين فهم من قربوا النقطة في دورا نهم حولها ، فعكفوا و قعدوا هناك انتظارا ليوم يكونون فيه من الركع السجود ، دلالة علي الاستسلام التام لنقطة الحق و ذلك لا يكون إلا بالتخلي تماما عن النفس في أرض المنحر بعد وقفة عرفة ، فهم من السعداء الذين سمعوا منادي الحق يؤذن للحج "و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و علي كل ضامر يأتينا من كل فج عميق " (الحج 22: 27). فمن استجاب للنداء من أهل ذي القعدة شاهد هلال شهر ذي الحجة.

شهر ذي الحجة : حج في اللغة تعني قصد المكان و قدم إليه وهو ثاني االأشهر الحرم المتتابعة.
الحج عرفة ، أي أن من بلغ مبلغا من المعرفة الحقية جعلته يدرك وهم وجوده ، و استحالة هذا الوجود المتخيل لسرعة فنائه و تلفه ، أدرك حداثة هذا الوجود مع الوجود القديم ، و كل حادث فان و زائل ، و القديم فقط هو الباقي ، فعرف قيومية وجوده الحادث بالقديم الباقي ، الواحد الأحد الفرد الصمد ، فأنكر وجوده وأثبت وجود الله ، واجب الوجود لكل موجود ، فعرف يوم أن وقف بعرفة أن إثبات وجوده ذنب لا يقاس به ذنب ، فرجم شيطانه ، و نحر نفسه قربانا لحقه ، ففني عن زائف وجوده المغاير لوجود ربه ، و بقي بربه القائم عليه بقيوميته وصمديته ، فكان شهر ذي الحجة إشهارا لذلك المعتي في الإنسان و قد انمحى باطله.

تلك هي دورة الزمان في الشهور العربية و قد جاءت معبرة تماما عن الهدف من وجود الإنسان علي هذه الأرض ، شارحة لمراحل تطوره و سلوكه ، فكان كل شهر من شهورها إشهارا بطور من أطواره في رحلة الغرض منها التحقق بالله و رسوله " يأبها الإنسان أنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه " (الأنشقاق 84: 6) . ذلك قسم من الله علي نفسه بلقاء عبده ، شريطة أن يكدح مجاهدا لنفسه ، ومؤهلا كيانه و وجوده للقاء ربه ، و الآية المذكورة من سورة الانشقاق دلالة علي ما إذا صدق الإنسان في جهاد نفسه بغية لقاء ربه انشقت منه ربو بيته ، فلاقي الحق في وجوده و قيامه و ذلك كقول الحق سبحانه و تعالي " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا" (الفرقان25 :45) و الآية من سورة الفرقان دلالة من الله علي بزوغ شمس المعرفة المنوه عنها بوقفة عرفة ، إذا ما فرق الإنسان عنه باطله و بقي بحقه.

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 24-أبريل-2025 الساعة: 11:28 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/15525.htm