حدث يمني يبكي ويضحك في آن هناك أحداث تبكي أكثر مما تضحك، أو تضحك أكثر مما تبكي، لا فارق. من بين هذه الاحداث اعلان السفير اليمني في دمشق انه طلب اللجوء في بريطانيا، معتبراً ان في استطاعته ابتزاز بلاده بهذه الطريقة الرخيصة. اولاً، ان السفير العميد أحمد عبدالله الحسني كان قائداً للبحرية في ما كان يسمى اليمن الجنوبية. وبقي الحسني في منصبه حتى احداث كانون الثاني 1986، حين شارك في الحرب الأهلية التي أدت الى انهيار النظام في الجنوب. وكان من حسنات هذا الانهيار قيام الوحدة اليمنية في 22 أيار من العام 1990، تلك الوحدة التي أنقذت اهل النظام فيما قضت على النظام ذاته. انقذت الخاسرين في احداث كانون الثاني 1986، والرابحون من تلك الاحداث في الوقت نفسه. ذلك انه بعد تلك الاحداث، التي كانت حرباً اهلية بكل معنى الكلمة، تحولت الوحدة مخرجاً للجميع، وادت الى ما يمكن اعتباره نهاية سعيدة للطرفين اللذين تواجها في كانون الثاني 1986، غير مدركين ان العالم كله بدأ يتغير في تلك المرحلة، وان نفوذ الاتحاد السوفياتي، الذي كان القوة المهيمنة على اليمن الجنوبية، بدأ في التراجع بعدما تولى ميخائيل غورباتشوف السلطة، خلفاً للعجوز قسطنطين تشيرنينكو، الذي كان خلف بدوره عجوزاً آخر هو يوري اندروبوف. قليلون ادركوا وقتذاك معنى انفلات الوضع في اليمن الجنوبية، وكيف ان في استطاعة الدولة الماركسية الوحيدة في العالم العربي العودة بلمح البصر الى عهد مجتمع القبائل. حصل ذلك في لحظة، وبمجرد انشغال الاتحاد السوفياتي بمشاكله الداخلية، التي تبين لاحقاً انها مشاكل حقيقية، لا تستطيع القوة العظمى الثانية في العالم ايجاد حلول لها. يصعب على رجل مثل الحسني ان يفهم معنى الذي حصل وقتذاك وابعاده، ولماذا انهار النظام في جنوب اليمن! وكان انهياراً أعطى المؤشر الاول على ان شيئاً ما يحصل داخل الاتحاد السوفياتي نفسه، الذي فقد القدرة على السيطرة على رجاله في عدن. هذا هو الاطار العام الذي يمكن ان توضع فيه الأحداث التاريخية التي شهدتها "جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية" مطلع العام 1986، وهي احداث شارك فيها احمد الحسني قائد البحرية. واذا كان من كلمة لا بد من قولها فهي ان الرجل أبلى البلاء الحسن خلال احداث كانون الثاني 1986، ولعب رجاله دورا اساسيا في محاولة الدفاع عن حكم الرئيس علي ناصر محمد. ولا شك ان الشاهد الاول على ذلك عشرات القتلى الذين سقطوا برصاص رجال البحرية اليمنية الموالين لعلي ناصر، والذين كانوا يسيطرون على الطريق المؤدية الى المكان الذي انعقد فيه اجتماع للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي الحاكم يوم 13 كانون الثاني. هذا الاجتماع الذي كان مفترضاً ان يحضره علي ناصر، ولكنه تغيب عنه في اللحظة الاخيرة، شهد مجزرة حقيقية، أودت بحياة كثيرين معظمهم من خصوم علي ناصر. وكان على رأس هؤلاء علي عنتر، وصالح مصلح قاسم، وعلي شايع هادي، وعبدالفتاح اسماعيل. والاخير قتل لاحقاً اثناء خروجه من مقر المكتب السياسي ومحاولته الوصول الى مكان آمن، لكن حظه كان سيئاً، اذ كان عليه المرور بمكان قريب من مقر البحرية التي عرف رجالها الموالون لخصمه كيفية التعاطي معه! هذا جزء من التاريخ الذي ربما مر عليه الزمن أو لم يمر، لكن الوحدة، كما يقول اليمنيون، "جبت ما قبلها" من احداث، اي انها فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين اليمنيين. والوحدة اتاحت للحسني البقاء في اليمن بعد لجوئه الى صنعاء، ثم عودته الى شغل موقع قائد البحرية بعد مشاركته في الحرب على الانفصال صيف العام 1994 الى جانب قوات الشرعية. لكن ما العمل اذا كان لا بد من خروجه من هذا الموقع اثر حادث المدمرة "كول" في عدن خريف العام 2000؟! هل كان ممكنا بقاء قائد البحرية في موقعه بعد هذا الحادث الرهيب، الذي استهدف قطعة حربية اميركية في اهمية المدمرة "كول"؟! هل يمكن تجاهل ان لا بد من وجود من يتحمل المسؤولية عن ما حصل، خصوصاً ان ضرب "كول" كان مؤشراً على مدى نشاط تنظيم "القاعدة" واستعداداته لتنفيذ جريمة في حجم احداث 11 أيلول 2001؟ تحملت اليمن الكثير بسبب ضرب المدمرة "كول"، ولم تذهب الى حد الاقتصاص من ابنائها، بما في ذلك الذين قصروا من امثال احمد الحسني. على العكس من ذلك، كوفئ الحسني وارسل سفيراً الى دمشق، اعترافا بأنه ادى خدمات للبلد عندما شارك في الحرب على الانفصال. ومع ذلك، لم يجد الرجل ما يرد به الجميل لبلاده سوى طلب اللجوء الى بريطانيا، والتشكيك بالوحدة اليمنية التي هي في النهاية ضمانة لكل يمني. كانت البطولة ان يطلب الحسني اللجوء لدى تعيينه سفيرا في دمشق، وليس في الوقت الذي شارفت ولايته على الانتهاء. ولكن ما العمل اذا كان هناك من يطيب له العيش في بريطانيا، مدركاً ان اليمن لا يمكن الا ان تكون متسامحة مع ابنائها مهما ارتكبوا من آثام! وبذلك يكون الحسني ربح ربما بشكل مضاعف؛ فقد حصل على كل ما يمكن ان يحصل عليه من اليمن، وانتقل بعد ذلك للعيش في الخارج. يا لها صيغة مريحة لبعض اليمنيين المستفيدين من روح التسامح التي سادت بعد الوحدة، والتي جعلت احمد الحسني ينسى كلياً منظر الجثث خارج مقر البحرية اليمنية في عدن. انه منظر كان كاتب هذا المقال من الذين شاهدوه بأم العين! نقلاً عن صحيفة الغدالاردنية |