المؤتمر نت - المفكر الاسلامي محمد عمارة
د. محمد عمارة -
الإسلام والتفاعل الحضاري
في الحديث عن علاقة الأمة العربية الإسلامية بالآخر الحضاري وعلاقة الحضارة الإسلامية بالحضارات الأخرى -وبالحضارة الغربية على وجه الخصوص - أجد من الضروري التمييز بين “الأوهام” و”الحقائق” التي اختلطت في هذا الموضوع.
فوهم كبير أن يتصور أحد إمكانية العزلة الحضارية في ظل وسائل الاتصال الحديثة لأية حضارة من الحضارات، حتى لو أرادت ذلك واجتمع أهلها على اختيار العزلة! بل إن مثل هذه العزلة بين الحضارات لم تحدث حتى في التاريخ القديم. وبخاصة للحضارات القائمة في المواقع الخاصة بطرق الاتصال بين قارات العالم وفي مقدمتها حضارات الشرق عبر التاريخ.
ومن حقائق “طب الحضارات” -إذا جاز التعبير- أن الانغلاق والعزلة الحضارية لابد أن يؤديا إلى الذبول والاضمحلال الحضاري.. تماما كما يحدث للجسم الذي يتغذى على “ذاته” دون مدد من المحيط!
ومن حقائق “طب الحضارات” أيضا أن تقليد حضارة لأخرى وخاصة في “الهوية” وثوابت السمات والقسمات المميزة لخصوصيتها على النحو الذي يؤدي إلى التبعية، إنما يقود هو الآخر إلى الذوبان والاضمحلال لأن “حياة” أية حضارة إنما تكمن في “الإبداع”.. والإبداع مستحيل مع “التقليد”، فلا يبدع إلا صاحب المشروع المتميز والنموذج الخاص، أما المقلد فإنه يعطي ملكات الإبداع “إجازة” مكتفيا بالنماذج “المعلبة” والخيارات “الجاهزة”!
وإذا كان “الانغلاق” مستحيلا وإذا كانت “العزلة” تقود إلى الذبول والاضمحلال، ولما كان “التقليد” يقود إلى التبعية التي تعني هي الأخرى، الذوبان والذبول، أي الاضمحلال، والذاتية والخصوصية، فلابد في العلاقة مع الآخر الحضاري من البحث عن الموقف الثالث الوسط، وهو الذي أسميه ب”التفاعل الحضاري” من موقع الراشد المستقل، الذي ينفتح على كل حضارات الدنيا دون أن يفقد ذاتيته وهويته واستقلاله الحضاري..
وهذا الموقف.. موقف التفاعل الحضاري الذي هو وسط بين “الانغلاق” و”العزلة” وبين “التقليد” و”التبعية” يستلزم ويستوجب اكتشاف مساحة “الخصوصية الحضارية” المكونة لهويتها الحضارية التي لا بد من إحيائها والاستمساك بها وحمايتها تماما، واكتشاف مساحة “المشترك الإنساني العام” في الإبداع الإنساني، لا لنقبله فقط من الآخرين بل ولنسعى إلى امتلاكه بكل ما أوتينا من قوة ولنتتلمذ على كل الآخرين الذين يبدعون فيه..
وإذا كان لي أن أضرب أمثلة على السمات والقسمات التي أراها نماذج لهويتنا وذاتيتنا الإسلامية وخصوصيتنا الحضارية، فإني أنبه على أن المدخل إلى هذا الميدان هو الوسطية الإسلامية والجامعة، أي التي لا تقف ساكنة بين القطبين والطرفين، وإنما تجمع منهما ما يمكن جمعه وتأليفه من عناصر الحق والصواب..
فإذا كانت “النرفانا” الهندية -ومعها الفكر “الباطني- الغنوصي”- ترى الإنسان “هامشا حقيرا - فانيا في المطلق” على حين تراه الحضارة الغربية سيد هذا الكون فإن وسطيتنا الإسلامية تراه الخليفة عن سيد هذا الكون وخالقه، سبحانه وتعالى، فلا تجرده من الحرية والسلطات، وأيضا لا تطلق العنان لهذه الحرية والسلطات، وإنما تقرها وتنميها، مع حكمها وضبطها ببنود عقد وعهد أو واستخلاف - الشريعة الإلهية-.
وإذا أقام النموذج الباطني طريق الخلاص والتقدم على العرفان والرياضة الروحية فقط، وأقام النموذج المادي -الغربي- التقدم على عوامل المادة وإشباع الحاجات الدنيوية وحدها، فإن خيارنا الحضاري هو الذي يرى السعادة في التوازن والعدل والوسطية فيؤسس المعارف على كتابي الوحي المقروء والكون المنظور، ويقرأ النقل بالعقل ويحكم غرور العقل بالنقل، ولا يرى سعادة في الدنيا إلا إذا حققت سعادة الآخرة -التي هي خير وأبقى- ولا يقف بالحقوق عند حدود الإنسان، وإنما يمد نطاقها إلى حقوق الله، التي تمثلها حقوق الأمة والاجتماع البشري، فلا يجرد الإنسان مثلا- من حقوق التملك في الثروات والأموال، كما لا يطلق العنان لتملكه في هذا الميدان، وإنما يعتمد نظرية وسطية الاستخلاف، فيراه مالكا للمنفعة، محكومة تصرفاته بشريعة المالك الحقيقي والواهب الأصلي للثروات والأموال سبحانه وتعالى.
نقلاً عن صحيفة الخليج
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 04:10 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/21627.htm