المؤتمر نت - صحيفة الخليج
الخليج - د. سليم الحص -
هشمنا بلدنا
( كدنا نستعير من العامية فنقول: “شرشحنا” هذا البلد)
كان لبنان دوماً يستحضر في أذهان الأقربين والأبعدين عناوين الحرية والديمقراطية والانفتاح والحيوية والنمو والعيش المشترك. مهما قيل في عوامل تحد من فضاء الحرية في لبنان، وفي ثغر تحد من فعالية الممارسة الديمقراطية، وفي عوائق تحد من حركة النمو الاقتصادي، وانقسامات تشوه صفحة العيش المشترك، فما كان ذلك ليحجب صورة لبنان المتميزة في المنطقة، في ما عرف به من صوت صحافي مدو وكلمة حرة وأقلام اقتراع وحضور اغترابي حيوي وتبادل تجاري ناشط مع الخارج وحركة سياحية واسعة وعملة حرة ومستقرة وتعددية في بنية المجتمع، وحركة ثقافية مشرقة.
ولكن دأبنا على تهشيم هذه الصورة كان فائقاً،. فلم نكتف بالتقاعس المطبق عن تطوير واقعنا ايجاباً بإزالة العوائق والعقبات والعثرات من طريق تقدم المجتمع، بل تهافتنا على تقويض ما كان من مقومات تلك الصورة، عبر أزمات دامية في عام 1958 وما بين 1975 و،1990 وأزمات سياسية عنيفة في عام 1952 وعام 1969 وفترة 2004 - ،2005 فإذا بنا اليوم ذاك المجتمع الذي يستحضر عناوين العنف والانقسام والعقم والفساد والعجز المالي والركود الاقتصادي.
هكذا، بجدارة ما بعدها جدارة، هشّمنا صورة البلد وسمعته. ونكاد نقول “شرشحناه” لا بل هشّمنا سمعة ما كان من القيم والثوابت: شوهنا سمعة الحرية والديمقراطية والوطنية والقومية والعيش المشترك والوفاق الوطني والوحدة الوطنية. لا بل شوهنا حتى سمعة الفساد والقتل. وقد بلغ فعل التهشيم مداه في الانتخابات النيابية الاخيرة.
صدرت تشريعات في بعض الدول الغربية تبيح زواج أفراد من جنس واحد، أي الذكر من الذكر والأنثى من الأنثى. فصدرت تعليقات كثيرة تندد بهذا التوجه الفاجر فنعتته بأقذع الأوصاف: إنه المروق على أبسط القيم الاجتماعية والحضارية والدينية، وهو هتك لكل الأعراف والتقاليد والمسلّمات.
فإذا بنا نمارس مثيل ذلك في التحالفات الانتخابية في لبنان، أي مرشح على استعداد للإئتلاف انتخابياً مع أي مرشح على الاطلاق بصرف النظر عن التباين في الخلفية السياسية او الوطنية او الأخلاقية او العقائدية، وبصرف النظر عن التعارض في الرؤى والمنطلقات أو في المواقع والالتزامات والإرتباطات.
من كان يسمي نفسه وطنياً لم يعد يجد أدنى غضاضة في عقد الخناصر ومن كان يسميه هو انعزالياً او تقسيمياً او ربما عميلاً لدولة عدوة، ومن كان يحتكر الولاء للبنان لم يعد يلقى حرجاً في شبك يده بيد من كان يسميه متنكراً للبنان او أجيراً لنظام عربي مجاور او مستزلماً لجهاز استخبارات شقيق.
وآخر بدعة من بدع الشتيمة في حياتنا العامة وصمة الاستتباع للاجهزة الأمنية اللبنانية السورية، وقد لحقت هذه الوصمة عهوداً من الحكم في لبنان منذ الحرب اللبنانية القذرة، وقد سميت حرباً قذرة لأننا شوهنا حتى سمعة الحرب. فإذا بكل الذين شاركوا في الحكم منذ ذلك الحين من صنعاء “الدولة الأمنية” أو من نتاجها. واذا كان بين اساطين الحرية والسيادة اليوم من كانوا في عداد المسؤولين إبان تلك الحقبة، فنهلوا من مغانمها حتى الثمالة، فذلك يعني ان الشرشحة (التهشيم) طاولت حتى سمعة النفاق والرياء والتقلّب والانقلاب على الذات.

بتنا، كلما سمعنا اثنين من السياسيين يتشاتمان، نقول: كلاهما على حق.
في غمرة الفظاعات التي كانت ترتكب خلال الحرب لم أتمالك يوماً أن قلت: “إن في لبنان وحوشاً تخطر بين الناس كالبشر”. وقديماً قيل، وسط التجاوزات التي شهدتها الثورة الفرنسية: “كم من جريمة ارتكبت باسمك أيتها الحرية”. واليوم في لبنان. في خضم ما نشهد من ألاعيب ومناورات وعربدات، نجدنا مدفوعين الى القول: “كم من خطيئة ترتكب باسمك أيتها المصالحة الوطنية، باسمك أيتها الوحدة الوطنية. باسمك أيتها الديمقراطية. لا بل باسمك أيها الطائف؟”.

كلهم، اللهم إلا قلة منهم، طائفيون، وكلهم يحاضر في الوطنية، وبين الطائفية والوطنية خطوة: يلتقي طائفي مع طائفي فيكون اللقاء وطنياً. ويسمى ذلك مصالحة وطنية. هكذا تكون الطائفية في مواسم مطية للاقتتال والذبح على الهوية ولحملات التخوين المتبادلة. وتكون هي في مواسم اخرى، كما اليوم، جسراً للمصالحة الوطنية وتعبيراً عن الوحدة الوطنية. واذا أوصل التحالف الأضداد معاً الى مجلس النواب فذلك من باب الصدف. فالهدف “الأسمى” هو المصالحة الوطنية، فإذا كانت الثمرة وصول المرشحين الى جنة النيابة فهذا أقل ما ينبغي ان يكون جزاؤهم.
في موسم من المواسم، كل الشجاعة والإقدام والوطنية ان يقتل واحدهم الآخر، وفي مواسم اخرى، التلاحم بينهم هو الوحدة الوطنية في أبهى صورة. إنك ترى احدهم يتبنى شعاراً كان يرفعه من كان عدواً له، فلا تصدق عيناك. وتسمع آخر يتلو بياناً يتبنى فيه قضايا كان يتنكر لها ويناهضها، فلا تصدّق أذناك. وفي منطق الموسم، اذا كنت لا تصدق فهذه مشكلتك وليست مشكلة احد من اللاعبين الميامين على مسرح السياسة.
حتى القتل “شرشحناه”.. شوهنا سمعته. الاغتيالات اضحت جزءاً من حياتنا كبار سقطوا شهداء، فإذا بأفواه المسؤولين تتشدق بالتصميم على التحقيق وملاحقة الجناة وتنقضي الأيام والسنوات ولا تحقيق ينجز ولا جريمة تكشف ولا جانٍ يلاحق؟ اللهم الا في حالة واحدة، توصل التحقيق الى تحديد هوية الجاني فاقتيد الى المحاكمة وحكم عليه بالاعدام ثم خفف الحكم الى السجن المؤبد. فإذا بالأصوات ترتفع مطالبة بالافراج عنه. وحجة هؤلاء دامغة: الجريمة وقعت في حقبة الحرب، وقد شمل قانون العفو العام كل جرائم الحرب الا تلك المحالة على المجلس العدلي. هذا يعني ان ثمة مجرمين يلاحقون ومجرمين لا يلاحقون، وبين الذين أعفوا من الملاحقة من ارتكبوا مجازر وبينهم من تبوأ أعلى المناصب والمقامات فأين العدالة؟
وفي أيامنا هذه، كلما وقعت جريمة قتل ارتفعت الأصوات المطالبة بالتحقيق وانزال أشد العقوبات بالجناة، ثم لا تلبث ان تسمع أصواتاً تحمّل سوريا المسؤولية حتى قبل أن يبدأ التحقيق. قلت أمام سفير دولة كبرى كان يتهم سوريا بجريمة معينة: “إنني استطيع أن أقتل من أشاء ومتى أشاء وأبقى بريئاً.. فسوريا سوف تتهم بالجريمة”.
جاءني يوماً سفير دولة كبرى، إثر وقوع جريمة كبيرة في بيروت، فقال في ما قال: “إن جهاز استخبارات دولته كان على علم بتلك الجريمة قبل وقوعها، وان معلومات ذلك الجهاز تنذر باحتمال وقوع مزيد من الجرائم التي تستهدف سياسيين مرموقين، لدى سماعي هذه الأقاويل تلاحقت في ذهني جملة تساؤلات: كيف يعرف الجهاز المحترم بالجريمة قبل وقوعها؟ ولماذا لم توظف هذه المعلومات في الحؤول دون تنفيذ الجريمة؟ ثم ألا يعني هذا ان ذلك الجهاز حاضر جداً في لبنان؟ فماذا يفعل جهاز استخبارات دولة كبرى في بلدنا الصغير؟ وما سر ابلاغي انا شخصياً بمعلومات تنذر باغتيالات سياسية مرتقبة؟
أجل، “شرشحنا” حتى الجريمة.. هشمنا سمعتها.. و”شرشحنا” حتى الفساد في الانتخابات النيابية، اذ ألبسنا الرشوة حلة قشيبة اسمها “المال السياسي” فأضحت الانتخابات في جانب كبير منها أشبه بسوق نخاسة.
“الشرشحة” (التهشيم) ليست مجرد مسرحية تشاهد بنجومها السياسيين، ومن ورائهم منتجون ومخرجون من الداخل والخارج. فالمسرحية لا قيمة لها، لا بل هي فعلياً ما كانت لتكون، لولا جمهور المشاهدين. لا وجود لمسرحية من دون مشاهد. والمشاهد هو المواطن، هو الناخب، هو الرأي العام. هذه المسرحية، ذات الموضوع المضحك المبكي، تنتهي يوم يدرك المواطن انه هو المسؤول عن تقبلها. ويوم يرفضها تنتهي فصولاً. ولقد كان المواطن في واقع الحال مشاركاً، لا بل شريكاً فيها عبر الانتخابات النيابية.

* الرئيس الأسبق لمجلس الوزراء اللبناني

تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 16-أبريل-2025 الساعة: 04:50 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/22402.htm