المؤتمر نت - مدرسة العامرية
المؤتمرنت -فيصل الصوفي -
مدرســــة العامريـــــــة
في مدينة رداع بمحافظة البيضاء نجحت محاولة كبيرة لإعادة الحياة لواحد من أكبر المعالم التاريخية في اليمن. يحدث هذا لأول مرة منذ أن توفي عامر بن عبدالوهاب (503) .. ذلك المعلم هو.. المدرسة العامرية.. هذه المدرسة أسسها السلطان صلاح الدين عامر بن المنصور عبد الوهاب بن داوود الطاهري، في ربيع الأول 910هـ، وأوكل إلى وزيره الأمير علي بن محمد البعداني شئون الإشراف على بناء العامرية لتضم بيتاً للصلاة وقاعات للدرس، ومساكن للطلاب، وحمامات.. وأوقف عامر لهذه المدرسة صافية رداع وصافية دمت وصافية جبن، ويعد عامر بن عبدالوهاب من أبرز سلاطين الدولة الطاهرية التي استمرت نحو 90 عاما ،وبنو طاهر هم من قبائل البيضاء ..خرجوا من تلك المنطقة وانشاؤها تلك الدولة على أنقاظ الدولة الرسولية، ووسعوها حتى بلغ نفوذها مناطق عدة من اليمن، منها عدن، وزبيد، والشحر، والمدرسة العامرية هي أبرز المعالم الباقية لتلك الدولة إلى الآن، وهي تعكس مستوى النهضة العلمية التي بلغته دولة بني طاهر، خاصة في عصر عامر بن عبدالوهاب، الذي خلف أبيه في الحكم عام 894هـ، إلى أن توفي عام 923هـ.
وكانت المدرسة العامرية المكان المناسب الذي يؤمه طلاب العلم لتلقي علوم القرآن والحساب، والنحو والخط والفقه والحديث، والتأريخ؛ فضلاً عن إنها كانت مسجداً.. وبسقوط دولة بني طاهر صارت هذه المدرسة عرضة للدمار، ومنذ لك الوقت لم يحدث مرة أن حاول أحدهم ترميم ما خرب منها، بل على العكس من ذلك، فقد كان هناك كثر يخربونها ويسيطرون على أوقافها.. ما بقي منها ظل يقاوم، ويقاوم.. في عام 1983م لفت الدكتور عبدالكريم الإرياني الانتباه إلى الأثر التاريخي، ومنذ ذلك الحين استمرت عملية ترميم العامرية وإعادة تأهيلها، وقد اكتملت الآن تقريباً، بعد أن استغرقت أكثر من 20 عاماً.. يوم الأربعاء الماضي زرت رداع، وكان هدفي الأول المدرسة العامرية، تنقلت في مختلف طوابق المبنى، وكل جزء منه، وصعدت إلى الأعلى، وخلال ذلك التقطت بعض الصور، مكونات "المدرسة العامرية" كما رأيتها عديدة كما إنها متعددة الأغراض، هناك ست قباب تعلو بيت الصلاة، وست قباب أخرى تعلو الرواقين الشرقي والغربي، وقبة تعلو البرج الشرقي، وأخرى تعلو البرج الغربي، وتحت القباب هذه بيت للصلاة، وصحن أوسط تحيط به أروقة وفصول الدراسة، وصحن من جهة الجنوب، ويرتبط هذا الصحن بسلمين شرقي وغربي، كما يربط البركة بالساحة الجنوبية وبالحمامات أسفل.
تحيط بالمدرسة ساحتان واسعتان نسبياً، إحداهما من جهة الشرق، والأخرى من جهة الغرب، وعبرهما يصعد زائر المدرسة عبر سلمين "درج" ليصل إلى الصحن الجنوبي سواء صعد إليها من الساحة الشرقية، أو الغربية.. وعند نهاية كل سلم من الطرف الأعلى هناك مساحة مربعة يعلوها برج مكون من غرفة تسمى استراحة السلطان، وفوق البرج قبة متوسطة الحجم.. أما في الأسفل فقد كانت هناك حمامات داخلية شتوية، وبيت للصلاة، و18 غرفة لسكن طلاب العلم، وبركة وحمامات الاغتسال والوضوء.. الساحتان: الشرقية والغربية، يجري استكمال تحويلهما إلى مسطحات خضراء ومسورة بإطار عليه زخارف تسمى "الشرانف، أو العرائس" وتلائم الشكل العام للمبنى في الماضي كانت هاتان الساحتان من الأراضي الموقوفة للمدرسة، ولكن تم الاستيلاء عليها من قِبل الأهالي، وهذا حدث منذ مدة بعيدة ولاحقاً تم إقامة مساكن ودكاكين عليها، وأصبحت المدرسة محاصرة بهذه المباني، وعندما ظهر مشروع إعادة تأهيل العامرية هدمت 5 مساكن و9 دكاكين وتم تعويض أصحابها وتحولت المساحة التي كانت تقوم عليها تلك المساكن إلى مساحة خالية تم زراعتها وأصبحت متنفسات لهذا المعلم التأريخي.
لقد مرت بالمدرسة العامرية محن كثيرة، ومع ذلك ظلت صامدة، فإضافة إلى عوامل التعرية الطبيعية، وإلى الإهمال، كان التخريب المتعمد أحد صنوف العدوان الذي تعرض له هذا المعلم التاريخي، فالأراضي المحيطة به وكانت ضمن أوقافه، تم الاستيلاء عليها من قِبل السكان في مراحل مختلفة، وإلى وقت قريب كانت المدرسة مجرد مبنى مهجور زحف إليه البنيان حتى لاصق جدرانه من جميع الجهات.. حتى الرماة الذين يتسللون في المناسبات الاجتماعية ويبروزن قدراتهم في مجال "قنص" أو إصابة الأهداف الدقيقة كانوا يفضلون استعراض قدراتهم على قباب العامرية!!
مطلع العقد الثامن من القرن الماضي قام الدكتور عبدالكريم الإرياني – ولأول مرة- بلفت الانتباه إلى هذا المعلم التاريخي في سياق اهتمامه بالتراث، ومنذ مارس 1983م، وحتى اليوم، وهو يتابع أعمال الترميم، ومؤخراً زار المدرسة مرتين للتأكد من جاهزية المشروع، أو اكتماله ليصبح جاهزاً؛ حيث سيفتتحه رئيس الجمهورية.
خلال الأعوام 1983-1986م تكفلت الحكومة الهولندية بتمويل المراحل الأولى لترميم المدرسة، لكن هذا الدعم توقف بعد ذلك إلى عام 1997م، ثم استؤنف من جديد؛ حيث مولت سفارة هولندا أعمال النجارة التي بلغت تكاليفها 21مليون ريال؛ إضافة إلى تمويل نفقات تزويد المدرسة بالكهرباء.
وانفقت الحكومة على أعمال الترميم 8 ملايين و56 ألف ريال، خلال السنوات 1983-1999، وهذا ما جعل أعمال الترميم تتعثر، أو تسير ببطء.. في عام 2000م أولى رئيس الجمهورية هذا المعلم التاريخي اهتماماً كبيراً، وهذا ما ساعد على إعادة المدرسة العامرية إلى ما كانت عليه عند إنشائها، حيث خصص المشروع إعادة تأهيل العامرية مبلغ 154 مليون ريال.
كانت التكلفة التقديرية المقترحة (ضمن الخطة الخمسية الثانية للدولة) لترميم المدرسة هي (540) مليون ريال، لكن من الناحية الفعلية تم إعادة تأهيل المدرسة الآن بمبلغ 154 مليون ريال فقط.
في أسفل المدرسة يوجد الآن معرض للصور يحكي قصتها، وما تعرضت له من خراب على الأقل خلال المائة السنة الأخيرة. وهناك صور أخرى تبين كيف تم بعثها من جديد. هناك صور التقطت للمدرسة بداية القرن الماضي، وتظهر في تلك الصور وهي خرب، ثم صور أخرى للمدرسة وهي في حالة أسوأ.. وفي المعرض أيضاً صور تسجل مراحل الترميم منذ بدايتها 1983م، وصولاً إلى استعادة العامرية لروحها وشكلها الحقيقي اليوم.
عندما تتوافر لديك معلومات لتتمكن بها من إجراء مقارنة بين ما كانت عليه العامرية عام 1983م، مثلاً، وما صارت إليه العامرية اليوم تشعر بالفخار، فالذين أعادوا هذا المعلم إلى الدنيا من أبناء رداع، ومن الاختصاصيين في هيئة الآثار، وكان إلى جانبهم عدد من الخبراء الإيطاليين الذين تولوا تثبيت وتنظيف الزخارف والكتابات الملونة داخل بيت الصلاة، وبتمويل من حكومتي هولندا وإيطاليا والصندوق الاجتماعي للتنمية.
والمدرسة العامرية آية في الفن المعماري في قبابها وتوزيع مكوناتها، وسهولة الحركة داخلها، وزخارفها المتعددة، لقد وصفها لي " يحيى النصيري " مدير عام الآثار هناك إنها "عروس في فن الزخرفة" إذْ جمعت بين أساليب وفنون وطرق متعددة، وكأن من شيدوها في ذلك الوقت كانوا من الذين تأثروا بالطراز العثماني، والمغربي، والفارسي، وربما الصيني والياباني.. فكل هذه الطرازات اجتمعت في العامرية التي اعتبرها النصيري "قاموس محيط في الزخرفة" قال لي " لاحظ هذه الزخارف الجصية، وهذه الزخارف الملونة ، وهذه الكتابات الجصية، ثم هذه الخطوط العربية التي وضعت على خلفيات زخرفية زادتها جمالاً فوق جمالها.
يعتقد أن السلطان عامر بن عبد الوهاب جلب أمهر الصناع ،والنقاشين ، والنجارين ،ومن أجل إنشاء هذه المدرسة سخرت مبالغ كبيرة لهذا الغرض مواد بناء ثمينة، خشب الطنب والساج، الأحجار أيضاً يبدو أنها نقلت من مكان آخر إذْ لا وجود لمثيلاتها في المنطقة، وهذا يفسر صمود العامرية أكثر من 500 سنة رغم ما تعرضت له من إهمال وتخريب.
عندما تصعد إلى أعلى قبة في المدرسة والبرج، وعندما تدخل بيت الصلاة وتسير في الأروقة، وعندما تتعرف على كل شيء في مكونات هذه المدرسة، ستجد هنا بناء شامخاً وتصاميم تثير الدهشة، ومن بعيد أصبح مظهر العامرية يثير الابتسام.
تساءلت.. هل هذه هي العامرية التي بنيت عام 910هـ. ترى لو أن الله بعث عامر بن عبدالوهاب ليرى مدرسته في هذه اللحظة، وبعد إعادة تأهيلها هل سيتعرف عليها...، هل سيصيح.. ياللهول إنها هي.. إنها العامرية التي تركتها في ذلك اليوم.
قال يحيى النصيري بالطبع إنها هي.. فقد تم إعادة تأهيل المدرسة حسبما كان عليه حالها عام 910هـ، ولم تدخل إليها أثناء الترميم أشياء جديدة، أو ليست منها، أما كيف حدث هذا، فالأمر بسيط، كانت هناك صور قديمة للمدرسة، وكانت هناك بقايا للأبواب والنوافذ الخشبية القديمة، وبموجب تلك الصور والنماذج أُعيد ترميم المدرسة، فمثلاً تم صنع الأبواب والنوافذ والمشربيات الخشبية من جديد، وبنفس الشكل أو الزخرفة، وبعض الصور التقطت للمدرسة بين عام 1901 و1909م بعدسة سائح ألماني، وتم الاعتماد عليها في معرفة كيف كان شكل المدرسة بداية القرن العشرين مثلاً.. الآن خصص الجزء الأسفل من المدرسة كمتحف أو معرض للصور التي تحكي للزائرين رحلة المدرسة من الموت إلى البعث.
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 27-ديسمبر-2024 الساعة: 01:16 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/22539.htm