عبدالرحمن الشامي * -
متى نبلغ مرحلة السيادة التامة للقانون ؟
«سيادة القانون» و»قيمة الإنسان» هما من أهم مفاتيح أسرار تقدم الغرب، ومرتكزات حراك الحياة فيه، حيث «الإنسان» بصفة خاصة هو محور اهتمام هذه الحياة، ودائرتها المركزية التي تدور حولها، ومن ثم فكل شيء مسخر للعمل من أجله، وغدت ترجمة هذا المفهوم على أرض الواقع مسألة واضحة وأمراً جلياً، وذلك فيما يتعلق بقيمة هذا الإنسان التي تبدو للقادم من بيئة المشرق العربي بأنها قد تصل في «بعض» الأحيان إلى مستوى «التدليل» له، غير أن ذلك يظل هو واقع الحياة الإنسانية هناك، في حين أن حقيقة هذا المفهوم في المشرق العربي أقل ما يمكن وصفه به هو أنه لا يأخذ من حيز الاهتمام الكثير، بل يبدو الحديث عنه في كثير من هذه البلدان وبالنسبة لعدد من الناس بمثابة الحديث عن شيء «كمالي» أو جانب ترفيهي، فثقافة القيمة الإنسانية ضعيفة، وتجذرها في اهتمام الناس هناك اضعف، في حين أنها عريقة التجذر في الغرب. وفي المشاهد الآتية من الدلائل الكثير:

المشهد الأول: «تيري شايفكو» التي عاد الحديث عنها يظهر مرة أخرى في محيط الحياة الأميركية، وأصبحت صورها تشغل مكانة متقدمة في عناوين الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية، بعد أن كشف «التشريح الطبي» الأخير سبب وفاتها، ولعل المتابع لهذه القضية لا يزال يتذكر كيف شغلت هذه القضية يومها بال الرأي العام الأميركي، الشعبي والرسمي على حد سواء، وكيف نالت الاهتمام العام، بدءاً من رجل الشارع العادي، وانتهاء بالكونغرس والمحكمة الدستورية العليا، بل رئيس الدولة الذي اضطر إلى قطع إجازته الأسبوعية من أجل التوقيع على القرار الخاص بإحالة قضيتها للمحكمة الدستورية العليا!

المشهد الثاني: العروس «جنيفر»، التي هربت قبل إقامة عرسها بيوم واحد، واختلقت بعد ذلك قصة اختطافها إلى «المكسيك» وتعرضها للإعتداء الجنسي، واحتشد المئات من الناس، من المتطوعين بمن فيهم بعض المدعوين إلى حضور حفلة الزفاف، ومن رجال الشرطة والـ «أف بي آي» بحثاً عنها، ووصلت تكاليف عمليات البحث تلك بحسب التقديرات المعلنة إلى «أربعين ألف دولار»، وهي تواجه حالياً دفع تعويض مادي للسلطات المحلية، فضلاً عما سيحكم عليها من قضاء عدد من الساعات في خدمة المجتمع جراء ذلك الإدعاء الكاذب الذي كلف المجتمع المحلي: الرسمي والعادي الكثير من الوقت والجهد. الجدير بالذكر أن «جنيفر» باعت أخيراً قصة حياتها بمبلغ 500 ألف دولار أميركي لتصوير فيلم سينمائي عنها!

هذان الحادثان هما نموذجان من بعض «المشاهد» الدائرة حالياً على «مسرح» الحياة الأميركي، فما الذي يقابلهما هناك في بيئة المشرق العربي: ضحايا عمليات التفجير الجارية في «العراق» على قدم وساق، والتي اختلطت فيها الأوراق، وتجاوزت حتى الآن ما يربو عن 800 قتيل، أما الجرحى فيقدر عددهم بالآلاف، حيث عدد ضحايا العملية الواحدة يتجاوز العشر، وكثير منا في العالم العربي يشاهد يومياً نشرات الأخبار وصور هؤلاء الضحايا على شاشات التلفزيون، أو يقرأ عنها بالمعدل نفسه في الصحف: العربية والغربية بنوع من اللامبالاة، حيث نمر عليها مرور عابراً، وكأن ما يحدث لا يعنينا من قريب أو من بعيد، فقد «تعودنا» على ذلك من كثرة رؤية تلك المشاهد اليومية، غير قادرين على فعل شيء، أو لعل هؤلاء القتلى وبهذا الكم العدد اليومى ينتمون إلى فصيلة أخرى غير فصيلة «الآدميين» الذين اختصهم الله تعالى بالتكريم، وفضلهم على سائر المخلوقات، وأغلظ بشدة في تحريم كل ما يمس حياة هذا المخلوق، فما الحال في انهائها. ولكن تلك المفاهيم يبدو أنها قد توارت عن حياتنا وغابت - أو غيبت - عنا في زحمة الحياة ضمن كثير مما أصابه الدهر بالنسيان والأيام بالتقادم.

كنا نأمل كثيراً بما تتمخض عنه الانتخابات العراقية الحد من دائرة العنف الجاريـــة هنــــاك، وبــــدء الخطوات الأولى في بناء دولة النظام والقانـــــون التي يغدو فيها الجميـــع سواسية في الحقــوق والواجبــات، غير أن ما حدث بعد ذلك يناقض المنطق الطبيعي، ويستعصي فهمه على العقل السليم، حيث زادت دائــرة العنف اليومي، واشتدت وطأتها، واتسع نطاقها، وكـــأن القوم هناك في سباق محموم في تحقيق أعلى معدل إبادة بشرية جماعية، ينافسون به عمليات الإبادة الجماعية التي حدثت بين قبائل «التوتسي» و«الهوتو» في «رواندا» في عام 1998. أما أهم أسباب ذلك فيعود إلى أن ثقافة الخيار الديموقراطي والتسليم بمعطيات «صندوق الانتخابات» لا يزال ضعيفاً في ثقافتنا العربية، وإذا لم تأت نتائج هذا «الصندوق» بما تشتهى «السفن»، وتمليه رغبات «الكبار» وأهواءهم، فالنتيجة الحتمية هى ما نراه الآن نموذجاً مصغراً لما يمكن أن يحدث في أي دولة عربية ما زالت تعاني من عدم احترام رأي الغالبية والخضوع له، وإجلال الممارسة الديموقراطية التي ما زالت بعد مضي كل هذه السنوات توصف في عالمنا العربي بأنها «حالة»، ولم ترق بعد إلى مستوى «العملية» التي تهيمن على مجمل شؤون الحياة، ويشترك فيها جميع الأفراد.

وإذا ما عدنا الى محاولة تلمس جماع تلك المشاهد، والرابط الذي يوحدها وجدنا «الإنسان» وقيمته في المشهد الغربي والمشرق العربي، فبسلطة القانون تحشد كل القوى، وتسخر كل الإمكانات في البيئة الغربية إذا ما حدث شيء يتصل بهذا الإنسان أو يمس حياته، وعلى العكس من ذلك مما نعرفه جميعاً فيما يتعلق بهذه القيمة، واستحقاقاتها في بيئتنا العربية، فالممارسات السلبية التي تزخر بها سنوياً سجلات منظمات حقوق الإنسان، وتدبج بها تقاريرها السنوية هي المنجزات التي لا ينافسها أي منجز آخر يتحقق على صعيد حياتنا العملية في أي قطر عربي!

وإذا كان ما يحدث في العراق يمكن التعلل عنه بالظرف الاستثنائي الذي يعيشه هذا القطر، فماذا عسانا أن نبرر حالة التذمر الواسعة، وعدم الرضا العام السائد حياة الكثير من الأفراد في محيط بيئتنا العربية، وكيف يمكن لذلك أن يؤثر في إحساس المواطنة والانتماء القومي، حين تظل هذه الحالات هي المتحكمة في مشاعر فئة ليست بالقليلة، وما يمكن أن يترتب عليه من تأثير لمستوى العطاء والمشاركة الوطنية في عملية البناء، فضلاً عن الأصوات الساخطة التي أضحت تكتظ بها المنتديات العربية على المواقع الإلكترونية، والحوارات الصوتية الجارية على شبكة «الإنترنت»، في إدانات واضحة لعدم قدرة هذه البيئات على احتواء كل أبنائها، بصرف النظر عن اختلاف معتقداتهم، وتباين توجهاتهم!

ليلنا العربي الممتد مداه من المحيط إلـــى الخليــج لن يبزغ فجره ما لم نعترف أولاً بـ «الآخر» بيننا، ونحسن الظن في بعضنا البعض، محترمـــــين مختلــــف القناعات الدينية والاختيارات الأيديولوجيـــة والفكريـــة، والجار القريب منا، والبعيد المختلــــف عنــــا ديناً وعقيدة وثقافة وأسلوب حياة، ممن تربطنا بهم مصالح متبادلة، وهم إخوة لنا في الإنسانية وشركاء في مسألة العيش الكوني وتحقيق السلم العالمي. وما لم نوطن أنفسنا على التسليم بالخيار الديموقراطي كأسلوب حكم عملي موحد لكل القوى السياسية الموجودة على الساحة العربية متى كانت مقتنعة بما تتمخض عنها هذه العملية، ونتوقف عن مسألة الحديث الممل والجدل العقيم عن التعارض القائم والتناقض الحاصل بين «الإسلام» و»الديموقراطية»، أو بين «الديموقراطية الغربية» و «الشورى الإسلامية»، وهو الحوار الممتد على الصعيد الثقافي العربي منذ عشرات السنوات، إلى نحو أضحى الحديث عنه على هذا النحو بمثابة السؤال الأزلي «هل البيضة من الدجاجة»، أم أن «الدجاجة هي التي من البيضة»؟ حتى ننتقل إلى المرحلة التالية في مرحلة البناء المؤسسي لأوطاننا العربية، وبغير ذلك سيبقى ليلنا طويلاً وممتداً، حالك السواد، وسنظل نرعد ولا نمطر، على حد وصف نزار قباني رحمة الله عليه.

* أكاديمي يمني، أستاذ زائر في بوسطن – الولايات المتحدة.
* نقلا عن جريدة الحياة اللندنية 03/07/05
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 11:46 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/22810.htm