فصول من مسيرة البردوني الحياتية والشعرية لا يملك الأدب العربي الكثير من نماذج التعبير النابع من ظلمة البصر وضياء البصيرة، أو العمي الفيزيائي والرؤية العبقرية الشاسعة التي يعجز عن مضاهاتها كثير من المبصرين، والشاعر اليمني عبدالله البردوني خير تقاليد زرقاء اليمامة، حيث تنكشف في مخيلته تلك المشهدية التراجيدية التي تنغلق على سواه، وحيث السخرية المريرة هي العماد المركزي في شعر يقيم على أرض البشر يمانيين وعرباً، ويلامس وجدانهم في معيش الروح وهاجس الجسد، وفي اكتناه التاريخ في الحياة اليومية والحياة المرشحة للرسوخ في الذاكرة. كلما وقعت عيني على اسم بشار بن برد في أخبار الاعتزال او في أخبار أشعاره أسرعت مخيلتي الى عبدالله البردوني، فإذا كان الشعر والعمى والتمرد على بعض الأطر هي أعذار مخيلتي في ما تراه من تشابه بين الشاعرين والموقفين، وكان لا بد من المماثلة فالأقرب أن تتوافق هذه العلاقة مع شاعر المعرة فهو الأدنى من عصر البردوني، وهكذا اختصرت مخيلتي العصور ولا أدري أيهما عندما مقترن بالآخر؟ وحتى يكون الاقتران أكثر توفيقاً تصورت البردون ييجلد ويموت كما مات شاعر البصرة، على يد حاكم توهم الناس كلهم "زنادقة" إلا من غنى وغرد له وتعمد الى ذلك حتى تصدق مخيلتي على ما ذهبت إليه من توافق بين الشخصين. وعندها سيقبل عذره بأنه لا يميز بين شروق وغروب كما رفض عذر ابن برد. تمرد بشار على عصره، فعند خروجه من الاعتزال نفاه المعتزلة عن البصرة، وبعد أن فسر تمرده بإدمان الخمرة والزندقة ألقوا عليه القبض متلبساً في مناجاة الله على غير الوقت المعتاد، وعندها جلده المهدي العباسي حتى الموت، كذلك تمرد البردوني على عصره بالمشاغبة المتواصلة على السلطة، فالواقع السياسي اليمني في نظره: فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري يصف البردوني البردوني بقوله: وأرتاد واعتصر الأزمان مكتبه واستجمع الشهب في كفيه منظار فهل يجرؤ ناقد ويقول أنه يبالغ في تعظيم نفسه؟ لقد كان البردوني منصفا لتلك الظاهرة التي أينعت من واقع وإمكانيات أقل ما توصف بأنها حقبة من حقب تاريخ القرون الوسطى، ويشكر البردوني عماه في وجده وتفوقه الأدبي والثقافي بقوله. "والله لو لم أكن كفيفا لكنت مثل اخوتي فلاحا أو راعيا أو مغتربا في إحدى دول الخليج" ولكن كيف يكون كفاف البصر عاملا رئيسيا في هذا الوجود والتفوق كما يصفه صاحب العلاقة؟ هل يعني به العمى العبقري؟ فهناك عميان لا يستدلون طريقهم حتى مع دليلين وعصا، بينما هناك من عادل عماه ملايين العيون المبصرة والمفتوحة على مصراعيها. دعونا نقول إنها ظاهرة " العميان العباقرة" والتي ينتمي لها عبدالله البردوني بكل ثقة عندما وصل عبدالله البردوني إلى العراق للمشاركة في مهرجان أبي تمام عام 1970م لم يعجب البعض هيئته وملابسه البسيطة فوجهة "مجدر" و" دشداشته" لا تليق بالمناسبات الرسمية كما يرى البعض ذلك، لكنه لم يكن رسميا في يوم من الأيام سواء مع أهل السلطة أو مع العامة، تتفجر ضحكته مع الأعماق متى ما أعجبه ذلك، حتى قيل همسا" بدون من الصحراء" وهذا أقل ما يقوله هذا النوع من المثقفين وندما أعتلى المنصة وقال بائيته مخاطبا أبا تمام ومطلعها الذي شاع في العراق بسرعة. ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب وعندها سكت من أستاء من هندام البردوني ولم يتطاول أكثر وفي هذا المهجران طلبت منه الشاعرة العراقية المعروفة لميعة عباس عمارة أن يقرأ في اليوم الأول لأهمية شعره، فهي عارفة بدبلوماسية مثل هذه المؤتمرات، وقد تكون بساطة البردوني من ثياب وهيئة عاملا في تقديم غيره من الشعراء المتأنقين، لذلك هرولت إلى وزير الثقاة العراقي آنذاك شفيق الكمالي طالبة منه ضرورة أن يقرأ البردوني في اليوم الأول من أيام المهرجان لعلو شأن الشاعر، وفعلا حصل ذلك رغم أن البردوني لا يفاضل بين الأيام. عرف البردوني نسبة إلى اسم بلدته بردون وقد ميز اسمة بتشديد الدال حتى لا ينسب خطأ إلى إتباع المفكر الاقتصادي الفرنسي بردون، الذي وصف من قبل الماركسية بـ " البرجوازي الصغير" لذلك يوصي بهذا التشديد ذاكراً تلك النسبة فهو من بردون- الحدا- ذمار. التقيت بأحد رواة وكتاب البردوني عبدالإله القدسي، وهو موظف بوزارة الثقافة، وقد التقينا في منزل البردوني بصنعاء عام 1992م وكما يبدو أنه كان المتحدث الشخصي بتاريخ وشعر البردوني، فقد حفظ عن ظهر قلب كل أزمات البردوني وخلجاته وشعره وسيرته، ومنه علمت أن شيخه عمل محاميا في المحاكم الشرعية بعد أن تعلم الفقه في المدارس الدينية، وعلى سبيل النكتة سألته: وهل دافع البردوني عن متهم سياسي؟ وكان سريع البديهة برده: " وهل حصلت في البلاد محاكمة سياسية يسمح للمتهم أن يختار محاميا له" وينقل القدسي طرفة من طرائف البردوني السياسية فيقول أنه كان جالسا في مجلس حكومي رفيع المستوى وسأله أحد الحاضرين: لماذا لا تكتب يا أستاذنا عن الديمقراطية. فرد البردوني الغيبة حرام" يعد البردوني من الندرة الذين مازالوا يتمكنون من ارتجال الشعر، ومازال محتفظا بقوة شعرية كبيرة فعمره الشعري يربو على خمسين عاما وبذلك يمتلك تجارب واسعة، أما في التأليف المنثور، فقد ألف في موضوعات مختلفة تنصب على الهم الثقافي اليمني، ومنها يتشعب إلى قضايا عربية وعالمية، فقد أرخ للفنون الشعبية، وأبدع في تجذير الأدب الشعبي اليمني موضحا صلته بعالم الأسطورة الشعبية والدينية، كذلك أرخ للشعر اليمني وشعرائه في كتابه، " رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه" الذي يعد موسوعة في هذا المجال ، ومن الكتب الأخرى التي صدرت له في مجال الثقافة كتاب" قضايا يمنية" و"اليمن الجمهوري" لقد اعتمد عبدالله البردوني في تكوينه الثقافي والفكري علىقواه الذاتية، مستلا من مأساة التخلف التي تحيط به قدرات معاصريه، وبما أنه لم يتتلمذ في معهد أو جامعة عربية أو أوروبية ظل مخلصا لفطرته متجاوزا قيودها إلى عالم أرحب، وبلور نهجا خاصا به معتمدا بالأساس على نقد واقعه، ومن حسناته أنه لم يتأثر بمنهج ما، وهذا هو عمق الأصالة في أعماله الشعرية والثقافية بشكل عام، إن عبقرية البردوني تكمن في حصانة إبداعة الثقافي من التأثيرات فهو نموذج من الإبداع الفطري، وعبقريته تأسست على دراسة بسيطة في اللغة والفقه، وعند المقارنة مع طه حسين كنموذج آخر للأعمى المبدع، فإن البردوني ظل مشدودا إلى قيود معاناته بينما نفذ منها طه حسين إلى مجال متنوع وواسع، وتخلص من تأثير تلك الفطرة عندما درس في الأزهر ثم في السوربون بفرنسا، ووجد من تضع خطوته في محلها، ونعني بها السيدة الفرنسية التي أصبحت زوجته فيما بعد كذلك لاوجه للمقارنة بين مصر طه حسين ويمن عبدالله البردوني، ولكن في المقاييس المجردة من تأثير تطور البيئة واعتبار الشهادات وتعلم أصول البحث يبرز البردوني مدرسة قائمة بذاتها لها إيجابياتها وسلبياتها. عن صحيفة الشرق الأوسط. |