المؤتمر نت - جانب من المدرسة المنصورية بمدينة جُبن - بعدسة نزار العبادي 1997
المؤتمرنت- نزار خضير العبادي -
المدرسة المنصورية بجُبَن.. فنٌ طاهري فر يد
ويرجع بناؤها إلى عهد الملك المنصور عبد الوهاب بن داود ، كما هو ثابت اليوم في الكتابات الجصية المنقوشة في داخل المُصلى، حيث كتب على الواجهة الشرقية للعقد المواجه للباب عبارة تقول: ( في التاسع من شوال أمر بعمارة هذه المدرسة والمنارة مولانا ومالك أمرنا السلطان المنصور عبد الوهاب بن داود)، وفي الزاوية الشمالية الشرقية كتب تاريخ البناء ( 887 هـ).
وتقع المدرسة المنصورية في وسط مدينة جبن،من محافظة الضالع؛ إلى الشرق من الجامع الكبير بمسافة مائتي متر تقريبا، وعلى خط واحد مع الجامع. وتتكون المدرسة من طابقين: طابق أرضي مقسم إلى عدة غرف متباينة الأحجام ، كانت في حينها مخصصة كمساكن للدارسين، وأماكن راحة وخدمات ومخازن، إلا أن الجزء الجنوبي من المدرسة يخلو من هذه الغرف .. ومن الجهة الغربية للمبنى صرح مقضض، دفنته الأتربة والأحجار في الوقت الحاضر إلى عمق المتر تقريبا، كذلك يقع السلم المؤدي إلى الطابق الأعلى، وتتصل بجانبه الأيمن السقاية التي أصبحت تمد كلا من الجامع الكبير والمدرسة بالمياه اللازمة، والتي تستخرجها من " بئر الأحواض" ولم يبق من مبنى السقاية إلا بضعة أمتار في الوقت الحاضر بعد أن خضعت للتخريب وبناء المحلات التجارية محلها.
وهناك مدخلان رئيسيان للطابق الأعلى ، أحدهما من الجهة الشرقية للمدرسة عبر بضع درجات، والمدخل الأخر من الجهة الغربية، وكلا المدخلين يوصلان إلى الجزء الجنوبي للمدرسة الذي تشغله بركة ماء صغيرة وبعض حمامات للوضوء. وقد استحدثت بها قريبا حمامات وحنفيات أزالت بعض المظاهر الأصلية للموقع.
ومن الجهة الجنوبية يتم الدخول إلى الرواق الجنوبي المربع، فصحن الجامع المربع أيضا، وهذا الصحن محاط بأربعة أروقة قائمة على أربع كابات ( أعمدة حجرية متينة يستند إليها السقف). وبين كل كابتين عمودان رخاميان، وعلى جانب الرواق الشرقي هناك غرفتان وبينهما درج تصل إلى أعلى المبنى الذي توجد في ركنه الجنوبي الغربي غرفة أخرى ، كما يمكن الصعود عبر هذا الدرج إلى أعلى المئذنة، ويوجد سلم آخر في الجهة الغربية- بجانب الركن الجنوبي الغربي، وقد أشارت المصادر إلى أن الغرف الموجودة في الطابق العلوي كانت مخصصة للسلطان أثناء زيارته للمدرسة، إضافة إلى العلماء والفقهاء العاملين فيها.
ويتوسط الرواق الشمالي للصحن باب تقود إلى بيت الصلاة، وبيت الصلاة عبارة عن بمنى مستطيل تعلوه ست قبب قائمة على عمودين أسطوانيين، وهذه القباب الست مشابهة تماما لما هو موجود في المدرسة العامرية برداع، كما توجد أربعة أبواب على جانب المبنى ( بيت الصلاة) أثنان منها يفتتحان إلى الرواق الشرقي والأخيرتين يفتتحان إلى الرواق الغربي الذي مازال باقيا على أصله بعكس الرواق الشرقي الذي يغطي جزء من سقفه قبة أشبه ببقية القباب إلا أنها خالية من الزخارف، وقد اختفت قبة أخرى بعد أن تهدم هذه الجانب من جراء انفجار قنبلة بقربه ألقتها الطائرات البريطانية في عهد احتلال الجنوب، ويقوم الرواق الغربي على ثلاثة عقود من الواجهة الغربية وعقد واحد من الجهة الشمالية، وهناك مأذنة عالية بارزة قليلا خارج المبني فوق محراب الصلاة.
أما بيت الصلاة فقد زين من الداخل بزخارف ونقوش ذات ألوان بديعة، والجدران محلاة بالكتابات الجصية من آيات القرآن الكريم، إلا أن الزخارف الملونة تم تجديدها حديثا بطلاء زيتي مما شوه جماليتها ورونقها، حيث أن الطاهريين كانوا مشهورين بزراعة " الفُوّة" التي تستخدم في صناعة الأصباغ، لذلك استخدم الطاهريون الطلاء الطبيعي في مساجدهم، والذي لا يتغير رونقه باختلاف الظروف المناخية، إلا أن أهالي جُبن لم يعرفوا القيمة التاريخية لهذا الطلاء فراحوا يجددونه بطلاء كيماوي مما أفقد المبنى جزء من قيمته الفنية الرائعة.
وتمتاز المدرسة المنصورة من الخارج- من جهتها الشمالية القبلية- بزخارف غاية في الروعة، تتشابه إلى حد ما مع ما هو موجود في المدرسة الأشرفية بتعز ؛ وجميع هذه الزخارف من جنس الزخارف الإسلامية المعروفة في معظم المقاطعات الإسلامية آنذاك، باستثناء نجمة داود السداسية، التي وجدت منها أربع نجمات سداسية إلى اليمين من المحراب.. وليست لهذه النجمة أي تعبير ديني مقصود. ويغلب الظن أنها لم تكن سوى نوع من الزخارف المعروفة في ذلك الوقت، مثلما هو الحال مع وجود رمز الهلال والنجمة الخماسية في بعض المعابد الوثنية، رغم أنها ترمز إلى المؤسسات الإسلامية ، ويمكن أيضا أن يكون وجود النجمة السداسية عائدا إلى الأيدي العاملة اليهودية، والحرفيين اليهود الذين كانوا يتقنون مثل هذه الأعمال الفنية الدقيقة والتي كان العرب يستعيبون العمل ببعضها، ومن الطبيعي أن ينقل هؤلاء الحرفيين جزء من تراث اليهودية، وفي كلا الحالتين فإن هذه النجمة لم تكن قد دخلت المدلول السياسي الذي تعرف به اليوم، حيث أنها لم تصبح شعارا في علم الكيان الصهيوني إلا في عام 1948م.
وتتشابه المدرسة المنصورية بجُبن مع المدرسة العامرية برداع من حيث المخطط إلا أن المنصورية أقدم من العامرية بما يقارب الثلاثة والعشرين عامان، إضافة إلى اختلافهما بالأعمدة الرخامية، فالأعمدة الرخامية في المدرسة العامرية، برداع تمت صناعتها في عهد الطاهريين تقليدا لما موجود في جُبن، أما الأعمدة الرخامية الموجودة حاليا في المدرسة المنصورية بجُبن فهي ذات قيمة تاريخية عظيمة جدا ولا تقدر بثمن، كونها تعود إلى عهد الدولة السبئية، سبقت ميلاد السيد المسيح ( عليه السلام) بمئات السنوات، وقد قام الطاهريون بنقلها من مدينة" ظفار" إلى جبن على ظهور الجمال، ودلت على ذلك عدة إشارات حملتها هذه الأعمدة، منها وجود نقش السلسلة والجرس على بعضها الآخر والذي كان مختصا بالمعابد القديمة، وهناك ميزة أخرى في غاية الأهمية، وهي الإتقان العالي في صناعة هذه الأعمدة ونقشها بدقة متناهية وسطوح ملساء مصقولة ببراعة حتى أصبحت من بريقها كالمرآة، أما زخارفها فكأنها تم تخطيطها بقلم .. وهذه المميزات في فن صناعة ونقش الرخام انفردت بها الحضارة السبئية عن غيرها من الحضارات التي تعاقبت من بعدها. ومن الملاحظ أن كل عمود من الأعمدة الثمانية الموجودة في المدرسة المنصورية بجبن مكون من ثلاثة أجزاء رئيسية ( الكأس- والذي يشكل القاعدة، والعمود الأوسط والتاج- الذي يشكل القاعدة العليا للعمود).
وقد ويتكون العمود الأوسط من عدة قطع جميعها مصممة للتداخل في نهاياتها مع بعضها البعض، ومع الكأس والتاج بأسلوب فني جميل من الصعب ملاحظته، وهناك عمود واحد- على ما يبدو- قد فقدت منه قطعتين من جزئه الأوسط واستبدلنا باخرتين من صناعة الطاهريين، دون التسبب بأي خلل في الأطوال والقياسات الأخرى، ولكن من السهولة تمييزهما كونهما ليسا بنفس مستوى الإتقان والصقل كباقي الأعمدة.
أن المدرسة المنصورية بفنها المعماري الجميل، ومدلولها التاريخي العظيم، أصبحت في الوقت الحاضر معرضة لخطر السقوط بسبب العبث البشري بأساساتها وتسرب وتسرب نسبة عالية جدا من الرطوبة إلى المبني كاملا، مما تسبب في حدوث هبوط بالقسم الشمالي منها وميلان واضح في المنارة، إضافة إلى بعض التخريب غير المقصود من قبل الأهالي الذين يحاولون الاجتهاد بترميمها أو صبغها مما يؤدي إلى فقدان المبنى بعض لمساته الفنية أو زيادة خطر انهيار المبنى، وفي أغلب الظن أن هذا المبنى يمكنه مقاومة الظروف المتردية لمدة لا تزيد عن 3-5 سنوات، وفقا للحسابات الفنية، مالم يخضع إلى الترميم.

* مقتطف من كتاب( تاريخ العاصمة الطاهرية - جُبن) لمؤلفه / نزار خضير العبادي.
تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 25-نوفمبر-2024 الساعة: 03:30 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/24185.htm