الترويض السياسي السلبي للإعلام تخفق بعض القوى السياسية في تقدير آفاق الوظيفة الإعلامية فيغلبها الظن بأن مالم تطُله بأدوات العمل السياسي الديمقراطي قد يصبح متاحاً أمام "مدافعها" الإعلامية التي تروّض أقلامها على القذف الإباحي للآخر، حتى يستحيل ذلك منهجاً لمهنة مختلفة غاياتها الوحيدة سرد التقارير الزائفة، وصناعة إخبارية كاذبة، وجرجرة الرأي العام إلى بيئة وهمية تُشكل طقوسها الانفعالية مخيلات حزبية لا تقوى على مدّ نظراتها إلى أبعد من أنوفها. أن أزمة الوعي السياسي بالوظيفة الإعلامية ما تلبث أن تجعل من الترويض السلبي لوسائل الإعلام وعاءً تستنفد فيه تلك القوى طاقات عملها السياسي إلى الدرجة التي تُقصيها عن ميادين الحراك الوطني، والتفاعل الجماهيري؛ في نفس الوقت الذي تقصي التجربة الديمقراطية عن ممارستها الحقيقية، وتجرف الأقلام الإعلامية بعيداً عن مسئولياتها التنموية؛ وبالتالي فإن الترويض السلبي يكرّس الجمود السياسي، ويضع القوى التي تعتمده في ممارساتها في حال استنفار انفعالي حذر لا يؤمِّن لها أدنى فرص التطور والنمو. وعلى الرغم من جنوح تلك القوى إلى قياس رصيدها الديمقراطي التنافسي على أساس من قوى الصخب الإعلامي الذي تحدثه تقاريرها وادعاءاتها الزائفة في الساحة الوطنية، لكنها لم تدرك أن الأقلام التي روضتها أصبحت هي من يمسك بزمام اللعبة السياسية، وتجر الحزب أو التنظيم إلى أزمات، وإشكاليات مختلفة وبنفس الأسلوب الذي سبق ترويضها على ممارسته مع الآخر، الأمر الذي يعني فقدان الموازين الاعتبارية التي طالما قايست ثقلها السياسي على أساسها. إن من أعظم أخطاء بعض القوى السياسية هي إيلاء المهمة الحزبية لمؤسساتها الإعلامية لتنوب عنها في نزالاتها الديمقراطية، وصراعاتها مع بقية أطراف المنافسة، ليس لمجرد عدم أهلية المؤسسة الإعلامية لهذه المهمة وحسب، بل لأن الوظيفة الإعلامية ستفقد بذلك قيمها المهنية، وآفاقها الأخلاقية التي يُعوَّل عليها تنمية الوعي، وتقويم مظاهر الحياة السياسية،والثقافية، والاقتصادية وغيرها. ذلك صحيح أن من حق القوى السياسية توصيف بعض الوسائل الإعلامية كناطق بلسان كل منها، إلا أن ذلك لا يتعدى كونه مهمة واحدة قيد استدعاء موقف محدد، ولا ينبغي أن تتحول إلى وظيفة إعلامية كاملة، تصهر بنموذجها جميع الوظائف الأخرى؛ لأن مثل ذلك الخطأ سيكون عائقاً كبيراً أمام تسريع عجلة الحياة التنموية الشاملة للمجتمع. فالاصطدام بقوى سياسية تتحرك على أوراق الصحف وتخفي هويتها خلف التصريحات وتُنافس ديمقراطياً بتقارير إخبارية زائفة، وادعاءات باطلة، وتصر على أن ذلك هو الأسلوب الأمثل للعمل السياسي الديمقراطي، فلا شك أن ذلك ضرب من التحدي الخرافي الذي يضع القوى الوطنية المخلصة وجهاً لوجه بمواجهة قوى الانتهازية الحزبية التي لا تمانع من التحالف حتى مع الشيطان من أجل مصالحها النفعية الضيقة، وللحفاظ على مراكز نفوذها، ولامتصاص كل قطره خير من الوطن حتى آخر ما فيه، ولا نظنها ستكتفي، أو تقنع. ولأنها قوى انتهازية نفعية لم تضع في حساباتها أية قيمة للمهنية الإعلامية، ولاعتبارات أن تكون وسائلها الإعلامية وجهاً حضارياً لبلدها وثقافة شعبها، وتراثه الإنساني، ولا حتى احترام أدبياتها السياسية التي تؤسس عليها تنظيمها، وهو الأمر الذي غفلت أن تحمي نفسها من ويلاته، ومن أن تنقلب جهود ترويضها للأقلام الصحافية إلى وابل عليها، فتتفجر فقاقيع أسطورتها الحزبية، وخرافاتها الكهنوتية لتتعرف على حقيقتها صرعى أكاذيبها، وما صنعت أيديها من أسواق إعلامية تتاجر بكل نتن، وفاسد من الرأي وتستمد مجدها من كل سوء تلحقه ببلدها وشعبها. كان حقاً على الجميع أن يدرك مسبقاً أن العمل السياسي لا يمكن أن يجدي نفعاً بأحزاب من ورق ، ترتفع بجرة قلم، وتنهار بجرة قلم، ولن يستدعي شق صفوفها أكثر من إصدار صحيفة ثانية تنطق بلسان نفس الحزب.. فكم يبدو غريباً أن بعض القوى الوطنية حتى اليوم لم تفهم أن التعددية الحزبية هي تعدد مؤسسات عمل سياسي وليست تعدد صحف وحسب!. |