المؤتمرنت- د. حسن حنفي * -
الديـن بين الحـرب والسـلام

كانت قضية الحرب والسلام هي قضية رئيسة في القرن العشرين ومازالت مستمرة بعد أن شهد حربين عالمتين في النصف الأول منه، والحرب الباردة في النصف الثاني منه. وبالرغم من نهاية عصر الاستقطاب والحرب الباردة إلا أنه ظهر استقطاب جديد خاصة بعد حوادث ايلول في واشنطن ونيويورك وما تلاهما من عدوان علي أفغانستان والعراق والشيشان، وتهديد سوريا وإيران وحصار لبنان والسودان. وقد زاد من اشتعالها سيطرة اليمين المحافظ علي الإدارة الأمريكية ودعاة الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، وسيطرة اليمين الإسرائيلي علي الحكم، دعاة إسرائيل الكبري.
لذلك توجهت الجمعيات الدينية المدنية نحو هذه القضية، تدعو للسلام، وتخفف من غلواء الحرب، وتدعو إلي التعايش المشترك بين الشعوب. ترتبط بالمؤسسة الدينية وبالمؤسسة السياسية علي حد سواء. وتتعاون مع الكنيسة والدولة في آن واحد بدلا من الاستقطاب التقليدي في أوروبا بين الدين والدولة والذي امتد لدينا في صورة الاستقطاب الحالي بين السلفية والعلمانية.
ومن أمثال هذه الجمعيات "سانت إيجديو" التي أسسها المثقف الإيطالي "ريكاردي" منذ عدة سنوات والتي أصبحت أكبر جمعية مدنية أهلية في العالم، مركزها إيطاليا. تتعاون مع الفاتيكان والدولة في البلدان الكاثوليكية. وتقوم علي العمل الحر التطوعي لأعضائها وربما علي جزء من تمويلها.
وقد عقدت الجمعية الشهر الماضي اجتماعها السنوي في مدينة ليون بفرنسا مركز الأسقفية الكاثوليكية بحضور الآلاف من الأعضاء والقادة من رجال الدين والعلماء والمفكرين والمثقفين والمسؤولين الحكوميين تحت عنوان "شجاعة إنسانية من أجل السلام". حضرها ممثلون عن كل أديان العالم، رسميون وغير رسميين، بالزي الديني الرسمي لكل دين أو بالملابس المدنية التي تكشف عن إيمان علماني. فالإيمان مازال متجذرا في الوعي الأوروبي علي غير ما يبدو في الظاهر من مادية وإلحاد. وكانت تظاهرة كبري خاصة في الافتتاح وفي النهاية، ومسيرة السلام بالشموع في المسرح الروماني للإعلان عن عالم واحد تعيش فيه كل الشعوب في سلام وتعاون مشترك.
وعقدت ما يقرب من أربع وعشرين مائدة مستديرة علي مدي ثلاثة أيام، صباحا ومساء حول خمسة محاور رئيسة.
الأول، أزمات العالم ومناطق التوتر فيه في القارات الخمس. في أمريكا حوادث سبتمبر في واشنطن ونيويورك ودوافعها الدينية والسياسية، وكيفية الحوار بين الأديان والتفاهم المتبادل بينها. وفي آسيا بعد زلزال تسونامي كيف يمكن السيطرة علي الطبيعة وتفادي مخاطرها وحماية الآلاف من تدمير الطبيعة. ولم يكن إعصار كاترينا وريتا قد هبّا بعد علي جنوب الولايات المتحدة الأمريكية ولا زلزال باكستان والهند قد وقع وحصد عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء. وفي أفريقيا عشرات الملايين من الأفارقة مصابون بالإيدز. وآخرون حصدتهم الحروب الأهلية والنزاعات الحدودية.

وتعود ذاكرة الغرب إلي محرقة اليهود بعد أن انقضي ستون عاما علي أوشفتز من أجل عقد حوار جديد بين المسيحيين واليهود. ولا تذكر المحارق الأخري في فلسطين وجنوب أفريقيا ورواندا، ومذابح الفرنسيين في الجزائر، والأمريكيين في العراق وأفغانستان، والروس في الشيشان، والإسرائيليين في فلسطين. وما أكثر المحارق والاستئصال العرقي في العالم. وفي اليابان انقضي ستون عاما أيضا علي هيروشيما التي قضت فيها أمريكا علي مدينة بأكملها ثم أشفعتها بناكازاكي. وفي أوروبا ما مستقبلها ومسؤوليتها عما حدث من مآس في العالم إبان الحقبة الاستعمارية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟
وهل تستطيع أن تصمد أمام الولايات المتحدة واستقطابها لها وأن تكون ميزان الثقل في العالم بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب؟ وماذا عن أطفال العالم الذين يموتون جوعا وقحطا وتصحرا؟ وماذا عن اقتصاد العالم في عصر العولمة وإمكانية التضامن بين الشعوب من أجل المشاركة المتساوية في ثروات العالم بدلا من أن يستهلك 5 % من سكان العالم 75 % من ثرواته؟
والمحور الثاني، هو الحوار كطريق لحل الأزمات والتوترات في العالم. وهو الحوار بين الكاثوليك والبروتستانت بعد تاريخ طويل من الصراع الدموي والخلاف العقائدي. فما هي متطلبات الوحدة بين المسيحيين وكم ميلا لم تُقطع بعد من أجل الوصول إلي الوحدة بين المسيحيين. والصراع مازال موجودا بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا الشمالية، وبين الكاثوليك والكاثوليك في إقليم الباسك.
وهو الحوار الإسلامي المسيحي اليوم وغدا في مواجهة ما يسمي بحقوق الأقليات في العالم الإسلامي. فالمسيحيون العرب جزء من الأمة العربية. والطوائف جزء من نظام الملة في الإسلام القائم علي المساواة بين الملل في الحقوق والواجبات في إطار الأمة الإسلامية الواحدة التي تتكون من عديد من الطوائف والملل المختلفة. وهو الحوار بين الشرق والغرب، حوار الديانات والثقافات في عصر الإمبراطورية الأمريكية الجديدة التي تزحف نحو الشرق بعد غزو العراق وأفغانستان، وتهديد إيران، وإقامة القواعد العسكرية في قازاخستان من أجل محاصرة الصين، والقضاء علي النهضة في جنوب شرق آسيا.
وهو الحوار بين الشمال والجنوب، بين أوروبا وأفريقيا، بين المستعمِر القديم والمتحرر الحديث. فأوروبا مازالت مسؤولة عن بعض مآسي أفريقيا في التصحر والفقر إثر نهب الثروات المعدنية، والحروب الأهلية والنزاعات العرقية نتيجة الحدود الاستعمارية المصطنعة، وقسمة الشعوب والقبائل بين دول متجاورة لا تعرف مفهوم الحدود السياسية، والقضاء علي إمكانية وجود لغة أفريقية واحدة بدلا من الفرانكفونية أو الأنكلوفونية. فأفريقيا لها كيانها المستقل وليست مجرد امتداد لخاصرة أوروبا الجنوبية عبر البحر الأبيض المتوسط.والمحور الثالث، قيمة الحياة وعقوبة الموت نظرا لحملة جمعيات حقوق الإنسان علي الحكم بالإعدام، ونظرا لمشاكل الأخلاق البيولوجية المعاصرة مثل الموت السريري، والموت الدماغي، وزراعة الأعضاء، والموت الرحيم، وشهادة الإيمان بالقول والفعل خاصة وأن الشاهد والشهيد مشتقان من اللفظ نفسه . فالشهيد يتنازل عن الحياة الدنيوية في سبيل الحصول علي الحياة الأبدية. ولم يتعرض أحد للعمليات الاستشهادية في فلسطين والعراق والشيشان. وهو موضوع خلافي تخشي منه التفرقة بين المجتمعين وليس وحدتهم.
والمحور الرابع، النزعة الإنسانية التي توحّد بين الشعوب. وهي رسالة الأديان جميعا. وهي إنسانية روحية وليست عولمة اقتصادية. تقوم علي حرية الضمير وعلمانية الدولة وثقافة العيش المشترك.
والمحور الخامس، السلام وهو المقصد الأسني من الحوار بين الشعوب. ويتطلب شجاعة أدبية فائقة واعتراف مبدئي بالآخر وتقديس الحياة والتضامن والعيش المشترك.
يهتم المؤتمر برجال الدين والمسؤولين الرسميين وبالشخصيات العامة خاصة بأزيائهم المميزة. ويغيب أصحاب القضية الذين يعانون ويلات الحروب، الفلسطينيون والعراقيون والأفغان والشيشان. وكثيرا ما يغلب علي التحليلات الوعظ الديني أو الخطاب الأخلاقي. وتغيب البرامج العملية التنفيذية لتحقيق السلام عن طريق نزع جذور الحرب وهي العدوان والهيمنة والتسلط من القوي علي الضعيف، ومن الغني علي الفقير.
كانت فرصة للعرب والمسلمين من مصر والمغرب وتونس ولبنان خاصة أن يعرضوا الإسلام المستنير، وأن يحاوروا ديانات العالم وحضاراته. فالإسلام قادر علي الحوار كما هو قادر علي النضال. وهو دعوة إلي السلام بقدر ما هو دعوة إلي الجهاد في حالة العدوان علي الشعوب. فالدفاع عن النفس حق مشروع في طبائع البشر وفي الديانات السماوية وفي الشرائع الوضعية. وكانت اسهامة لتبديد الصور النمطية التي تراكمت في الوعي الأوروبي عن الإسلام وربطه بالعنف والتخلف والتعصب. وهي ظواهر سياسية واجتماعية طارئة. ليت العالم الإسلامي يعرف كيف تنشط جمعياته الأهلية مستقلة عن الحكومات والمؤسسات الدينية الرسمية حتي ينشط الفكر الإسلامي في مواجهة تحديات العصر ويكون طرفا متكافئا مع الجمعيات الأهلية المماثلة في الغرب والشرق.
كانت فرصة للعرب والمسلمين من مصر والمغرب وتونس ولبنان خاصة أن يعرضوا الإسلام المستنير، وأن يحاوروا ديانات العالم وحضاراته. فالإسلام قادر علي الحوار كما هو قادر علي النضال. وهو دعوة إلي السلام بقدر ما هو دعوة إلي الجهاد في حالة العدوان علي الشعوب. فالدفاع عن النفس حق مشروع في طبائع البشر وفي الديانات السماوية وفي الشرائع الوضعية. وكانت اسهامة لتبديد الصور النمطية التي تراكمت في الوعي الأوروبي عن الإسلام وربطه بالعنف والتخلف والتعصب.
..............................
* مفكر مصري

تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 10:40 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/25155.htm