هَـيْبَـــــةُ الــدَّوْلَـــــــة ! علّق أحد المواطنين على مقال كتبته حول "عدالة الحكام" فكتب لي يحدثني كيف أن الدولة كانت لها هيبة أيام الإمام، إذ أن الإمام كل يرسل عسكرياً واحداً فيُحضر له قبيلة بأكملها "وياويل من يخالف أمر مولانا"، وأنه ذات يوم أرسل الإمام عسكرياً لإحضار شخص ما من إحدى قرى خولان، لكنه عندما وصل القرية نسي إسم الشخص المطلوب، فاحضر جميع أهل القرية للإمام..! ورغم أن المتحدث قصد التباهي، إلا أنني تأكدت في الحال أن ثوار سبتمبر كانوا على حق حين بذلوا الأرواح من أجل الخلاص من ذلك العهد.. فلا أحد يستطيع تخيّل حجم الخوف الذي غرسه السيّافون في نفوس اليمنيين، لينصاعوا على تلك الشاكلة لعسكري حافي القدمين ونصف عاري، وليس في سلاحه سوى رصاصتين يستلمهما ( عُهْدَة ) عند الخروج بمهمة. الدولة في مفهوم أجيال سابقة ( مُلكٌ لا يُنازع) و( سُلطان لا يضاهية حق) ولهذا نجد في موروث المثل الشعبي اليمني أمثالا تقول: ( دجاجة الدولة فَرَس) و ( لا تأمَن الدولة ولو كانت رَماد) و ( يوم الدولة بسَنَة) و( إذا غريمك القاضي مَنْ تِشارع) و( حُكم أعوج ولا شريعة قاديَة) .. الخ ورغم ان القاضي عبد الرحمن الأرياني ترجم أول منطلقات مفاهيم الدولة العصرية من خلال وضعه دستورا للجمهورية الوليدة، إلا أن الرئيس إبراهيم الحمدي حمل أيضا مشروعا تحديثيا بذلك الاتجاه لولا أن المؤامرة أبت إلا أن تقطع كل سبيل للتقدم على اليمنيين. صحيح أن الثورة اليمنية قامت عام 1962م لكن الدولة اليمنية بمعناها العلمي السياسي بدأت تتشكل، وتكتسب ملامحها الحقيقية بدخول اليمن عقد الثمانينات، إذ لم تعد الدولة "سلطان مطلق" للحاكم وخاصته، بل باتت تتجه نحو معاني الشراكة التفاعلية بين الحاكم، وأجهزته، والشعب بمختلف فئاته وشرائحه. هيبة الدولة في العهد الجديد أُنيطت بمؤسسات دستورية، وقوانين، ونظم لا يمليها الرئيس علي عبد الله صالح بقدر ما يقرها الشعب، ويتعاقد بها مع السلطة ليصبح الخروج عنها فعلا محرما، وانتهاكا لسيادة اليمن، وهيبتها. إن لمن الغرابة بمكان أن نجد في زمننا الحاضر من يفسر علاقة الفرد بالدولة بمنأى عن المناطق، فيتجاهل أن الدولة ليست رئيس وحسب، بقدر ما هي مجموعة مؤسسات مختلفة يديرها أبناء الشعب، ويوجهونها وفقا لإرادتهم الحرة، فيما يتولى الرئيس مهاماً محدد في الأنظمة الدستورية. ليس من المنطق بشيء أن يُطالب الفرد بقضاء عادل، ثم ينقلب على القضاء حين يجد نفسه مُدانا أمامه بخطأ ارتكبه .. وليس من المنطق تحميل الدولة المسئولية الكاملة عن الفساد في بعض دوائرها، ونتجاهل حقيقة أننا نحن الموظفون في تلك الدوائر، ونحن من نهب الرشاوى، ونغري آخرين بعطايانا ليخترقوا النظام، وينحازوا إلى صفنا على حساب غيرنا.. تعودنا في مجالسنا اليومية على الشكوى من الفساد أو الوساطة، فهذا يتحدث عن مؤسسة صحية، وآخر عن جهة تربوية، وثالث عن دائرة تجارية، ورابع عن منشأة خدمية، وهكذا حتى نأتي على البلد لآخره، ثم نجمع في النهاية أن الدولة هي العلة- كما لو أننا نريد القول أن من يعملون في كل هذه القطاعات هم ليسوا من أبناء الشعب، بل هم شيء أسمه (دولة)! فالبعض يجادل في هذا ، ويقترح أن الدولة ينقصها عسكري الإمام أحمد الذي بمقدوره ربط قبيلة بأكملها، وسحبها من البيضاء حتى "قصر البشائر". ألا يعتقد هذا النفر من دعاة ( الهَيْبَة الحُكوميَّة) أن في مثل ذلك السلوك إهانة لكرامة وإنسانية الفرد!؟ وما جدوى المؤسسات الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، والقضاء، ودوائر التشريع، والصحافة الحرة، وغيرها إذا كنا سندعو إلى غيرها من الوسائل!؟ أعتقد أننا نحمِّل الدولة مسئولية كل شيء ليس لقناعة في أنفسنا بأنها المسئولة بالكامل فعلا، بل هروبا من مسئولياتنا كمواطنين، وكمجتمع، وكشركاء في صنع القرار السياسي.. هناك من يتعاطى مع الأمور معصوب العينين، ويتحدث عن إصلاح الدولة، حتى إذا نصحته بإصلاح ذاته أولا رأى فيك شخصا منافقا، واتهمك بأنك مدفوع عليه من جهة ما، لأنه لا يريد تكليف نفسه عناء المكاشفة مع الذات. لابد أن نراجع حساباتنا لندرك أننا أفرادا ومؤسسات نمثل الدولة - كلا من موقعه- وأن هيبتها تأتي من مدى احترامنا لقوانينها، ونظمها الدستورية، ومن قدرتنا على الإخلاص في تنمية مقدراتها، والارتقاء بشعبنا إلى ما يتطلع أليه.. وإلا فإن مَنْ يؤسس تصوراته للمستقبل على اعتقاد بأن دولة المَلك الذي يستمد سُلطانة من الله تعالى مازالت قائمة فهو- بلا شك- يسعى وراء سراب، وسيجد نفسه يوما وحيدا يعايش كوابيسه المخيفة. [email protected] |