فؤاد مطر/الشرق الاةسط -
قمة الخرطوم العربية: وهل من «نعمات» كثيرة.. بعد «اللاءات» الثلاثة..؟
يوم استضافت الخرطوم من 29 اغسطس (آب) الى اول سبتمبر (ايلول) 1967 القمة الاستثنائية وكانت السادسة في تاريخ القمم العربية، منذ الاولى التي استضافها الملك فاروق في انشاص يومي 28 و29 مايو (ايار) 1967، لم يكن يتصور الانسان العربي ان هذا التجمع الذي يضم ملوك الأمة ورؤساءها سيخرج من المؤتمر وقد احدث صدمة ايجابية رداً على الصدمة السلبية المتمثلة بهزيمة 5 يونيو (حزيران)1967. وكانت الصدمة الايجابية مزدوجة: إصرار على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاثة: لا صلح. لا اعتراف. لا تفاوض. وسخاء نفطي تقاسمت مبالغه ثلاث دول نفطية بغرض ازالة آثار العدوان من خلال الدعم العسكري لمصر وسورية والاردن، فكانت حصة المملكة العربية السعودية خمسين مليون جنيه استرليني والكويت 55 مليوناً والمملكة الليبية 30 مليوناً.
ابرز معالم تلك القمة ذات الدعم الاسترليني الذي كان زمنذاك متفوقاً على الدولار الاميركي ان الحنكة السودانية تمثلت في ثنائي لم يتكرر على مدى 39سنة، يملك طرفاه من بُعد النظر ورقة التخاطب والنأي عن توظيف الخلاف والصراع ما جعل اكثر حالات الخصومة العربية تصبح بين مطار الخرطوم وداخل «فندق السودان» على ضفاف ملتقى النيلين الابيض والأزرق، حالة من الود وإلى درجة ان بيت الشعر القائل ما معناه انه بعدما احترب الطرفان وسالت دماؤهما اقتحمت القُربى الساحة وفاضت الدموع التي كانت عبارة عن مزيج من الفرح بعودة الوفاق والحزن على زمن حفلت سنواته بأبغض الكلام وأشرس التحديات واسوأ المشاكسات.

وحالة الخصومة التي نشير اليها هي الخصومة الناصرية ـ السعودية من اجل اليمن وحوله. وسيبقى تاريخ العقود الخمسة من التاريخ العربي الحديث يذكر بالخير ذلك المليون الجلبابي ونعني به ابناء السودان الذين تقاطروا بعفوية الى الشارع الممتد بين مطار الخرطوم و«فندق السودان»، واصطفوا على الجانبين بكل احترام وهدوء مرتدين جلابيبهم وعمائمهم البيضاء لكي يقولوا ما معناه نحن مع مصر والسعودية المتفاهمتين والمتعاونتين. ولقد قرأ الزعيمان الكبيران رسالة هؤلاء ولم يعرفا إلاَّ بعد حين ان الازهرية ـ المحجوبية هي من ابتكر صيغة في منتهى البساطة لتوجيه رسالة ود الى الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس جمال عبد الناصر، مضمونها ان العاصمة المثلثة ليست مجرد مكان لذلك اللقاء لأنها غير مؤهلة لاستضافة مثل هذا الجمع على مستوى القمة، حيث لا قصور ضيافة ولا فنادق اكثر من ثلاث نجوم، ولكنها صدر مفتوح لكي يحل الوفاق المصري ـ السعودي محل الخلاف الذي استحكمت جولاته متسببة بأرق وطني لكل عربي من المحيط الى الخليج. وكانت الصيغة التي إبتكرها الرئيس اسماعيل الازهري والرئيس محمد احمد محجوب رحمهما الله هي ان يكون موعد وصول كل من الملك فيصل والرئيس عبد الناصر متقارباً جداً ثم ينطلق موكبهما في سيارتين واحدة تقل الملك والازهري والثانية تقل عبد الناصر ومحمد احمد محجوب. وعندما سارت السيارتان بين ضفتي الكتلة البشرية السودانية الهائلة ولاحظ الاثنان كيف ان الشعب السوداني يكاد يذوب من فرحة اللقاء وليس فقط من شدة الحر، فإنهما اعتبرا ان عليهما رد التحية بمثلها او بأحسن منها. وهنا جاءت براعة محجوب في حُسن التخاطب يقول للاثنين وراء الكواليس ثم امام الجمع الذي انتعشت حيوية اقطابه وبلغة سياسية راقية تتضمن بيت شعر من هنا وحكمة تراثية من جهة اخرى، الكلام الذي يجعل القلوب متآلفة. وهنا بدأت القمة تسلك طريق النجاح.

وفي تلك القمة كان هنالك رفض بالإجماع للهزيمة والاستسلام للإسرائيليين. وكان هنالك تأكيد على وحدة العمل الجماعي وعلى التنسيق وتصفية الشوائب، وعلى التمسك بميثاق التضأمن العربي الذي سبق ان وضعوا تواقيعهم عليه في القمة العربية الثالثة التي استضافها الحسن الثاني في الدار البيضاء من 13 الى 17 سبتمبر (ايلول) 1965. ومنذ تلك القمة بدأ العاهل المغربي يكتسب صفة تميزه عن غيره من القادة العرب ولازمته حتى وفاته، وهي انه خير مضيف للقمم الصعبة. كما انهم اطلقوا وبصيغة الاتفاق الذي لا تحفطات من طرف عليه شعار «عدم الصلح مع اسرائيل وعدم الاعتراف بها وعدم التفاوض معها» وهو الشعار الذي بات يُعرف بـ «اللاءات الثلاثة» وصمد بضع سنوات، ثم جاء الرئيس انور السادات يخلف عبد الناصر الذي توفي وهو يخطط لإزالة آثار العدوان ممتلئاً ثقة بما حظي به في قمة الخرطوم، ثم يصالح ويعترف ويفاوض على خلفية انتصار مبهر للجيش المصري الذي عبر قناة السويس، وامكنه تسجيل ضربات موجعة في الجيش الذي ذاع صيته على انه محصن ضد الهزيمة.

وقررت القمة ايضاً اعادة النظر في خطوة كان تم اعتمادها للمرة الاولى في التاريخ العربي الحديث، وهي استعمال سلاح النفط. ورأى اهل القمة انه ما دام هنالك التزام دفع مبلغ الـ 135 مليون جنيه استرليني سنوياً ومقدماً عن كل ثلاثة اشهر منتصف اكتوبر (تشرين الاول) 1967 وحتى ازالة آثار العدوان، فإن وقف ضخ النفط قد يؤثِّر على هذه الالتزامات، ومن اجل ذلك اتفقوا على عدم الأخذ به.

ما نريد قوله هنا ان المصالحة العربية كحالة لا بد منها للعمل العربي المشترك بدأت من قمة الخرطوم عام 1967. وها نحن بعد تسع وثلاثين سنة نرى الوضع العربي وقد باتت احواله لا تسر الخاطر، كما ان عليه من جهة اخرى مواكبة المستجدات في الوضع الدولي وبحيث انه لم يعد هنالك المجال الرحب من اجل اعتبار الرفض بصيغة «لا» هو الحل. وفي ضوء ذلك فإن العاصمة المثلثة التي استضافت جمعاً عربياً من اهل القمة، لم يبق من بين فرسانه على قيد الحياة احد، امكنه بكل ثقة اتخاذ قرارات جريئة وقول كلمة «لا» بصوت عال وضمن بيان مبثوث، هي نفسها التي ستستضيف جمعاً من جيل آخر من القادة العرب سيؤكدون «نعمات» كثيرة ليس بالضرورة ان تكون بديلاً ونقيضاً لـ «اللاءات» الثلاثة، وإنما هي نوع من التعبير الاضطراري حتى اذا كان على حساب العنفوان القومي والوطني. ومن بين «النعمات» الكثيرة ثلاثة لا بد منها هي: نعم للتوافق ونعم لقبول الممكن ونعم للأمر الواقع الدولي ومن ضمنه الاعتراف باسرائيل... إنما شريطة ان ينال كل صاحب حق بعض حقه ما دام نيل الحقوق لا يتحقق بالتمني وما دامت الدنيا الدولية بالنسبة الى الحقوق العربية تؤخذ غلاباً من جانب المجتمع الدولي الظالم، حتى اذا كانت سجناً في اريحا مأسوراً فيه مَنْ يمكن ان يصبح يوماً ما مثل اسماعيل هنية، الذي دفعت به «حركة حماس» المنتصرة بالارادة الشعبية الى ان يترأس حكومة فلسطين... ولو كره الكارهون.
تمت طباعة الخبر في: السبت, 21-ديسمبر-2024 الساعة: 05:21 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/28855.htm