المؤتمر نت - الكاتبة منى وفيق
منى وفيق -
صنعاء مدينة تسكننا
كيف أكتب عن اليمن ولماذا؟أنّى لي أن أفعل هذا وأنا بعدُ خدرة ، سحر صنعاء تعدّى القات بمراحل ومراحل .. أينه القنصل اليمني بالرباط؟؟ألم يكن أول من حدثني عن سحر صنعاء وعن تحريضها الكبير على الإبداع والحياة ، أعده أنني هذه المرة لن أخطا في لفظ اسمه وساناديه بأبي الرّجال وليس أبي الدجّال..أينه يوقظني من سحر صنعاء ، صنعاء المدينة التي لا تدرك أنك أغرمت بها إلا بعد أن تغادرها!!

هل تعنيني الأمكنة بقدر ماتعنيني الوجوه؟وهل المكان غير سحنات القلوب؟؟ هي ذي ارتسامات وارتسامات عن الأمكنة ، عن الزمان ، عن الشخوص وعن مواقف و ألوان صنعاء فصنعاء مدينة ملونة ، مدينة الفصول والأمكنة والمزاجية بحق!!

مطار صنعاء

شممت رائحة افريقيا و الطائرة تحط رحالها في مطار صنعاء الدولي ، ثمة شمس غير خافية تبثك الأمان والخوف تآنيا هناك ، أحسست أن حرارتها امتدت لقلبي باستئذان مهيب.المطار ليس بكبير لكنه كاف ليتسع لهليكوبتر عسكرية ولأخرى وأخرى وأخرى..الإحساس بكوني لاجئة غير طبيعية لم يفارقني في المطار ،نظرة مفتش الجوازات إليّ نقلت لي إحساسا مرتجفا ، إحساسا يؤكد على أنني ابنة اليمن المرتدة التي عادت ترتمي في أحضانه تائبة ، عاشقة ، مهووسة فقط بفكرة العودة لليمن ، بفكرة ممارسة نوع من الشوفينية ..شوفينية يمنية خضراء كالفيزا اليمنية ، كالقات ، كبويهيمية بؤبؤ الأعين اليمنية !!

باص، فجولة ،فسفر وتاريخ
أول ما وطأت رجلي الأرض اليمنية كدت أنطق " شلاّه يا صنعاء ، شلاّه يا شيخة المدن العربية ، هي ذي المغربية جاءتك ملتمسة دفء حضنك .. هي ذي المغربية تسألك الوساطة بينها وبين قلبها...!

الباص الذي أخذنا من المطار إلى فندق حدة رماد كان صغيرا ، فانتازيّا على نحو جعلني أقارن بينه وبين قوارب الموت التي يركبها المهاجرون المغاربة للهجرة لإسبانيا ، الباص هذا كان كفيلا بأن يجعلني أفهم أنه أيضا قارب آخر لكنه قارب حياة جمعنا بحميمية تشكّلت دمعة مرسومة في عين قلبي اليسرى.

الطريق إلى حدة رماد كان طويلا شيئا ما ، لكنه كان قصيرا ليجعل عينا مغربية تحتضن كل حب صنعاء ، كل ترحابها ، كل جنونها وعبثها أيضا .عبد الرحمان الغيلان ، هذا الشاعر اليمني الدافئ كنظرة الكوالا ظنّني تفاجأت بصنعاء وهمس قائلا : لا تتفاجئي هي مدينة بسيطة فعلا لكنها جميلة"عبد الرحمان لم يعلم أن دهشتي ماكانت لبساطة المدينة بل لكوني أحسست صنعاء كالكنغر الأم وأنا ما كنت غير الطفلة الكنغر التي تنظّظ في جيبها!

الجولة بالباص لم تكن جولة في المدينة ، أبدا لم تكن كذلك..هعي كانت جولة في التاريخ ، أحسست أنني أسافر في التاريخ القديم حاملة حزني وباحثة عن هوية ووجود أنوء بحمله، هل كانت تلك جولة أولى في صنعاء أم تسكعا داخل فيلم إيطالي بخنجر يمني وثوب يمني وقدر يمني أيضا؟!

علّ أكثر مااحتفظت به ذاكرتي البصرية في أولى الجولات في صنعاء هي واجهة منزل نائب رئيس الجمهوية اليمنية ، منزل يشهر البطاقة الحمراء في وجه الشمس بدافع الخوف ولا شكّ!!!

فندق حدة رماد

استغربت اسم الفندق لكنني أحببته ، لا أعرف لماذ ذكّرني بأغاني "الجيبسي كينغ"التي لا أفهمها لكنتي أعرف كم أعشقها ، ثمة رابط ولا شك بين "الجيبسي كينغ" وصنعاء ، بين أغانيهم وبين حدة رماد ، لم أسأل عن معنى الإسم لأن أجمل الأشياء هي تلك التي لا تفهمها ولا تسعى لأن تفهمها أيضا ربّما ...!
في فندق حدة رماد ، كل الوجوه تبتسم لك فتصبح الابتسامة مهنة يمنية بامتياز،ابتسامة جعلتني أغفر لموظف الاستقبال سطوه على بسبوستي المصرية ..!
هناك في حدة رماد كل الغرف لك ، كل فصول اليمن هناك أيضا .. هناك كانت تتعالى ضحكاتنا ، جلساتنا ، نقاشاتنا ، هناك قرأت ثلاثا من قصصي الطويلة ، هناك تناوبنا على الحاسوب الوحيد ..لا أتذكّر أن أحدنا اهتم بإدمانه الإنترنيتي ، فالإدمان أصبح يمنيا أيضا بامتياز!

حرصت على أن آخذ صورا في بهو الفندق لأنني أعرف قصور ذاكرتي البصرية مهما كانت قوية ، ذاكرتي البصرية التي لا غرو تتجاوزها ذاكرة حدة رماد ، فالمكان وفيّ و ممتد في ذاكرة التاريخ البصرية ..و"حدّة رماد" لن يكون موحشا أبدا بعد أن غادرناه لأن ذاكرته البصرية كفيلة بالاستيعاب و التمدد و العيش المستمر بالفلاش باك!

باب اليمن

قنينة بيبسى واحدة من يد يمنية سمراء لست أستبدلها ولا حتى بمليون قنينة من عطر شانيل ، ولباس يمني تقليدي لهو أكثر أناقة من بذلات سموكينغ فرنسية..هذا ما كنت أقوله وأنا أتسكع مع الأصدقاء في باب اليمن في سور صنعاء.
هناك تدرك أن للجمال اليمني عمقا خاصا وخالصا ، ترى بشكل غريب وممتع كيف أن الوجوه اليمنية مرآة للمعمار اليمني ،للثوب اليمني ، للخنجر اليمني ، للبن اليمني ، للعقيق اليمني ، للعسل اليمني أيضا..!

باب اليمن يحتفي بك إنسانيا بشكل كبير ، في أعين تجاره وبين دكاكينه تختبئ روح إنسانية صافية تذكرني بالأرجنتين التي لم أزرها بعد وأحس بانتمائي الكبير لها .. في باب اليمن عصارة روح انسانية ذكرتني بالسوق الداخلي في طنجة ـ بمحمد شكري رحمه الله ..كل ذلك نبهني إلى أنني في صنعاء و إلى أنني لست فيها أيضا!!
صنعاء هي كل المدن العربية ، هي لكل المدن العربية و لكنها ليست إلاّها!!!

أتيليه الفنون بصنعاء

آه مم فعله بي أتيليه الفنون .. أتذكّر كيف أنني بعد زيارتي له استشعرت ارتفاع درجة حرارتي إذ كنت متخمة بكل ذاك الجمال المكثف والحب..آه مم فعلته بي تجارب يمنية شابة و مدهشة..من ذا القادر على أن ينسى لوحات مظهر نزار الصوفية الثرثارة المبهجة و العميقة و الداعية إلى طاولة الجدل والصمت والبكاء ثم البكاء...لا أظنني قادرة بعد على استيعاب جنون الفنانة التشكيلية ريمة قاسم ، هذه الفنانة اليمنية الحديدية بلوحاتها المغرقة في الوشاية الاستيطيقية ، هي البارعة في القول و الفضح بذكاء و هدوء.. وطلال نجار بماذا أعلق على تقنياته التشكيلية الجديدة ومنظاره الماوراء لوني وكذا منقار ريشته الذي يدق اللوحة البيضاء بموهبة كبيرة وثقة أكبر!

في أتيليه الفنون ، تستميلك صنعاء القديمة وصنعاء الجديدة .. في أتيليه صنعاء كل المدن صنعاء وكل الألوان صنعاء!!!
في أتيليه الفنون تمسك الألوان واللوحات والريشة من تلابيب قلبك لتأخذك إلى صنعاء وحدها حيث لا تشعر باليتم أبدا!!

سيارات الأجرة في اليمن

ليس هناك أكثر طرافة من سائقي التاكسيات في اليمن. شخصيات مركبة من اللطف و الثقة والجنون و الإبداع والنزق و العبث... لعلي لن أنسى أبدا أنيس محمد علي ، هذا السائق الذي لا يتكرر أبدا ..أخذنا في جولة كاملة في صنعاء بحثا عن أوتيل الموفمبيك ، بدءا من شركة التاكسيات الخاصة التي يعمل بها ، أول ما ركبنا سيارة الأجرة كان على محمد خضر أن يتأكد أننا لسنا بسيارة شرطة أو أنها ليست بسيارة تابعة للمخابرات اليمنية مثلا فأنيس كان يخبر الشركة أولا بأول بمكان تواجدنا وتحركاتنا، أنيس الذي أخذنا لمطعم مقفل ولم يرض بالأمر الواقع بل تكفل بايقاظ كل سكان الحي ببوق سيارته دون أن يفتح المطعم..أنيس الذي لم يتقبل الأمر ونزل يطرق باب المطعم بقوة لكن دون فائدة..أنيس محمد علي سعيد بمساحة الحرية الممنوحة في اليمن ، الحرية في الحديث عن السياسة والرئيس علي عبد الله صالح. أنيس هذا شخصية كرتونية جميلة بتناقضاته.لتلك الرحلة لصنعاء بل لليمن كلها لا تحلو دون الركوب مع هذا اليمني اللذيذ .. عادل أيضا و محمد وكل سائقي التاكسي في اليمن يستحقون أن يسافر إليهم المرء من أقصى مغرب الأرض ليحظى بركوب سيارتهم في جولة داخل صنعاء و داخل ذواتنا ..!

الموفمبيك

أوتيل الموفمبيك حديث بصنعاء، ربما هو صنعاء الجديدة ذاتها ..موظفون من مختلف الجنسيات ، آسيا وافريقيا و مصر والمغرب واليمن وأوروبا وفرقة موسيقية من ليتوانياأيضا.

في الموفمبيك تجد دعوة للضحك والاستمتاع والجنون .. قد يقيم لك الموظفون هناك مؤتمرا صحافيا مسموح لك التحدث فيه بالانجليزية والعربية والفرنسية ..في الموفمبيك لا تهم اللغة ، أنت لا تلتفت أساسا للغة لأنك تكون مأخوذا ومبهورا

بتواصلك الحميمي مع الناس..يطغى التواصل وتختفي اللغة..
في الموفمبيك تصبح صنعاء مدينة كونية وضوئية وتصبح أنت أشبه بدمية يمنية لا تختلف كثيرا عن الدمية الروسية لكن الدمية اليمنية وحدها تدمع..!

القات :

كل من تذوق القات راجع لصنعاء لا محالة..هذه حكمة ويمنية مني لم يسمع بها اليمنيون قبلا..تذوقت القات لكن لم أخزنه لأنني فاشلة في المضغ باستمرار..مشكلتي أنني كثيرة البلع..أشتاق حقيقة لرؤية الأفواه اليمنية التي تلوك القات حتى تنتفخ خدودها وتعطيها ذاك الشكل الإنساني الأول .أنتظر إشهارا للقات عوض العلكة..سيكون الأمر مثيرا حقا..!
مسج من سبيستيل :

قبل مغادرة صنعاء واليمن يصلك مسج غير مباشر من شركة سبايستيل مكتوب به " حين مغادرتك اليمن ستجد كتيبة حقد نووية في انتظارك تسعى لتفسد عليك رحلتك إلى التاريخ ، إلى اليمن ..، لكن حسبك أن صنعاء تستحق وأنه لا بد من اليمن ومن صنعاء لأنه لابد من حيث لا بد من الجمال ومن الألم..أليس كذلك؟!"

مسج من سبافون :

يصلك مسج آخر من شركة سبافون يقول " لا تعر كثير اهتمام لترهات الغيورين من رحلتك لليمن ، أكمل مسيرتك واهتم بتجربتك وإبداعك واتركهم يقولون ويقولون..وتأكد من عودتك السريعة لصنعاء بعد أشهر!"

مؤلمة أنت:
صنعاء ، مؤلمة أنت وهذا سر جمالك ..أنت فعلا العربية السعيدة .. تسكنينني رغم أنني لن أنجح في أن أسكنك يوما.. أنت مدينة تسكننا دون أن نسكنها!!
صنعاء ، شكرا لك لأنك جميلة ومؤلمة..شكرا لأنك جعلتني أكتبك بالإحساس لا بالمعرفة فأنا امرأة تحس حتى لا تعرف..وتهرب من المعرفة حتى تحس!
عن موقع دروب
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 27-ديسمبر-2024 الساعة: 09:02 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/30219.htm