عرض/طارق الكحلاوي -
المستشرقون
أثار هذا الكتاب ولا يزال الكثير من التقريظ والثناء في عدد من الأوساط الأكاديمية خاصة في الولايات المتحدة.

ورغم أنه يتعلق تحديدا باختصاص تاريخ الرسم وبفنانين غربيين فإنه يتلقى الكثير من التهليل من قبل مؤرخين ومختصين في مجالات أخرى، خاصة من الباحثين في الدراسات الشرق أوسطية وفي التاريخ الإسلامي.

وإذا اختلفت أسباب التهليل بين قارئ وآخر حيث يركز البعض على الجوانب الشكلية مثل حسن توضيب الكتاب والعدد الكبير من الصور الملونة التي حواها، فإن البعض الآخر -خاصة أولئك الذين يولي المؤلف اهتماما خاصا بآرائهم- يروجون للكتاب بوصفه ردا حاسما على الآراء الناقدة للاستشراق وخاصة أفكار الباحث الفلسطيني الأصل الراحل إدوارد سعيد.


ومن هنا يستحوذ الكتاب على اهتمام الكثير من القراء لما يعنيه الجدال حول مسألة الاستشراق من جاذبية خاصة في الولايات المتحدة والغرب في المرحلة الراهنة، خاصة إذا اقترن الترويج بتشجيع من قبل باحثين مشهورين بعدائهم لفكر "نقد الاستشراق" مثل برنارد لويس الذي كتب تعليقا احتفائيا للغاية عند نشر الكتاب ونصح بقراءته بوصفه "يصحح" الكثير من الأفكار حول الظاهرة الاستشراقية.

والمؤلف كريستيان دافيس باحث شاب مستقل تلقى تكوينه في الولايات المتحدة وفرنسا في اختصاص تاريخ الفن، وله علاقة وطيدة بمجال مزادات القطع الفنية، وهو يكتب في عدد من الدوريات المختصة في هذا الشأن.

إدوارد سعيد ورسوم الاستشراق
يطرح دافيس مشروعه النقدي في مقدمة الكتاب، حيث يوضح أنه رغم تعلقه العاطفي بالرسوم الاستشراقية فإنه يهدف من وراء الكتاب إلى مسألة أكبر وهي زعزعة "السلطة المعرفية" التي فرضها إدوارد سعيد بين الأوساط الأكاديمية في علاقة الفن بالدراسات الاستشراقية منذ تأليفه كتابه الشهير "الاستشراق" (1978)، وهو العمل الذي أثر في أجيال كاملة من الباحثين مؤسساً تيار "ما بعد الاستشراق" الذي كان بدوره رافدا أساسيا في تيارات ما بعد الحداثة.

وبمعنى آخر فإن كتاب دافيس ليس مؤلفا في الرسوم الاستشراقية إلا لأنها توفر مدخلا لتقويض الأطروحة "السعيدية" التي تعتبر أن أي عمل استشراقي -سواء كان تاريخيا أو أثريا أو فنيا أو موسيقيا- ليس سوى أداة في مشروع كولونيالي ثم إمبريالي.

وقد تميز كتاب دافيس عن المؤلفات السابقة في نفس الموضوع بالتعرض لأسماء غير مألوفة، فعوضا عن التركيز على الرسامين الفرنسيين الاستشراقيين الأوائل أمثال أنقري ودي لاكروا ولو أنه تعرض لأحدهم أي جون ليون جيروم، فإنه عمل على التعريف في عدد من فصول الكتاب بأعمال من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تآكلها النسيان من إنجاز أسماء غير مألوفة خاصة من أوروبا الشرقية وروسيا.

وفي الحقيقة يقدم الكاتب هنا مساهمة جدية تركز على إحدى نقاط الضعف المعروفة في أطروحات إدوارد سعيد، إذ إن الأخير ولإحداث الانسجام في أطروحة أن الاستشراق خطاب كولونيالي إمبريالي اضطر للدفاع عن فكرة أن الاستشراق حصرا خطاب الأطراف الغربية التي كان يمكن أن تكون إمبريالية أي تحديدا فرنسا وبريطانيا.

وبمعنى آخر همش سعيد استشراق الغرب الذي فشل في أن يكون كولونياليا ثم إمبرياليا، مثل ألمانيا وأقطار أوروبا الشرقية وروسيا جزئيا، فلم يتعرض بالتفصيل وبشكل مركز لتجارب طويلة وثرية في هذا المجال الجغراسياسي للاستشراق.

وهكذا لم يتعرض سعيد وتلامذته للاستشراق من خلال التركيز عليه كموضوع بل من خلال التركيز على موضوع رأوا أنه إطاره الأساس أي الخطاب الكولونيالي، ولذلك يقع الخلط بين الاستشراق الكولونيالي والاستشراق بشكل عام.

"
نقد الاستشراق في مشروع إدوارد سعيد هو في الواقع نقد الاستشراق الكولونيالي فالإمبريالي وليس نقد الاستشراق ككل
"
والنتيجة هي أن "نقد الاستشراق" في مشروع إدوارد سعيد هو في الواقع "نقد الاستشراق الكولونيالي فالإمبريالي" وليس "نقد الاستشراق" ككل.

كما يتعرض دافيس من خلال استعراضه المكثف لأكثر من 300 صورة إلى أهمية "الدوافع الذاتية المحضة" لدى الرسامين الاستشراقيين الذين كانوا حسب رأيه يبحثون عن جمالية مشهدية لا غير، صادف أن وجدوها في المجال العربي الإسلامي.

ويعتمد في إثبات ذلك على لوحات تركز على البساطة البدوية وانفتاح المشهد الطبيعي الصحراوي والانسجام اللوني بين الشخوص البشرية وقوافل الجمال مثل لوحة الفنان الفرنسي ليون بلي "حجاج ذاهبون إلى مكة" (1861).

وفي الواقع فإن هذه النقطة تفتح المجال أمام مأزق آخر في الرؤية ما بعد الاستشراقية تستحق التوقف، إذ إن الخطاب الاستشراقي بالنسبة لإدوارد سعيد اختلق الشرق أو -بشكل أوضح- ألغاه.

وهنا توجد فكرة مسكوت عنها ولكنها مشكلة للغاية في "الخطاب السعيدي" بشكل خاص وفي الخطاب ما بعد الكولونيالي العربي بشكل عام، وهي المصادرة التي تقول إن للغرب نواياه السياسية والإستراتيجية التي تفرض خطابا يشوه "الشرق" أو يخلق دائما شرقا بالمقاييس التي تستجيب للحاجة الغربية يستدعي -ضرورة- مصادرة موازية تقول إن خطاب "الشرق" عن نفسه منسجم، وإن "الشرق" لا يختلق شرقا وهميا ما دامت ليست له نوايا معادية لذاته.

بمعنى آخر من خلال ربط الاختلاق أو التشويه هنا بالخلفية السياسية الإستراتيجية المعادية حصرا يتم الوقوع في مأزق العجز عن تفسير إنتاج "الشرق" خطابا مشوها عن ذاته.

في الواقع يتجنب خطاب ما بعد الاستشراق حقيقة الدوافع الذاتية للوهم وهي دوافع عابرة للثقافات والمجالات الجغراسياسية، فلا يمكن التغافل مثلا عن أن من بين أكثر المظاهر وضوحا لحضور الدوافع الذاتية في الظاهرة الاستشراقية التشكيلية تحديدا، كان الارتباط الوثيق بين الظاهرة الرومانسية الأوروبية (المحلية) وحدة فلسفتها الذاتية من جهة ورواد الرسم الاستشراقي خاصة في المجال الفرنسي خلال القرن التاسع عشر من جهة أخرى.

وهكذا فإن الدوافع الذاتية لإنتاج الوهم بالنسبة للفاعل الغربي ممكنة في الحالتين: في تمثل الذات (الرومانسية) أو في تمثل الآخر (الاستشراق)، وهي الخلفية التي يمكن أن تفسر مشاريع فنية تعرض لها دافيس لرسامين استشراقيين من أقطار كولونيالية (فرنسا) أو غير كولونيالية (تشيكيا مثلا) على حد سواء.

"
ضعف دافيس يأتي من أنه لا ينقد رؤى إدوارد سعيد عبر قراءة مباشرة لكتاباته وإنما على أساس التسليم بنتائج الانتقادات العامة التي وجهها إليه ناقدوه الأساسيون
"
إحياء الاستشراق الكولونيالي
غير أن النقاط أعلاه لا يمكن أن تحجب حدود الكتاب وخلفياته، ومن معضلاته الطابع الهاوي في منهجية الباحث التي تبدو مفاجئة في الوقت الذي يتمتع فيه برواج هام بين الأوساط الأكاديمية، إذ يبدو ترتيب الأمثلة فوضويا وغير متناسق.

فبينما يعتمد في بعض الفصول على وصف تجارب فنانين محددين يعتمد في فصول أخرى على عرض الأعمال الفنية على أساس محاور اعتباطية لا يمكن أن تختزل مدونة الرسوم الاستشراقية مثل "الرجل المسلح" أو "الإيمان"، دون أن يقدم تفسيرات أو تبريرات مفهومة عند الانتقال من هذا المنهج إلى ذاك بين فصول الكتاب.

من جهة أخرى فإن المؤلف يغفل عن ملاحظة الطابع المتصنع والمركب الواضح في كثير من الرسوم الاستشراقية التي يعرضها والتي تبدو في نفس سياق الصور الفوتغرافية المعاصرة التي ساهمت في ترويج وجه تجاري غير أمين وكولونيالي في أحيان كثيرة للمنطقة العربية الإسلامية، بل إنه يصف بعضها بأنها واقعية.

ومن جهة أخرى يقحم دافيس تجارب مختلفة جدا مثل رسوم الفنان التركي عصمان حمدي، التي لا يمكن وضعها ضمن الدائرة المتعارف عليها للرسوم الاستشراقية لأنها أصلا من صنع شرقي.

غير أن ضعف الشخصية المنهجية لدافيس ليست هي أكبر مشاكله حيث إن ضعف شخصيته النظرية من خلال اتكاله المطلق على رؤى نقدية أخرى تبدو مثيرة للقلق وتنزع عنه طابع الأصالة، فهو في الواقع لا ينقد رؤى إدوارد سعيد من خلال قراءة مباشرة لكتاباته وإنما على أساس التسليم بنتائج الانتقادات العامة التي وجهها إليه ناقدوه الأساسيون.

يستشهد دافيس خاصة بكتابات كل من برنارد لويس ومارتن كرامر الذي اختص بالنقد المستمر خاصة في التسعينات للأقسام الأكاديمية الأميركية المختصة في شؤون المنطقة العربية، معتبرا أنها سقطت في الديماغوجية ومعاداة أميركا وإسرائيل محملا كتابات إدوارد سعيد في نقد الاستشراق قسطا هائلا من ذلك.

ويبدو كرامر متحمسا بشكل خاص لكتاب دافيس، إذ علق عليه مرارا معتبرا أنه بمثابة "الكلمة الأخيرة" في موضوع دحض رؤى تيار ما بعد الاستشراق.

ولا يبدو أن صدور هذا الكتاب والحملة التي رافقته من قبل أوساط معينة يمكن أن تكون معزولة عن ظرفية تتميز بالدراسات المتوالية التي تحاول إعادة الاعتبار لمدرسة استشراقية محددة وهي المدرسة الكولونيالية.

"
هناك حاجة ملحة لنقد الخطاب ما بعد الكولونيالي المتكرر وضرورة تفادي تقديس الرؤية ما بعد الاستشراقية التي يحولها البعض إلى منظومة تبريرية تشيطن الخارج بشكل شمولي وتقدس الداخل بشكل شمولي
"
وفي نفس الوقت الذي يلقى فيه كتاب دافيس احتفاء كبيرا في الولايات المتحدة، يلقى كتاب آخر صدر هذا العام في بريطانيا من قبل الروائي والمستشرق روبرت إروين بعنوان "المستشرقون وأعداؤهم" (2006) حظوة مماثلة.

وليس من الصدفة أن نقد إروين مثلما هو الحال مع دافيس متوجه -ولو أنه أحيانا صائب- بشكل كامل نحو إدوارد سعيد بشكل يتجاهل ميراث الاستشراق الكولونيالي، ما يجعله يسقط في التغطية عليه.

ولا يبدو من الصدفة أيضا أن النزعة الإحيائية للاستشراق الكولونيالي مرافقة لظرفية دولية تشهد سياسيا إحياء استعماريا سواء من خلال العمل المسلح أو من خلال سن القوانين كالقانون الفرنسي الممجد للاستعمار الذي يشرع رسميا التاريخ الاستشراقي الكولونيالي بل ويمنحه سلطة الواجب القانوني.

ولكن كل ذلك لا ينبغي أن يحجب نقطة أساسية في النقاش الملتهب والمتصاعد الراهن حول الاستشراق، المتمثلة في انعدام التوازن بين نقد ما هو كولونيالي في الظاهرة الاستشراقية وتمظهراتها المتجددة من جهة، والإقرار بأهمية الإسهامات الاستشراقية العديدة في تمثل وفهم "الشرق" أو بشكل أخص منطقتنا العربية والإسلامية.

ومن زاوية المشهد الثقافي العربي هناك حاجة ملحة لنقد الخطاب ما بعد الكولونيالي المتكرر الذي مر عليه أكثر من خمسين عاما، وضرورة تفادي تقديس الرؤية ما بعد الاستشراقية التي يحولها البعض إلى منظومة تبريرية تشيطن الخارج بشكل شمولي وتقدس الداخل بشكل شمولي، وهو ما يفقدها حسها الفكري والنقدي العالي الذي لولاه لما كان لها الرواج.


المصدر: الجزيرة

تمت طباعة الخبر في: السبت, 30-نوفمبر-2024 الساعة: 11:40 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/32235.htm