نوال الزغبي تثبت انتماءها للفن الاصيل لا يخفى على أحد أن معادلة تجارية بحتة تحكم السوق الغنائي اليوم وكل ادواته الترويجية اعلامياً، سواء كانت المرئية أم المسموعة، هذه المعادلة تعتمد على الكم لا النوع، وعلى الاستهلاك السريع للاغنية، التي لا يكاد عمرها يتجاوز الـ 3 اشهر كحد اقصى، قبل ان تتناقص مدة عرضها او بثها لتصبح جزءا شبه منسي من ارشيف الفنان، لا مكان له بين فضائيات الترويج الغنائي، ولا تشاهدها الا على المحطات الارضية او الحكومية في بعض الدول التي لا تزال تسير على النهج الكلاسيكي في البث. كل هذا كان نتيجة حتمية لتحكم عقليات منحرفة (مع بعض الاستثناءات) بقطاع الانتاج الفني، تجار الفن هؤلاء روجوا لكذبة صدقناها، بأن الجمهور لم يعد "الو جلادة" يسمع أغنية طويلة قد تصل مدتها الى عشر دقائق، أو ربع ساعة، وان الجمهور لا يتقبل الاغنيات الطربية التي أصبحت موضة قديمة، وان الكلمة الجميلة لا يمكن ان تصمد أمام الواوات، والاحات، والبحات، والفرافير، والعتاريس، والدنادن الخ... وراجت موضة الدعم المادي للاغنية، تحت شعار "ادفع نغسل لك دماغ المستمع". ومؤخراً اقدمت فنانة معروفة بنمطها الغنائي الشبابي العصري، بمغامرة ارادت من خلالها ان تختبر مدى تقبل جمهورها للفن الأصيل، فاثبتت للجميع وبشكل قاطع ان كل ما يحاول تجار الفن اقناعنا به، الجمهور بريء منه. فمن كان يتوقع ان تلقى أغنية "حبيبتي من تكون" الصعبة في لحنها، ومفرداتها المكتوبة بالفصحى، كل هذا الصدى الطيب من الجمهور، ومن كان يتوقع ان تضرب هذه الاغنية مثلها مثل اية اغنية حديثة تبث على الراديو واكثر. الجيل الجديد مل الصخب والتفاهة والجيل القديم يحن لأغنيات الزمن الجميل منذ اسبوع تقريباً افيق كل يوم على الاغنية تتردد عبر مذياع الجيران بأعلى صوته، فبنات الجيران مراهقات تتراوح اعمارهن بين 16 وال 19 عاماً، تعودت عليهن منذ ان انتقلت الى منزلي الجديد قبل بضعة اسابيع، ان يرفعن صوت المذياع صباحا وهن ينجزن اعمالهن المنزلية، ولكن ما اثار انتباهي انه كلما مرت الاغنية ترتفع اصواتهن بالغناء معها باندماج كبير، وعندما تنتهي، يبحثن عنها على محطة اخرى. وبفضولي الصحفي سألت إحداهن هل انت من المعجبات بنوال الزغبي؟ قالت لي: مؤخراً جذبتني أغنياتها كثيراً وعلى الأخص "شو أخبارك" و"حبيبتي من تكون". الا ترين ان هذه الاغنيات كلاسيكية ورومانسية وأكبر من عمرك؟ من قال ذلك؟ مللنا من الصخب، والضجيج، والمفردات التافهة. الا تملين من سماع اغنية طويلة تصل مدتها الى عشر دقائق تقريباً؟ تنظر الي بإستغراب وتقول: لا، بل ما ان تنتهي على احدى الاذاعات، ابحث عنها على اذاعة اخرى، ولو وجدتها على "سي دي" سأستمع اليها دون توقف. وامضي في طريقي وقد ذكرتني هذه المحادثة بحوار دار بيني وبين احد العاملين في احدى الاذاعات اللبنانية كنت التقيقته في الفترة التي وزعت خلالها الاغنية على الاذاعات، وبادرني حينها قائلاً " شو صارلها نوال؟" سالته باستغراب" ما الأمر؟ "ما عم تسمعي "حبيبتي من تكون على الاذاعات؟ نعم اسمعها باستمرار. ينظر الي باستغراب ويقول: في حدا ينزل أغنية "قديمة" وكمان طولها "تسع دقايق ونص" وفي فترة المونديال!!!. وما المشكلة في ذلك؟ الاغنية جميلة ولقيت اصداءا رائعة عندما غنتها في احد البرامج التلفزيونية، وطالبها الناس بها لأنهم أحبوها منها!! ثم ما علاقة الموسيقى بالمونديال؟ تسع دقايق ونص كثير على الهوا، وما حدا فاضي يسمع اغاني هالايام الكل ملتهي بالفوتبول! فاجيبه ساخرة: كل ما قلته لا علاقة له باستياءك، اعترف بان سبب استياءك هو طول الاغنية لانها ستاخذ مساحة اغنيتين وانتم تترجمون ذلك ماديا بخسارة؟ قال: هذا صحيح، وبالاضافة لذلك "مين الو جلادة يسمع اغنية طويلة هذه الايام"؟ ياسيدي اعتبروا هذه الاغنية بمثابة تكفير، او ضريبة عن القرف الذي ترغموننا على سماعه ليل نهار، قليل من التوازن لا يضر. يضحك ... واضيف: اراهنك بانها ستنجح، وساتصل بك بعد بضعة ايام لاعرف منك الاصداء. تمر بضعة ايام الاحظ خلالها بانني اينما سرت في وسط بيروت استمع لصوت الاغنية وهو ينبعث من مذياع السيارات العالقة في ازمة السير الخانقة على الطريق. اتصلت بصديقي الاذاعي وسالته هل لا زلت على رايك؟ اجابني ضاحكاً: اعترف بانني اخطات التقدير، وبعض المستمعين اعتقد بانها "سنغل جديد لنوال" ولم يكن يعلم بانها لعبد الحليم حافظ.... حتى ان سيدة متقدمة بالسن قالت لي تعليقاً على الأغنية "وأخيراً نوال فشتلنا خلقنا" *** الإعلام مطالب بالإضاءة على الجهود الإيجابية للإرتقاء بالأغنية العربية اذن مغامرة نوال نجحت واثبتت بشكل قاطع، ان تسع دقايق ونص "مش كثير على الهوا"، وان الجيل الجديد ليس سطحياً ولا تافها، والجيل القديم بشوق لأغنية تخاطبه، والناس بالنهاية تبحث عن الكلمة واللحن الجميل، وسط فيضان التفاهة الفنية الذي تغرقنا به فضائيات التجارة الغنائية. وربما يعلق البعض بان هناك العديد من الفنانين والفنانات الذين اشتهروا بهذه النوعية من الأغنيات كماجدة الرومي، وكاظم الساهر، وجورح وسوف الخ.. لماذا نختار نوال تحديداً لنشيد بها؟ نقول لهم، هؤلاء عرفوا بهذا النمط وهم قلة قليلة تعد على عدد الاصابع، وجمهورهم يقدرهم كل التقدير. ولكن عندما تقدم فنانة جماهيرية (POP Star) أحبها جمهورها بالاغنية الأيقاعية، القصيرة والشعبية والتجارية، على مغامرة من هذا النوع وتنجح فيها ويحبها عامة الناس، هنا تكمن اهمية الاشارة الى هذه المسألة ولعدة اسباب: أولاً: لانها مؤشر ايجابي على مدى تقبل جمهور الشباب للأغنية الشرقية، والتي يمكن ان تكون قصيرة ولكنها تحوي جملا لحنية من الطرب الراقص الذي اشتهرت به السيدة وردة الجزائرية والعندليب الراحل وغيرهم من فناني الزمن الجميل. ثانياً: لأن هؤلاء الفنانين يمكنهم ان يلعبوا دورا هاماً في تشكيل ذائقة الجمهور، بسبب كبر القاعدة الجماهيرية التي يتمتعون بها وتاثيرهم عليها. ثالثاً: لأنه تقع علينا كإعلاميين مسؤولية تشجيع نوال وغيرها من فنانات جيلها على الاقدام على تجارب خاصة اخرى من هذا النوع، تساعد على اعادة التوازن للساحة الفنية، وترتقي بذائقة الجيل الجديد. رابعاً: لأنها فنانة لم تكتف بإنتقاد الفن الهابط الذي بات يسيطر على موسيقى الـ Pop العربية الحديثة، وإنما عمدت الى ترجمة إستيائها مما يحصل بشكل عملي، بنفس الطريقة التي سبق وقاومت الاحتكار بها، ونجحت في كسر قيود شركات الانتاج ودافعت عن حريتها الفنية، وتصرفها هذا حرك في العديد من الفنانين والفنانات ذات الروح، واقدم عدد منهم بعدها على فسخ عقودهم مع شركات الانتاج، ولجؤوا للإنتاج لنفسهم، او لشركات امنت بعدم جدوى الاحتكار. فهي اذن فنانة ذات رؤية وذكاء ونجاح يؤهلانها لتكون قدوة لغيرها، وان تكون محركاً للتغيير من خلال التأثير الذي تتمتع به على جمهورها وعلى غيرها من الفنانين. نوال مطالبة الآن بتقديم أغنيات خاصة بها بذات نكهة "حبيبتي من تكون" في البوماتها المقبلة، بجانب الأغنية "الستايل" الحديثة التي احبها الناس بها، من هنا فقط يمكن ان يتحقق التوازن بين العراقة والحداثة. وفي ذات الوقت فإن الجمهور والنقاد مطالبين جميعاً بدعم جهود مماثلة وتشجيعها والإبتعاد عن الفلسفة والإصطياد في الماء العكر، وتكسير الأجنحة، الذي يحلو "للبعض" ممارسته على اي جهد إيجابي تقوم به هذه الفنانة في مسيرتها الفنية بغرض تحجيمها ""لغايات خاصة واعتبارات مجهولة"". |