المؤتمر نت - نقلا عن رويترز
وسام الصايغ -
معاناة نصف مليون نازح لبناني
(عمو أنا جوعاني) قالتها لي بخجل وبعينين دامعتين بنت السنوات الأربع في أحد مراكز استقبال النازحين. علقت هذه الجملة بذهني ولم تفارقني على الرغم من الكثير من الحالات الإنسانية الصعبة التي نواجهها أثناء التجول في المناطق اللبنانية وفي مراكز استقبال النازحين.
ركضت الطفلة وشقيقتها التوأم نحوي فور دخولي المركز في قرية جبلية تبعد اكثر من عشرين كيلومترا عن بيروت. سألاني من امثل من وسائل الإعلام، وبدا واضحا أن الإعلاميين يزورون هذه المراكز اكثر من هيئات الإغاثة.
العمل فردي وهيئات المجالس البلدية في القرى والأهالي هم الذين يهتمون بالنازحين الذي تجاوز عددهم النصف مليون من مختلف البدات الجنوبية والضاحية الجنوبية لبيروت.

صيدا: افتقار لحاجيات الأطفال والأدوية
جولة بدأت من الجنوب اللبناني وتحديدا مدينة صيدا التي استقبلت لغاية الآن اكثر من ثلاثين ألف نازح توزعوا على المدينة وشرق صيدا.
وقال رئيس بلدية صيدا عبد الرحمن البزري انهم أنشئوا غرفة عمليات مشتركة مع هيئات المجتمع المدني كافة وجمعيات الكشاف في المنطقة. وأشار إلى أن بين النازحين 7% مسنون و30% أطفال و6% يعانون من أمراض مزمنة و2% حوامل إضافة إلى 0.5% ممن يعانون من إعاقات مختلفة.
وأكد البزري إن الدولة شبه غائبة عن تقديم المساعدات مشيرا إلى نقص كبير في حليب الأطفال واحتياجاتهم إضافة إلى المواد الطبية والغذائية.وتحدث عن صعوبة في التنقل وفي وصول المساعدات بسبب انقطاع الطرقات نتيجة القصف الإسرائيلي الذي استهدف الجسور ومداخل الجنوب.
النازحون متجمعون في المراكز تستقبلهم غرفة العمليات المشتركة وتوزع عليهم ما توفر من مؤن وأدوية وفرش للنوم.
قالت لي أم أحمد أنها تركت وراءها زوجها وأخيها تحت القصف لانهم رفضوا المغادرة.
أما فاطمة فقالت أنها لم تستطع إن تحمل معها أي من حاجاتها بل اكتفت بعدد من أرغفة الخبز، فهي كانت تخبز في ملجأ منزلها حين اشتد القصف.
التقيت برجل من الجنوب يبدو في الستين من العمر، ورفض ذكر اسمه. سمعته يتغنى بإشعار جنوبية وهو يدخن النرجيلة حيث تجمع حوله عدد من الشبان.
تحدثت مع عدد منهم فحيوا المقاومة وأكدوا انهم صامدون. واقترب مني رجل أربعيني طلب أن لا اذكر اسمه وقال "حملت أشلاء أطفال من عائلتي وقدمتهم هدية لكوفي انان الذي يدافع عن إسرائيل وحربها على لبنان" وأضاف أن " لا سبيل أمام الجنوبيين سوى الالتفاف حول المقاومة واكمال مسيرة التحرير".
وفي كل مأساة جانب من الطرافة، خمس أطفال ولدوا تحت الحصار في الملاجأ،واكثر من سبعين امرأة على وشك الولادة. أطلق على المولود الأول اسم "رعد" تيمنا بالصواريخ التي يطلقها حزب الله.
غادرنا صيدا متجهين نحو جزين للعودة إلى بيروت وهي الطريق الوحيدة التي لا تزال سالكة. الطريق خالية إلا من بعض السيارات التي ترفع الأعلام البيضاء خوفا من أستهدفها. بعض الأطفال ولبراءتهم يرفعون المحارم الصغيرة البيضاء.
رائحة التبغ الجنوبي واشجار الحمضيات المنتشرة في البساتين استبدلت برائحة البارود والحرائق.
جزين المدينة المسيحية استقبلت اكثر من أربعة آلاف وخمسمائة نازح وهم بغالبيتهم من شيعة الجنوب. فعلى الرغم من الاختلافات السياسية في لبنان، يتوحد الجميع لمواجهة المصائب.

بيصور: الضيوف باتوا أهل البيت
بعيدا عن الجنوب وفي بيصور القرية الجبلية التي تبعد نحو ثمانية عشر كيلومترا عن بيروت استقبل الأهالي اكثر من مئتين وسبعين عائلة. استقبلوهم في البيوت وهم يرفضون إطلاق عليهم اسم نازحين أو مهجرين بل يؤكد مواطن من القرية ركض نحوي عندما رأني استطلع آراء الناس وقال " انهم ضيوفنا،ينزلون في بيوتنا ونأكل وإياهم سوية وما يطالهم يطالنا". ولم يستطع هذا الرجل الخمسيني من تمالك دموعه وهو يقول " أطفالنا ليسوا اكثر قيمة من أطفالهم،نحن وإياهم سوية لمواجهة كل عدوان".
ولإحدى العائلات النازحة قصة مختلفة، طلب مني رب العائلة أن لا اذكر اسمه لان أفراد العائلة الآخرين لم يعرفوا بالمأساة بعد. وقال انه كان يطمئن إلي من بقي من أفراد العائلة عبر الهاتف ولكن بعد استهداف عدد من منازل المدنيين في بلدته اتصل ولم يلق جواب. وعرف بعد ساعات أن ثمانية من أفراد عائلته قضوا في القصف وجثثهم لا تزال تحت الأنقاض،وهم جزء من ثلاثين شخصا لاقوا المصير نفسه في إحدى قرى الجنوب.
يبتسم ويقول :" ماذا افعل انه ثمن الحرية وأنا اقدر ثمن كرامتنا اكثر من ثمانية شهداء أو عشرة أو مئة، علينا الصمود والمواجهة لتحرير أرضنا واسرانا".
ونحن نتحدث اقتربت ابنته الصغيرة سألتها إذا كانت تشعر بالخوف، نظرت إلى و ابتسمت، ظننت انها لا تدري ما يجري من حولها، ولكنها فجأة بدأت ببكاء شديد ثم تحول البكاء إلي ضحك؟. إنها طفلة ولكنها نظرت إلى وقالت:" أحيانا أخاف فأمضي الوقت باللعب مع أصدقائي الجدد هنا،ولكنني مشتاقة إلي منزلي ومدرستي واكثر من كل ذلك انا مشتاقة للعودة إلي قريتي".
ولكنها فاجأتني عندما تحول حديثها إلي كثير من الجدية وهي بنت السنوات التسع وقالت لي " لا حل غير بوقف إطلاق النار والتفاوض غير المباشر". إنها ليست كلماتها بل كلمات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. الغريب أن الأطفال يرددون هذه العبارات.
في مناطق الشمال تكررت الصورة واضطر الأهالي بعد امتلاء المدارس لتأمين غرف الفنادق مجانا للنازحين.
غير أن المؤسف أن البعض يستغل هذا الوضع الإنساني الصعب عبر احتكار البضائع ورفع سعر المواد الغذائية والطبية. حتى أن البعض يقول للنازحين "أفسدتم الموسم السياحي وعليكم دفع الثمن" غير أن هذه حالات قليلة موجودة في مناطق محدودة.
وما يزيد المأساة ضراوة استهداف شاحنات نقل المساعدات والمواد الغذائية. حتى ان موكب سيارات الإسعاف المقدمة كهبة للبنان استهدف بقصف الطيران أثناء توجهه إلى بيروت على الطريق الدولية بين لبنان وسوريا.
أنهيت جولتي وعدت إلى الطفلة الجائعة سألت عنها، كانت نائمة. سألت والدتها "هل أكلت؟" فردت بالإيجاب. غادرت حائرا لا اعرف ماذا افعل عند مواجهة مثل هذه الحالات الإنسانية وهل مساعدتهم تعتبر خرقا للموضوعية التي نتوخاها في عملنا. الجواب في نقل ما شاهدت بأمانة من دون أي تدخل أو تحريف.
بي بي سي
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 27-ديسمبر-2024 الساعة: 04:11 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/33051.htm