ابراهيم حاج عبدي -
دموع دولة الرئيس
تقول العبارة العربية «عجز عن التعبير عما يجول في نفسه» عندما يكون الحدث أكبر من الكلمات، وأرحب من الجمل، فيتعذر على اللغة أن تترجم المشاعر الجيّاشة. هكذا كانت حال رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة وهو يلقي كلمته في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي عقد في بيروت. فكلام الرئيس، على رغم مفرداته الدقيقة وعباراته الموحية، لم يصل إلى قوة لحظة الصمت التي تخللت الكلمات. لحظة صمت تلتها دموع صادقة.

صورة رئيس الحكومة اللبنانية وهو يغالب دموعه اختزلت المأساة اللبنانية في شكل لا يمكن للخطابات أو الشعارات أن تنقله بصدق. فهذه قد تثير الحنق والحقد والكراهية تجاه العدو، لكنها عاجزة عن رسم خريطة للألم. وحدها الدموع النابعة من شغاف قلب محترق قادرة على صوغ رسالة، سمعها جيداً وزراء الخارجية العرب: لبنان يحترق، فماذا فعلتم؟

الرئيس السنيورة بملامحه الحزينة، وقسمات وجهه المتعب، وبريق الدمع الذي ترقرق في عينيه، ما اضطره إلى خلع نظارتيه كي يمسح الدمع، استطاع أن يجسد حجم المعاناة، وأن يوضح المحنة الكبيرة لبلاده، فهو إذ عجز عن نقل التراجيديا التي تعصف بشعب لبنان إلى غرفة الاجتماعات المرفهة والمكيّفة، أسعفته الدموع التي كانت أكثر وقعاً وتأثيراً في النفوس، فأنّى للكلمات في مثل هذه المناسبات، ومهما بلغت من السبك والمهارة وسحر البيان، أن تترجم صرخات الثكالى، وأنين الجرحى، ولوعة الفقدان؟

للمرة الأولى، ربما، تدمع عينا رئيس حكومة عربية بكل هذه الصراحة والنبل بينما يشاهده الملايين عبر الفضائيات. يبكي بلا حرج، غير خائف من اهتزاز صورته أمام الرأي العام اللبناني والعربي، بل غير آبه بما سيقوله عنه نظراؤه في العالم. الاجتماعات العربية عوّدتنا الابتسامات والمصافحات الودية حيناً، وكيل الشتائم أحياناً، وإطلاق الشعارات في أحايين أخرى، لكن رئيس الوزراء اللبناني قلب المعادلة وأظهر أن ثمة وجهاً آخر غائباً في الحياة السياسية العربية، يتمثل في الدموع الصادقة حين يكون الوضع أقوى من الاحتمال، عصياً على الحل كما يبدو.

عندما بكى دولة الرئيس لم يصدر أمر بوقف البث المباشر، كما توقع المشاهدون، فما كان من الوزراء إلا أن بدأوا بالتصفيق، كدأبهم، حتى يستعيد السنيورة أنفاسه ويستأنف الكلام. ولعل المخرج المكلف نقل وقائع الجلسة، أدرك سريعاً أن هذا البكاء لا «يفضح» عواطف صاحبه ويخدش ديبلوماسيته طالما أن أشلاء الأطفال مرمية على الطرق، وصور الموت اليومي تملأ الشاشات، ولعله سأل أيهما أكثر إيلاماً: الموت أم البكاء على الموتى؟

يقيناً أن الرئيس السنيورة لم يكن يعلم أن الدموع ستغالبه، ولم يهدف، تالياً، إلى استدرار العطف والشفقة على شعبه، لكن البكاء كشف جرحاً عميقاً، ووجعاً مقيماً في الذاكرة والوجدان. وها هي الذاكرة الجماعية اللبنانية تستيقظ مجدداً على صور كادت أن تبهت قليلاً، فأحيتها «الحرب السادسة»، الحرب التي لا تبارح، منذ عقود، ضفاف «ست الدنيا»!

*الحياة
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 01-نوفمبر-2024 الساعة: 07:23 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/33647.htm