المؤتمر نت -
المؤتمرنت- نضير الخزرجي* -
(مواقيت الصلاة) يجيب على سؤال ظل حائرا منذ فتح أوروبا
إذا كان العقل لا يتخلف عن الشرع ولا الشرع عن العقل، وما حكم به العقل حكم به الشرع والعكس صحيح، فان حقائق الدين الحنيف لا تتخلف عن حقائق العلم ولا تتخلف حقائق العلم عن حقائق الدين الحنيف، وما قال به العلم قال به الإسلام، والعكس صحيح، وهذه الملازمة حقيقة مغروسة في أرض الواقع، لان حقائق العلم لا تصدر إلا عن يد خبيرة كما إن حقائق الدين صادرة عن وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك فلا تعارض بين العلم والدين الحنيف ولا بين الدين الحنيف والعلم لأنهما يصدران عن منشأ واحد، وما يصدر عن منشأ واحد لا يعتريه الخطأ والتناقض، لان الحكيم لا ينقض غرضه.
ومصداق هذا التوحد المعرفي بين الدين والعلم، يلاحظ في بيان حقيقة العبادات التي يؤديها المؤمن من صلاة وصوم على مدار الساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة، فهي خاضعة لحركة الأجرام السماوية في سياق الحركة المتناغمة للأرض والقمر والشمس في إطار الحركة العامة للمنظومة الشمسية، فالحركة المتناغمة للأجرام الثلاثة تشبه تماما عجلات مكوك ساعة (بيغ بين) (Big bin) تتحرك في دوران منسجم بين عجلات مكوك الساعة والدقيقة والثانية لتنج محصلة حركة العجلات الثلاث الوقت والزمن الذي يحسب به الانسان ساعات يومه.
وكان من نعم الله على البشر أن انتظمت حركة الأجرام السماوية، ليضبط بها الانسان ساعات عبادته، لأنها ترى بالعين المجردة، ويلمس تحولاتها على مدار الساعة، ابن المدينة وابن القرية، ابن الحضر وابن البادية، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، فهي ظاهرة بينة لا تحتاج الى معادلات علمية ورسوم توضيحية وتجارب عملية، ظاهرة للعيان، قريبة من الأذهان، سهلة التبيان، بعيدة عن الزيغان.
بيد أن ساعات العبادة بين بلد وآخر، وبخاصة في الصلوات اليومية الخمس تختلف باختلاف المدار والأفق، لكن الثابت أن البقعة الجغرافية التي عاش فيها المسلمون وهي دون خط العرض 48، يتحقق فيها الفجر الصادق عندما تواجه أعلى نقطة من كرة الشمس لأفق البلد على شكل خط مستقيم وذلك حينما يكون مقياس زاويته 18 درجة، فبإنكسار ضوء الشمس يظهر الفجر الصادق وحينما يكون في خط الأفق بزاوية 12 درجة يبدأ الضوء بالانتشار، وعندما يكون في خط الأفق بزاوية 9 درجة تظهر الحمرة المشرقية، وعند درجة الصفر يبدأ قرص الشمس بالظهور، فالفاصلة بين درجتي 18 وصفر، هي الفاصلة الزمنية بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وهذا يتحقق بشكل منتظم في البلدان الواقعة تحت خط العرض 48 درجة.
وهذا النظام الذي اخذ به المسلمون لتوقيت عباداتهم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا واجمع عليه الفلكيون القدامى، أكدته المراصد العلمية الحديثة، فعلى سبيل المثال ذكر مجلس الدراسات العلمية في بريطانيا (Science Research Council) في تقرير رقم (7) أن خط عرض 18 درجة هو نهاية الليل وبدء النهار، ويشير مرصد غرينتش (Greenwich) أن الفجر الحقيقي يتحقق عند الزاوية بدرجة 18، كما أن المركز الياباني نيسوتا (Nesota) ذكر بان الفجر الحقيقي يتحقق عندما يكون موقع الشمس من أفق البلدة على زاوية بدرجة 18 وان ازدياد النور يتم عند زاوية بدرجة 12 وان الشروق يتم بدرجة الصفر. وهذه الحقيقة الفلكية هي ما ذهب اليها علماء المسلمين، فعلى سبيل المثال يقول السيد محمد حسين الطباطبائي (1321-1402هـ) في تفسير الميزان (2/48) في بيان قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) البقرة: 187، إن: "الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل ويسمى بذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الأفق الشرقي، إذا بلغت فاصلة الشمس من دائرة الأفق الى ثماني عشرة درجة تحت الأفق يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الأفق كالخيط الأبيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني، ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس"، وما يقول به الطباطبائي إنما يصدر عن السنّة الشريفة، يقول النبي الأكرم محمد (ص) في بيان الفجر، فيما ينقله الشيخ محمد جواد مغنية (1904-1979م) في تفسير الكاشف (1/288)، إن: (الفجر فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان، فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، وأما المستطيل الذي يأخذ في الأفق _ أي ينتشر فيه_ فانه يحل الصلاة ويحرم الطعام). وعن الامام جعفر بن محمد الصادق (83-148 هـ)، عندما سأله السائل: متى أصلي ركعتي الفجر؟ قال: (حين يعترض الفجر، وهو الذي تُسمِّيه العرب الصَّدِيْع)، والصديع في اللغة هو الصبح أو الفجر، وعنه (ع) عندما سئل عن معالم الفجر الصادق، قال: (هو الخيط الأبيض المعترض ليس هو الأبيض صعداء).
ولكن ماذا عن الدول التي تعيش في شمال الكرة الأرضية وجنوبها، أي التي تقع بين خط عرض 48 و66؟
هنا وقع الاختلاف في تحديد زمن تحقق الفجر الصادق المؤدي الى الإمساك عند الصوم والدخول في وقت صلاة الصبح، فعلى سبيل المثال يصعب تحقق الفجر الصادق في مدينة لندن الواقعة على خط العرض (30/51) في الفترة، بين 24 أيار مايو و21 تموز يوليو، إذ ينتشر الضوء في السماء ولا يتحقق الظلام الدامس حتى يتحقق بعده الفجر الصادق بارتفاع ضوء الشمس، ولهذا كان المسلمون في لندن وقبل عقدين من الزمن يتعاملون مع تسعة تقاويم للصلاة تختلف الواحدة عن الأخرى في تحديد موعد الإمساك وصلاة الفجر، واقتصرت الى بضعة تقاويم بعد جهود مضنية قام بها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي مؤلف موسوعة دائرة المعارف الحسينية التي تفوق مجلداتها الستمائة مجلد، ثم عرض ما توصل اليه على ممثل آية الله العظمى السيد الخوئي، آية الله الدكتور السيد فاضل الميلاني، عميد كلية الشريعة بلندن والمسؤول حينها على إدارة مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية، والمهندس الدكتور محمد علي الشهرستاني رئيس مجلس الأمناء في الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية، ونجله المهندس الدكتور إحسان الشهرستاني.
هذه الجهود والاجتماعات التي أعقبت جملة من المراسلات جرت بين الشيخ الكرباسي وعدد من مراجع التقليد الشيعة ومراكز الإفتاء السنة، انتهت الى اعتماد تقويم موحد يأخذ بدرجة 18 لتحديد الفجر الصادق على مدار عشرة اشهر، والأخذ بدرجة 12 لما تبقى من شهر أيار مايو وكل شهر حزيران يونيو ومعظم شهر تموز يوليو، وهذا التقويم لازال يعمل به في لندن وعموم المملكة المتحدة في الكثير من المؤسسات والمراكز والمساجد والحسينيات.
وهذه الحقيقة الفلكية التي انتبه اليها علماء المسلمين بعد أن امتدت هجرة المسلمين الى شمال الكرة الأرضية وجنوبها، أماط عنها اللثام، الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي في الكتيب الذي صدر حديثا عن بيت العلم للنابهين في بيروت، في 52 صحيفة، بعنوان (مواقيت الصلاة في المملكة المتحدة)، وقدم له رئيس مجلس القضاء الاسلامي الشيخ حسن رضا الغديري، على إن الفقيه السيد فاضل الميلاني والمهندس الدكتور محمد علي الشهرستاني، شرحا حقيقة اختلاف المسلمين في تحديد الفجر في الدول الواقعة بين خط العرض 48 و66، في لقاءين صحفيين منفصلين، ضمن دراسة أعددتها ونشرت في العدد 18 من مجلة (الرأي الآخر) الصادر في لندن في 30/01/1998، واعتمدت فيها على ما توصل اليه الفقيه الكرباسي، وزودني حينها بالفتاوى التي وصلت اليه من مراجع التقليد، السيد أبو القاسم الخوئي (1317-1413هـ) والسيد روح الله الخميني (1320-1409هـ) والسيد محمد رضا الگلبايگاني (1316-1414هـ) والسيد محمد الشيرازي (1347-1422هـ)، فضلا عن قرارات وتوصيات المؤتمر الخامس للمجلس القاري لمساجد أوروبا الصادرة في 19 تشرين الأول أكتوبر 1984 والذي اعتمد خط العرض 45 لقياس وقتي الفجر والعشاء عند ضياع العلامة، معللا ذلك بان هذه الدرجة متوسطة بين خط الاستواء والقطب، وان المسلمين لم يتجاوزوه خلال فتوحاتهم الاسلامية.
ولا شك أن الفقيه له اجتهاده أما تحديد الفجر فهو خاضع لأهل الفن، ذلك: "إن موضوع تشخيص الفجر والمواقيت الأخرى هي مسألة ترتبط بالموضوع وليس للفقيه شأن في ذلك، بل يرتبط بأهل الفن والخبرة فعليهم الاعتماد في تشخيص الموضوع"، ولهذا وقع الاختلاف بين فقهاء الشيعة والسنة بناءاً على تحديد الموضوع، فبيان المجلس القاري لمساجد أوروبا اعتمد على اجتهاد رابطة العالم الاسلامي في بيانها الصادر في الأول من أيار مايو العام 1984، التي رجعت الى تاريخ الفتوحات الاسلامية، في حين اعتمد فقهاء الشيعة الإمامية على ما يقول به علماء الفلك وما قال به الخبراء بعد متابعة ضوء الفجر في الشهرين اللذين ينعدم فيها الظلام الدامس. على أن المسألة لم تكن غائبة عن أذهان المسلمين في أوروبا، وقد لاحظ المؤلف الشيخ الكرباسي: "إن هذه المسألة قد طرحت في سنة 310 هجرية في بلغاريا حيث يذكر ياقوت بن عبد الله الحموي (574-626هـ) في معجم البلدان: 1/486-487، قصة طويلة نقتطف منها محل الحاجة وهي: إن الملك البلغاري ألمس بن شلكي بلطوار، لما أسلم بعث الى المقتدر العباسي (295-320هـ) يطلب منه أن يرسل مبعوثه ليعلمهم تعاليم الإسلام، ولما ورد بلادهم لاحظوا تقارب وقت صلاة العشاء مع صلاة الفجر فاستغربوا من ذلك، حتى كانوا لا ينامون الليل كي لا تفوتهم صلاة الصبح". وهذا الاستغراب عائد الى كون: "بعض النقاط من الكرة الأرضية ينعدم الفجر المتعارف في البلاد الاسلامية، حيث إن الكرة الأرضية مائلة المحور، فهذه البلدان لا يغيب عنها نور الشمس تماما بل يصلها عبر القطب الشمالي- حيث لا حاجز بينها وبين البلدة- ويتم هذا في أواخر الربيع وأوائل الصيف" ومثال ذلك لندن حيث لا يتحقق نزول الشمس عن خط الأفق 18 درجة كما هو في سائر البلدان، بل غاية نزوله 12 درجة فقط، فيعتمد في الفترة الواقعة بين (24 أيار مايو) و (21 تموز يوليو) على هذه الدرجة التي يتحقق فيها ازدياد النور.
وبناءاً على ما تم التوصل اليه من الملاحظة العيانية لطلوع الفجر عند درجة 18 وانتشار ضوء الشمس عند درجة 12، وسؤال الخبراء والمراصد الفلكية وفتاوى الفقهاء، فان الشيخ الكرباسي بقطع بعدم مصداقية الكثير من التقاويم المعتمدة في مساجد المسلمين سنة وشيعة في الدول الواقعة بين خط عرض 48 و66، كم يتبين عنده: "عدم مصداقية قرار مكتب رابطة العالم الاسلامي في لندن الصادر بتاريخ 1-2 شعبان 1404هـ (2-3 أيار 1984م) القاضي بان البلدان الواقعة على خط العرض (48) وما فوقها عليها أن تتبع فجر وعشاء البلدان الواقعة على خط العرض (45) باعتبار إن الفتوحات الاسلامية لم تتجاوز الخط (45) وذلك لان الفجر له موضوعية في الفقه الاسلامي فمتى ما تحقق اعتمد، وهذا ما يمكن تحققه في لندن لفترة عشرة أشهر تقريبا".
ومن الثابت أن الكرة الأرضية: "تقسم من قطب الى آخر طولا الى 360 قسما، يسمى لك واحد منها خط الطول، واعتبروا مدينة غرينتش – جنوب غربي بريطانيا- نقطة الصفر، فيقع 180 منها نحو الشرق و180 منها نحو الغرب، ويختلف الوقت بين خط أربع دقائق، فكل نقطة تقع على شرق غرينتش يزيد عليها أربع دقائق عند كل خط من خطوط الطول هذه، وكل نقطة تقع على غرب غرينتش ينقص منها أربع دقائق عند كل خط من خطوط الطول هذه". ومن الثابت أيضا أن الكرة الأرضية: "تقسم الى خطوط العرض من القطب عرضا بمقدار 180 قسما، ويعد خط الاستواء نقطة الصفر، فما وقع من شماله 90 قسما، وما وقع الى جنوبه 90 قسما، فكلما صعدنا شمالا اختلف التوقيت، وكلما نزلنا جنوبا اختلف التوقيت أيضا"، وحتى يكون المسلم أينما حل وارتحل في هذه المعمورة على بينة من أمره فان المصنف نظم جدولا لأوقات الصلاة من درجة عرض صفر الى درجة عرض 70، على أن المصنف يرى انه: "في خط العرض 70 لا يمكن توقيت بعض الأيام، وتصعب الحالة كلما ذهبنا شمالا، ويكون عكس ذلك كلما ذهبنا الى الجهة المعاكسة".
ويعتبر الكتيب على قلة صفحاته والذي تضمن جدولا بمواقيت الصلاة لمدينة لندن ومدن المملكة المتحدة، لكل أيام السنة، أول مصنف يشرح ملابسات الاختلاف الحاصل في التقاويم المنتشرة الذي يصل الاختلاف في تحديد الفجر في بعضها، الى نحو خمسين دقيقة، وهو وان حمل عنوان (مواقيت الصلاة في المملكة المتحدة حسب أفق مدينة لندن) مما يعطي انطباعا انه خاص بلندن، لكنه يغطي في رؤاه وبياناته شمال وجنوب الكرة الأرضية، مما يعد في نفسه مرجعا لكل التقاويم التي يفترض أن تكون مبرئة للذمة.

* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات - لندن
[email protected]

تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 04:23 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/36058.htm