موسم الترحم علي ايام صدام تشهد كل من واشنطن ولندن حالة غير مسبوقة من الجدل حول تدهور الاحوال في العراق، حيث تمتلئ الصحف والمجلات الرئيسية بدراسات، ومقالات، واستطلاعات رأي، تؤكد ان الرئيس جورج دبليو بوش، وحليفه الاوثق توني بلير، خسرا الحرب في العراق بشكل خاص، والحرب ضد الارهاب بشكل عام، وغرقا في مستنقع دموي بات من الصعب الخروج منه، فالبقاء في العراق مصيبة والانسحاب منه كارثة. الرئيس الامريكي نفسه اعترف بان الامور لا تسير بالشكل المطلوب في العراق، وأقر بان هذا البلد يتحول الي فييتنام جديدة بالنسبة الي ادارته، وعقد اجتماعا مغلقا لكبار قادته العسكريين للبحث عن سياسة جديدة تخرجه من مأزقه او تقلص الخسائر علي الاقل، فعندما يخرج البرتو فرنانديز المتحدث باسم الخارجية الامريكية عن طوره ويصف في مقابلة مع قناة الجزيرة سياسة بلاده في العراق بانها غبية ومتغطرسة ، فإن علي الرئيس ان ينصت جيدا، ويراجع حساباته ويتنازل من عليائه. الي هنا والأمر عادي، لا جديد فيه، ولكن الجديد والمفاجئ، هو بدء ظهور اصوات في بريطانيا تتحدث علانية، وتكسر حاجز الصوت، وتخوض في المحظور الاكبر، وتؤكد ان الاوضاع في العراق كانت افضل بكثير في زمن حكم الرئيس العراقي صدام حسين رغم كل التحفظات المعروفة، مثل الديكتاتورية والتعذيب، وحرب الانفال التي جري استخدامها بشكل مكثف عربيا وامريكيا لشيطنة نظامه، وتبرير الغزو والاحتلال. الكاتب الاكاديمي البريطاني كورياللي بارنت، الاستاذ في جامعة كامبريدج العريقة، كتب مقالا يوم امس الثلاثاء في صحيفة الديلي ميل اليمينية المحافظة، والاكثر شراسة في تأييدها للحرب في العراق، قال فيه ان صدام حكم العراق ثلاثين عاما حقق خلالها الاستقرار، وحافظ علي وحدة البلاد، ووفر الوظائف للغالبية الساحقة من العراقيين من مختلف الطوائف والاعراق، وقدم الخدمات الاساسية من تعليم وماء وكهرباء، واقام افضل نظام صحي في الشرق الاوسط قاطبة، وحرر المرأة ووفر لها كل فرص المشاركة في بناء وطنها، وفوق هذا وذاك لم تكن الجثث تملأ الشوارع، وتطفو علي سطح مياه النهر بالعشرات في عهده . وتساءل: فاذا كان قد استخدم الاسلحة الكيماوية في حلبجة فالامريكان استخدموا الفوسفور الابيض في القائم والفلوجة، واذا كان اقدم علي حملة الانفال فللامريكان وحلفائهم انفالهم في الفلوجة، وبغداد، وسامراء وغيرها . وخلص الي القول بانه لو ظل صدام في الحكم لما مات 655 الف عراقي من جراء الغزو والاحتلال، ولما قتل ثلاثة آلاف امريكي و120 بريطانيا، وأصيب مليونا عراقي، وعشرون الف امريكي علي الاقل . ـ ـ ـ ما لم يقله الكاتب البريطاني الشهير ان 800 مليون دولار جرت سرقتها من ميزانية وزارة دفاع العراق الجديد في اقل من ستة اشهر، واكثر من 18 مليار دولار من عوائد النفط العراقية في اقل من عامين، فآبار النفط العراقية هي الوحيدة في العالم التي لا يوجد عليها عدادات تحصي ما يخرج من جوفها. الف عراقي من ابناء الطبقة الوسطي يغادرون يوميا الي دمشق وعمان هربا من جحيم العراق الجديد، اما الفقراء المعدمون الذين يشكلون حوالي 96% من ابناء العراق فلا يستطيعون المغادرة لانهم لا يملكون ثمن اجرة التاكسي (500 دولار) وليس امامهم غير الموت. وتقول الاحصاءات شبه الرسمية ان 650 الفا من العراقيين نزحوا الي دول الجوار في العامين الماضيين. لو كان من كتب هذا المقال الذي يترحم علي عهد نظام الرئيس صدام ويجاهر بانه الافضل للعراق مقارنة بحكامه الجدد، صحافيا عربيا، لخرجت السيوف من اغمادها، وانهالت عليه الاتهامات بالعمالة لنظام صدام حسين، وتأييد الديكتاتورية والمقابر الجماعية، وان صحيفته تمولها مخابرات الطاغية ، ولكنه ليس عربيا، وصحيفته تعتبر من اكثر الصحف في العالم يمينية وتأييدا للحرب علي العراق، وعداء للعرب والمسلمين، وارادت ان تقول كلمة حق وتفضح الطابق، وتشير الي عري الملك دون خوف او خجل بينما تصمت صحف العراق الجديد، ونظيراتها التي ايدته واحتضنت رموزه ورجالاته عندما كانوا في المهجر وبعد ان عادوا الي الوطن. انها صحوة غير متوقعة، مصدر المفاجأة فيها، انها جاءت مبكرة جدا، وأسرع مما توقعنا، وربما يعود ذلك الي حدوث تغيير جذري في اوساط الرأي العام البريطاني والامريكي، حيث قال اكثر من 76% من البريطانيين ان هذه الحرب في العراق لا يمكن كسبها، بينما توصل اربعة اخماس الامريكيين الي النتيجة نفسها. الرئيس بوش ما زال يعلق آمالا علي قوات الامن العراقية لإنقاذه من ورطته هذه وتسهيل قراره بالانسحاب، ولكن هذه القوات ستخذله حتما مثلما خذلت الشعب العراقي، فالعد التنازلي لإفلاس مشروعه في العراق بدأ منذ اليوم الاول للغزو، واقترب الآن من نهايته. فكيف ستنجح هذه القوات في مهمتها وهي التي عجزت عن تأمين طريق مطار بغداد والمنطقة الخضراء، وحماية قادتها ومعسكراتها من الهجمات التي تستهدفها يوميا؟ المقاومة العراقية هي التي قلبت كل الموازين، وكسرت انف الولايات المتحدة، وفضحت كل المتعاونين مع مشاريعها، ودعاياتهم الكاذبة المضللة. ولذلك الباب الوحيد للتفاوض لبلورة مستقبل افضل للعراق هو اعادته الي اهله سليما معافي وازالة كل الادران الطائفية، ومحاكمة كل الذين اغرقوه في هذا الوحل الدموي. جيمس بيكر وزير الخارجية الامريكي السابق وضع امام الرئيس بوش ثلاثة خيارات هي خلاصة التقرير الذي اعدته اللجنة التي ترأسها وكلفت بدراسة الوضع في العراق: الخيار الاول: الانسحاب كليا من العراق الي الدول المجاورة، اي الكويت والمملكة العربية السعودية والاردن. الخيار الثاني: الانسحاب الي قواعد عسكرية في الصحراء العراقية بعيدا عن المدن والتجمعات السكانية هربا من هجمات المقاومة. الخيار الثالث: اللجوء الي قطبي محور الشر ، اي ايران وسورية، لإشراكهما في ضبط الامن في العراق وانقاذ واشنطن من ورطتها. لا نعرف اي الخيارات سيفضل الرئيس بوش ولكن ما نعرفه ان هزيمته باتت موثقة وخسائر قواته تتعاظم (90 قتيلا امريكيا منذ مطلع تشرين الاول (اكتوبر) والحبل علي الجرار) والمقاومة انتصرت، والمنطقة العربية بأسرها باتت علي ابواب تغيير شامل، بفضل هذه الهزيمة وهذا الانتصار. لقد ولي الزمن الذي كانت ترسل فيه الادارة الامريكية بشكل خاص، والحكومات الغربية بشكل عام، قواتها وطائراتها لخوض حروب في المنطقة دون ان تتعرض جبهتــــها الداخليـــــة لأي ســـوء. فقد اثبتت حرب العراق فشل هذه المعادلة، مثلما اكدتها بشكل مطلق وواضح الحرب الاسرائيلية في لبنان. العراق كان موئل الحضارات، وحاضن الامبراطوريات، ومصدر اشعاع للحداثة، وسيكون حتما عنوان اندحار امبراطورية الشر الامريكية وحليفتها اسرائيل. القدس العربي |