من فـنون الـتراث الشعـبي في بلاد السعيـدة تقاليد رمضان في اليمن ليست كتقاليد غيرها من البلدان الإسلامية، فاليمنيون لا يجدون متعتهم بغير اجتماع الشمل، ولا يستطيبون من الكلام في مجالسهم إلاّ أحسنه وأغزره حكمة وفائدة.. وهم لا يولون اعتباراً كبيراً للأتكيت المعروف في بقاع العالم الأخرى، فقلوبهم تتسع كل من حضر مجالسهم - وإن كان ممن لم يُدعى إليها سلفاً – فالعرف الاجتماعي العام هو من سيحكم الجميع بآداب الحديث والسلوك. ولا شك أن أمسيات رمضان تبحث عن أغلب موضوعاتها بين صفحات الذاكرة التاريخية والتراثية - كما هو معهود في بلادنا- لذلك سنحرص هنا على أن نضع بين أيدي الجميع بعضاً من روائع نتاجنا الحضاري مما لم تدونه الكتب بعد، وما هو غير مطروق إلاّ من قبل نفر قليل جداً يعدون بالأصابع، ليكون ذلك مادة ممتعة لأمسياتنا الرمضانية. o ألغــاز (بوازل) حيث أن البعض يستطيب تداول الألغاز- أو كما يسمونها في بعض المناطق الوسطى بـ(بازل) إشتقاقاً من المفردة الإنجليزية (Puzzle) نورد هنا نماذج جملية منها، ونعد القارئ بأن يجد حلولها في حلقة يوم غدٍ. 1- أنا بحزيك من شيء طول ما كان ... وله سّواق ينشر حيث يعناه ويجزع طايفاً في جميع الأرضان ... طريق الخير في دفره وموطاه ولا يشرب ولا يوكل من أوطان ... ولا يسمع ولا يفطن لغة فاه 2- ما هو بازلي إذا إمتلأ خف ... حاكم صار خادم تحت الأشراف وصنوه قد ذُكر قبل يُعرف ... شديد البطش جاب الموت حتاف الأول حق والثاني مزيف ... ويوجد بين حرف السين والقاف 3- أنا بحزيك من بَكره مشـرَّع ... وبكره مثلها نفس الشراعــة وهي البكرة تجد واحد وأربع ... في الأطراف من عزِّ الصناعة وفي البكرة عدد أسماء منوّع ... عدد تسعة وتسعين إجتماعـة o أوّل (زامــِل) عرفه اليمنيون: ربما لا يعرف الكثيرون أن (الزامل) فن شعري تنفرد به اليمن دون سواها من بلدان العالم العربي. ويقول معلمنا الكبير الأستاذ عبدالله البردوني (رحمه الله) في كتابة (الثقافة الشعبية) أن هناك أسطورة شعبية تتحدث عن كيفية دخول الزامل في ثقافة اليمنيين ، ومفادها : أن اليمنيين أيام الغزو الروماني لليمن هرب بعضهم إلى ( الجروف ) – أي كهوف الجبال – ليحتموا بها ، فإذا بهم أثناء الليل يسمعون ضجيجاً يأتي من الشِّعاب القريبة ، وغباراً يتطاير من تلك الجهة، فأدركوا أن معركة تدور رحاها بين قبائل (الجن)، وأنهم كانوا يستمدون حماسهم للقتال من أبيات شعرية كانت ترددها أحدى الفصائل المتحاربة، وكان ذلك بمثابة أول زامل يعرفه اليمنيون في تاريخهم، وكان الزامل يقول: قبّح الله وجهك يالذليل ... إن بعد الحرايب عافية بعد الحرايب ما نميل ... باتجيك العلوم الشافية وبحسب رواية (البردوني) كان ذلك الزامل بمثابة البذرة التي نما منها الفن الزواملي، وأصبح لوناً فريداً في ثقافة الإنسان اليمني من أقصى ربوع الوطن إلى أقصاها. - ومما يقال بهذا الشأن ، أن الأتراك أثناء غزوهم الثاني لليمن (1872-1918م) لفت انتباههم مقدار إشتداد حماس اليمني في القتال أثناء ترديد الزوامل، فطلب الوالي العثماني (أحمد فيضي باشا) من أفراد قوة (الجندرمة)- وهي أول جيش يمني شكله العثمانيون- أن ينظموا له زاملاً يتغنى به جيشه أثناء تقدمة على بعض المناطق المحيطة بالعاصمة صنعاء، فتقدم له أحدهم، ونظم الزامل التالي: (خّيلت بارقاً لمع ... لا فوق صنعاء ... حن رعده وسيله ... وشل حاشد وا بكيل) o وصية (الحُميد بن منصور) لإبنه: الحُميد بن منصور رجل حكيم لا أحد يعرف بالضبط الزمن الذي عاش به، لكنه ظل مع رفيقه (ويقال ابن عمّه) علي بن زايد يمثلان سفيرا الحكمة اليمانية عبر التاريخ، وقد اعتادت العامة من الناس على حمل أقوالهما محمل الحكم العُرفي. ويبدو لنا أن الحُميد بن منصور كان من سكان مناطق اليمن الوسطى، وبالذات –لواء إب- حيث نستدل على هذه الحقيقة من قصة تقول: أن الحُميد بن منصور كانت له ابنة اسمها (بدرة)، وفي ذات مّرة وقعت (بدرة) في غرام شاب فتزوجته وهربت معه، فظل الناس يتحدثون بسيرتها، ويلحقون العار بأبيها، حتى إذا مَّر ببعض النسوة المتجمعات عند بئر ماء، وسمعهن يتحدثن عن فعلة ابنته والعار الذي ألحقته بأهلها، أنشد الحُميد بن منصور قائلاً: (يا نساء يا قوادح ... كثر الحُكى بطلينه لابد من راس بدره ... وراس بدره باترينه قالوا تغدّت بمنكث ... وتعشّت في عُدينه ولاّ حلقتن ذقنـي ... وبالحُمم نّيلينـه ) فمن المعلوم أن منطقتي (منكث) و(عدينة) هي من مناطق لواء إب، مما يشير إلى أنه كان من أبناء تلك الجهات. أما فيما يخص موضوعنا الرئيسي، فإن الحُميد بن منصور كان له ولد اسمه (محمد)، وكان يحرص كثيراً على أن يعلمه كل الآداب العامة التي يجب أن يتحلى به في المجتمع إذا ما أراد أن يحافظ على كرامته، ويبني لنفسه منزلة محترمة في المجتمع اليمني، لأن ما ينصح به هو جزء من ثقافة المجتمع وآدابه، فتوجه لابنه ناصحاً: - ياولدي محمد أوصيتك بأربع وصايا: الأولى في صلاتك... تقدم مع الصف الأول والثانية في رفيقك ... قاتل معه قبل يُقتل والثالثة في جارك ... تدعه مع الضيف الأول والرابعة في حُرمة الويل ... طلاقها قبل تحبل إذن هذه هي الآداب التي حملها اليمنيون عبر التاريخ ليصنعوا بها مجدهم الإنساني، ولاشك أننا بأمس الحاجة اليوم لجعلها عنواناً لدروسنا التي ننقلها لأبنائنا وشبابنا في أمسياتنا الرمضانية. *(أنتم على موعد مع روائع التراث الشعبي اليمني- يومياً- طوال أيام شهر رمضان المبارك...) "حصراً على المؤتمرنت" |