المؤتمر نت -
د‏.‏ محمد سيد طنطاوي -
لا وجود للدولة الدينية في الإسلام
كتب الدكتور جابر عصفور سلسلة مقالات أسبوعية متتابعة بجريدة الأهرام أولها بتاريخ‏15‏ يناير‏..‏ وخلاصة هذه المقالات‏..‏ أنها دعوة حارة إلي التحذير من مخاطر ما يسمي الدولة الدينية‏,‏ ومن المصائب المتعددة التي ستصيب الأمة إذا ما قامت فيها تلك الدولة الدينية‏...!!‏

حيث قال سيادته‏..‏ من بين ما قال‏:‏ الدولة الدينية هدف لمجموعات الإسلام السياسي من ناحية‏,‏ وشعار لمجموعات التطرف الديني من ناحية موازية‏..‏

وقال أيضا‏:‏ الواقع أن مثقفي المجتمع المدني‏,‏ والمدافعين عن الدولة الدينية‏,‏ هم أكثر الناس رفضا لمفهوم الدولة الدينية‏,‏ والدعوة لها‏,‏ وهم الأكثر تنبيها إلي كوارثها‏..‏ ثم ذكر سيادته ألوانا من بطش المجموعات الداعية إلي الدولة الدينية‏,‏ ومن احتكارهم لتفسير الدين علي حسب هواهم‏,‏ ومن إلغاء الاجتهاد الذي يحل محله الاتباع‏,‏ وإحلال النقل محل العقل‏..‏

ثم قال‏:‏ ولا تقتصر مخاطر الدولة الدينية علي إلغاء الحريات بكل لوازمها فحسب‏,‏ وإنما يمتد الخطر إلي إلغاء معني المواطنة‏,‏ وتحويل الانتماء من الوطن إلي المعتقد‏..‏ الأمر الذي يؤدي إلي الاحتقان في العلاقة بين أبناء الديانات المتعددة في الوطن الواحد‏,‏ وتحل العصبية البغيضة محل التسامح‏..‏

ثم خلص سيادته إلي قوله‏:‏ فتحدث الفتنة‏,‏ وتتحول العلاقة بين الأديان إلي علاقة حروب وصراعات‏,‏ علي نحو ما يحدث في العراق الآن بين السنة والشيعة‏,‏ أو ما حدث في الجزائر بين طوائف المتطرفين‏,‏ الذين تحولوا إلي إرهابيين قتلة‏..‏

والخلاصة أن المقالات تدور حول التنفير الشديد من قيام ما سماه الدولة الدينية‏,‏ كما يتصورها سيادته لأنها الدولة التي تقوم علي احتكار السلطة‏,‏ وعلي كبت الحريات‏,‏ وعلي عدم الوضوح‏,‏ وعلي التعصب الأعمي‏..‏ كما تدور هذه المقالات حول تشجيع الدولة المدنية‏..‏ وإني أرجو من الأستاذ الدكتور جابر عصفور‏,‏ أن يتسع صدره لمناقشته في أمور من أهمها‏:‏

أولا‏:‏ ما مقصوده بالدولة الدينية؟
إن كان مقصوده بالدولة الدينية‏,‏ الدولة التي ينادي بها من ذكرهم من المتعصبين‏,‏ ومن المتطرفين‏,‏ ومن المحتكرين لتفسير الدين علي حسب أهوائهم‏,‏ ومن المفسدين في الأرض‏..‏

إن كان هذا هو مقصود سيادته‏,‏ فالعنوان الذي وضعه لمقالاته‏,‏ تنقصه الدقة‏,‏ ويشوبه الخطأ‏,‏ لأن كثيرا من القراء يتوهمون أن صاحب هذه المقالات يحارب كل دولة لها صلة بالدين‏,‏ وهذا التوهم شيء منكر وباطل وخطير‏..‏

وكان من الأوفق والأسلم بل الواجب أن يكون عنوان هذه المقالات ـ مثلا ـ مخاطر الدولة التي يتستر المنادون بها بالدين أو‏:‏ مخاطر من يتستر بالدين ويعمل بخلافه‏,‏ وإذا كان مقصود سيادته بهذا العنوان وهو‏:‏ مخاطر الدولة الدينية‏:‏ التنفير والتحذير والمحاربة لكل دولة تأخذ أحكامها وآدابها وتشريعاتها من هدايات الدين‏,‏ فالأمر يكون أشد إنكارا وبطلانا وخطرا‏..‏

لأن العقلاء في كل زمان ومكان متفقون علي أن الدين هدايات ربانية‏,‏ أنزلها الله ـ تعالي ـ علي جميع أنبيائه‏,‏ وأمرهم بأن يبلغوها لأقوامهم‏,‏ لكي يسعدوا في دنياهم وآخرتهم‏,‏ وهي هدايات تعطي كل إنسان حقه سواء كان مسلما أم غير مسلم‏..‏ ولفضيلة أستاذنا وشيخنا الدكتور محمد عبدالله دراز ـ رحمه الله وطيب ثراه ـ كتاب قيم عنوانه‏:‏ الدين ذكر فيه جملة من التعاريف للدين فقال‏:‏ أما الإسلاميون فقد اشتهر عندهم تعريف الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة‏,‏ باختيارهم إلي الصلاح في الحال‏,‏ والفلاح في المآل‏..‏

ويمكن تلخيصه بأن نقول‏:‏ الدين وضع إلهي يرشد إلي الحق في الاعتقادات‏,‏ وإلي الخير في السلوك والمعاملات‏..‏ ثم قال ـ رحمه الله ـ‏:‏ وأما الغربيون فلهم في تعريف الدين تعبيرات شتي‏,‏ وهذه نماذج منها‏:‏ يقول سيسرون في كتابه عن القوانين‏:‏ الدين هو الرباط الذي يربط الإنسان بالله‏..‏ ويقول‏(‏ كانت‏)‏ في كتابه‏:‏ الدين في حدود العقل الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة علي أوامر إلهية‏.‏ ويقول الأب شاتل في كتاب قانون الإنسانية‏:‏ الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق‏:‏ واجبات الإنسان نحو الله‏,‏ وواجباته نحو الجماعة‏,‏ وواجباته نحو نفسه‏..‏ ويقول سلفان‏:‏ الدين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانية‏..‏ ويقول سالومون‏:‏ الدين هو مجموعة التورعات‏,‏ التي تقف حاجزا أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا‏..‏

هذه مجموعة من التعاريف التي عرف بها الإسلاميون والغربيون الدين‏,‏ وكلها تدل علي أن الدين هدايات إلهية متي اتبعها الإنسان وعمل بمقتضاها‏,‏ ظفر بالحياة الطيبة في دنياه‏,‏ وظفر برضا الله ـ تعالي ـ في أخراه‏.‏

ولقد تحدث فضيلة شيخنا الجليل الدكتور محمد عبدالله دراز ـ رحمه الله ـ‏,‏ بعد ذلك علي مدي أقدميات الديانات فقال‏:‏ إن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث‏,‏ رغم تفاوتهم في مدارج الرقي‏,‏ وفي دركات الهمجية‏.‏ ويقول هنري برجسون عن نزعة التدين وأصالتها في الفطرة‏:‏ لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات‏;‏ ولكنه لم توجد قط جماعة بغير ديانة‏.‏ ويقول الدكتور ماكس عن الشعور الديني‏:‏ هذا الشعور أصيل‏,‏ يجده الإنسان غير المتمدين‏,‏ كما يجده أعلي الناس تفكيرا‏,‏ وستبقي الديانات ما بقيت الإنسانية‏..‏

وكما تحدث د‏.‏ محمد عبدالله عن تعريف الدين وعن نزعة التدين ومدي أصالتها في الفطرة الإنسانية‏..‏ تحدث ـ أيضا ـ بأسلوب حكيم‏,‏ وبمنطق قويم عن وظيفة الأديان في المجتمع ومما قاله في ذلك‏:‏ ليس علي وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون‏,‏ وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه‏,‏ والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه‏..‏

ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء‏,‏ وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي‏,‏ ذلك أن العلم سلاح ذو حدين‏:‏ يصلح للهدم والتدمير‏,‏ كما يصلح للبناء والتعمير‏,‏ ولابد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية‏,‏ وعمارة الأرض‏,‏ لا إلي نشر الشر والفساد‏,‏ ذلكم الرقيب هو الدين‏..‏ هو العقيدة والإيمان‏..‏

من أجل ذلك كان التدين خير ضمان لقيام التعامل بين الناس علي قواعد العدالة‏,‏ وكان لذلك ضرورة اجتماعية‏,‏ كما هو فطرة إنسانية‏.‏

وجملة القول أن الأديان تحل من الجماعات محل القلب من الجسد‏,‏ وأن الذي يؤرخ الديانات‏,‏ كأنما يؤرخ حياة الشعوب‏,‏ وأطوار المدنيات‏.‏

وهكذا أفاض وأجاد شيخنا الجليل الدكتور محمد عبدالله دراز في كتابه القيم الدين فتحدث عن تعريفه‏,‏ وعن تحديد معناه‏,‏ وعن علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب‏,‏ وعن نزعة التدين ومدي أصالتها في الفطرة‏,‏ وعن وظيفة الدين في المجتمع‏..‏ فإذا ما اتجهنا إلي القرآن الكريم‏,‏ وجدنا أن كلمة الدين قد تكررت في أكثر من ستين موضعا من كتاب الله ـ عز وجل ـ‏,‏ وكلها ثناء ومدح للدين‏..‏

فتارة يبين لنا القرآن الكريم أن الدين لا إكراه عليه‏,‏ قال تعالي‏:‏ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏...(‏ سورة البقرة‏:‏ الآية‏256).‏

وتارة يدعو إلي التفقه في الدين‏,‏ كما في قوله سبحانه‏:‏ وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏,‏ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين‏...(‏ سورة التوبة‏:‏ الآية‏122).‏ وتارة يخبرنا ـ سبحانه ـ بأن الدين يقوم علي السماحة واليسر‏:‏ وما جعل عليكم في الدين من حرج‏...(‏ سورة الحج‏:‏ الآية‏78).‏ وتارة يرشدنا ـ عز وجل ـ إلي أن الدين الذي أوحاه إلي أنبيائه ورسله الكرام‏,‏ هو واحد في أصوله فيقول ـ سبحانه ـ‏:‏ شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسي وعيسي أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر علي المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب‏(‏ سورة الشوري‏:‏ الآية‏13).‏ ومن كل ما سبق يتبين لنا أن الدين فطرة فطر الله ـ تعالي ـ الناس عليها‏,‏ وأنه عقيدة مهيمنة علي الإنسان‏,‏ ولا يستطيع أن يحيا الحياة الراضية بدونها‏.‏ ويعجبني في هذا المقام قول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد‏,‏ في كتابه القيم الله‏:‏ في الطبع الإنساني جوع إلي الاعتقاد كجوع المعدة إلي الطعام‏.‏ ولنا أن نقول‏:‏ إن الروح تجوع كما يجوع الجسد‏,‏ وأن طلب الروح لطعامها‏,‏ كطلب الجسد لطعامه‏.‏ حق لا ي
قبل الجدل أن الحاسة الدينية بعيدة الغور في طبيعة الإنسان‏.‏ وحق لا يقبل المراء أن الإنسان يجب أن يؤمن‏,‏ ولا يستقر في وسط هذه العوالم بغير إيمان‏.‏ وهو قد وجد في وسط هذه العوالم لا مراء‏,‏ فإذا كان الإيمان هو الحالة التي يتطلبها وجوده‏,‏ فضعف الإيمان شذوذ يناقض طبيعة التكوين‏,‏ ويدل علي خلل في الكيان‏.‏ ثم يقول ـ رحمه الله ـ‏:‏ وقد اتفق علماء المقابلة بين الأديان‏,‏ علي تأصل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان من أقدم أزمنة التاريخ‏.‏

ثانيا‏:‏ ذكر الأستاذ الدكتور جابر عصفور في مقالاته الأربع‏,‏ التعبير الدولة الدينية عدة مرات‏,‏ وأنا شخصيا لا أعرف دولة في العالم بهذا الاسم‏,‏ وإنما الذي أعرفه هو أن يقال‏:‏ الدول الإفريقية أو الآسيوية أو الأوروبية‏..‏ أو الدولة المصرية أو الفرنسية أو الإندونيسية أو الماليزية أو العراقية‏..‏

وأقرأ القرآن الكريم فأري أن الله ـ تعالي ـ قد أرسل خمسة وعشرين نبيا ورسولا إلي أقوامهم كل رسول أرسله ـ سبحانه ـ بلسان قومه‏,‏ ووظيفة هؤلاء الرسل دعوة أقوامهم إلي إخلاص العبادة لله ـ تعالي ـ ووجوب التحلي بمكارم الأخلاق‏..‏ فآمن بعض هؤلاء الأقوام بدعوة رسلهم ففازوا‏,‏ وكفر البعض الآخر بدعوة رسلهم فخسروا‏..‏ ولم أقرأ بأن هؤلاء الذين آمنوا قد سموا أنفسهم بالدولة الدينية‏.‏ كذلك في العهد النبوي‏,‏ وفي عهود الخلفاء الراشدين‏,‏ وفي عهود الدولة الأموية والعباسية‏...‏ إلخ لم أقرأ ولم أسمع بدولة اسمها الدولة الدينية‏.‏

ولكن الذي أقرؤه وأسمعه أن دولة كذا تأخذ كثيرا من تشريعاتها من أحكام الدين‏,‏ ودولة كذا تأخذ ما هو أقل‏,‏ ودولة كذا أكثر سكانها من المسلمين‏,‏ ودولة كذا أكثر سكانها من غير المسلمين‏..‏ ولذلك فأنا عندما أسمع هذه الأسماء المخترعة عن جهل أو عن سوء نية‏,‏ أتذكر قوله ـ تعالي ـ لعبدة الأوثان وتسمية هذه الأوثان بالآلهة‏..‏ أتذكر قوله ـ تعالي ـ لهم علي لسان سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ‏:‏ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان‏...(‏ سورة يوسف‏:‏ الآية‏40).‏ فالدولة الدينية وهم وافتعال لا وجود له علي الإطلاق وإثارة ذلك هو الفتنة بعينها‏.‏

ثالثا‏:‏ أحب أن أقول للأستاذ الدكتور جابر عصفور‏:‏ إن الذين ذكرهم في مقالاته بأنهم ينادون بالدولة الدينية‏,‏ ثم وصفهم بأنهم يقتلون ويخربون ويحتكرون الفهم السليم للدين علي أنفسهم‏..‏

هؤلاء الذين وصفهم سيادته بذلك لا وجود لهم ـ وإن وجدوا علي سبيل الفرض ـ فالدين بريء منهم‏,‏ والعقل السليم بريء منهم‏,‏ والقول الطيب بريء منهم‏,‏ والعمل الصالح بريء منهم‏..‏

رابعا‏:‏ في الختام أنصح الدكتور جابر عصفور وهو رجل له مكانته وعلمه ـ أن يحدد المفاهيم في كتابته‏,‏ وأن يبتعد عن التعميم في الأحكام‏..‏

وأقول لسيادته‏:‏ انقد كل من يتستر بالدين ثم يقول أو يفعل ما يخالف أحكام الدين‏,‏ أما الدين في ذاته فهو ـ كما سبق أن أشرت ـ هو الهدايات التي أمر الله ـ تعالي ـ رسله بأن يبلغوها للناس وأن يعملوا بها‏..‏ هو النور الذي أوحاه الله ـ تعالي ـ إلي رسله الكرام‏,‏ لكي يخرجوا به الناس من ظلمات الشرك إلي نور التوحيد‏,‏ ومن الشرور والمفاسد‏,‏ إلي الخير والبر والعفاف والطهارة ومكارم الأخلاق‏.‏

فعلينا عندما نتكلم عن أي أمر له صلة بالدين أن نوضح أن الدين هدايات‏,‏ من عمل بأحكامه كان علي الهدي‏,‏ ومن خالف ذلك كان في ضلال مبين‏..‏ وبالله التوفيق‏.‏

*نقلا عن جريدة "الأهرام" المصرية
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 04:12 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/40652.htm