المؤتمر نت - أمريكا
سباستيان مالاباي -
خسائر أميركا من العولمة... المهام بدل الصناعات!
تميزت المرة الأخيرة في أميركا التي سيطر فيها رئيس "ديمقراطي" على البيت الأبيض بدفاعه المستميت عن العولمة. فقد أدرك الرئيس "الديمقراطي" بيل كلينتون أن التجارة تخلف وراءها بعض المتضررين، لذا سعى إلى التخفيف من آثارها ومساعدة الخاسرين من خلال فرض الضرائب وسن سياسات جديدة للإنفاق. هذا التوجه الذي ميز "الديمقراطيين" في السنوات السابقة بات جزءاً من الماضي بعدما ساروا في اتجاه معاكس وتبنوا سياسات اقتصادية مغايرة. فهم يبثون اليوم شكاوى عديدة تحذر من حرية التجارة محملينها مسؤولية الأزمات التي تعترض الاقتصاد الأميركي. والغريب أنه باستثناء المرشح السابق لمنصب نائب الرئيس "جون إدواردز"، مازال "الديمقراطيون" متحفظين إزاء فرض مزيد من الضرائب للتقليل من المنافسة الخارجية والحد من الأضرار الناجمة عن التجارة. ولفهم هذا التغيير في موقف "الديمقراطيين" من العولمة، لابد من الإقرار أولاً بأن آليتها لم تعد هي نفسها التي دفعت الرئيس بيل كلينتون إلى الضغط على الكونجرس للمصادقة على اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا، أو جولة أوروجواي للتجارة الحرة.

فالاقتصاد الصيني الذي كان متواضعاً حينها، تضاعف حجمه أكثر من أربع مرات، وبرزت الهند كأحد المنافسين الأساسيين على الساحة الدولية، كما انتقل الشعور بانعدام الأمان من قطاعات صناعية هشة إلى مجمل الاقتصاد. ومع ذلك يرتكب "الديمقراطيون" خطأ فادحاً بإصرارهم على تغيير مواقفهم والانقلاب على العولمة؛ فمن جهة سيميلون إلى دعاية "اليسار" المعروفة حول التجارة وأخطارها، ومن جهة أخرى سيجدون أنفسهم في خندق واحد مع "المحافظين" في رفضهم لرفع الضرائب، أو الزيادة في الإنفاق، خاصة فيما يتعلق بالبرامج الاجتماعية. وعند الحديث عن العولمة تكمن المفارقة في أن التغييرات التي قللت من شعبيتها لدى فئات واسعة من المجتمع، بمن في ذلك النخبة السياسية، هي ذاتها التي تجعل من غير المجدي مقاومتها والوقوف في طريقها.
فبالرجوع إلى عقد الثمانينيات، نجد أن العولمة مارست ضغوطاً كبيرة على الصناعات الكبرى مثل السيارات والإلكترونيات، لكن في عالم يتميز بتصدير الوظائف إلى الخارج وشبكات الإمدادات الدولية، تم تفكيك الشركات الكبرى إلى مجموعة منفصلة من المهام المختلفة لينتقل الضغط إلى المهام ذاتها بدل الصناعات. هذه المهام المرتبطة بالإدارة وخدمات مساعدة العميل، قد تنتقل إلى الهند مؤثرة بذلك على قطاعات أساسية بدءاً من البنوك وليس انتهاءً بالخدمات الطبية. كما أن قطاع التصنيع وتجميع العناصر قد ينتقل إلى المكسيك، أو آسيا، ما قد يحدث تأثيراً واضحاً على قطاعات صناعية أميركية عديدة. وفي ظل هذا الواقع الجديد أصبحت التجارة تهدد بفقدان العمال الأميركيين لوظائفهم بسبب المنافسة الخارجية الشرسة. ورغم أن التغييرات التكنولوجية مازالت هي الأوضح مقارنة مع تلك المرتبطة بالعمال، إلا أنه ليس غريباً أن تتفاقم المشاعر المناهضة للعولمة. غير أن بروز التنافس على مستوى المهام بدل الصناعات نفسها، جعل من مسألة رفع الشعارات الداعية إلى الحمائية عديمة الجدوى. ففي عصر الصناعات المندمجة الذي ولى، كان مفهوماً أن تظهر دعوات تطالب بوضع حواجز أمام البضائع الأجنبية عندما كانت الشركات الأميركية الكبرى تقوم بإنتاج بضائعها في الولايات المتحدة، وكانت تنافس الشركات اليابانية والألمانية التي تصنع هي الأخرى بضائعها في أوطانها.
وفي تلك الفترة كان شعار "إذا خسروا فزنا" شائعاً ومقبولاً في الأوساط الاقتصادية، لكن تلك الصورة التي كانت سائدة وقتها تغيرت اليوم على نحو كبير. فقد تحولت شركات أميركية إلى شركات عالمية وأصبح من الصعب إقامة الحواجز على الصادرات دون قطع خط الإمدادات الخارجية الذي تعتمد عليه الشركات الأميركية للاستمرار في الإنتاج. والدليل على ذلك هو الاقتصاد الأكثر نمواً في العالم والأكثر اعتماداً على التجارة، بحيث تستند نصف صادرات الصين على عناصر صنعت في الخارج. وعندما يدافع المتخوفون من العولمة عن وضع الحواجز كوسيلة لحماية العمال والشركات الوطنية، فإنهم غالباً ما يفترضون أن العمال يعيشون في منطقة جغرافية واحدة. فإذا اجتاح الفولاذ الآسيوي الرخيص الأسواق الأميركية فإنهم يعتقدون أن المتضرر سيكون عمال إحدى مدن الوسط الأميركي لعدم قدرتهم على التأقلم وتغيير وظائفهم. والواقع أن المنافسة الجديدة القائمة على المهام بدل الصناعات تجعل من الصعب القضاء على الشركات الأميركية، فإذا فقد موظف متخصص في إدخال البيانات وظيفته، فسيستطيع القيام بمهمة أخرى دون الحاجة إلى ترك الشركة.
وهكذا خسرت الفكرة المدافعة عن الحمائية، والتي كثيراً ما أدت إلى تعطيل النمو الاقتصادي، ما تبقى لها من حجج تستند إليها. فمهما أثارت العولمة من توجس مفهوم لدى العمال والصناعات الأميركية، فإن الرسوم الجمركية لا تعتبر الوسيلة الأفضل للتعامل معها. لذا يبقى البديل لحماية المتضررين من العولمة هو وضع برامج تمولها الضرائب توجه إلى الفئات الاجتماعية الأكثر تأثراً بالتغيرات الاقتصادية على الصعيد العالمي. وعلى عكس ما يعتقد "المحافظون"، لا تؤدي البرامج الاجتماعية التي تعتمد على أموال الضرائب إلى عرقلة النمو الاقتصادي. وما علينا في هذا الإطار سوى النظر إلى الكتاب المهم الذي ألفه "بيتر ليندرت" من جامعة كاليفورنيا وأثبت فيه أنه لا صلة توجد بين فرض الضرائب في الاقتصاديات المتقدمة وانخفاض النمو، أو تراجع دخل الفرد. فما يهم بالنسبة للضرائب ليس هو الحجم المفروض بقدر ما تهم الكيفية التي تنفق بها.
ويركز "ليندرت" على ضرورة توظيف أموال الضرائب للاستثمار في التعليم والبنى التحتية لحفز النمو الاقتصادي. كما تشجع البرامج التي تفصل بين التوظيف والتأمين الصحي، الشركات على توظيف أعداد أكبر من العمال على أن تتولى الدولة عملية الإنفاق على البرامج الصحية.

ــــــــــــــــــــــ
كاتب ومحلل سياسي أميركي -الاتحاد
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 09:50 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/40721.htm