انور بدر -
فخري ظاهرة فنية فريدة في الغناء العربي
قلما تكررت ظاهرة في الغناء العربي المعاصرة كظاهرة الفنان صباح فخري، فهي الموهبة المبكرة لطفل بدأ الغناء في الخامسة من عمره الغض، بتأثير احدي الجارات التي انتبهت لجمال صوته، فبدأت تلقنه المواويل القديمة وبعض الاغاني الحلبية الاصيلة المعروفة بـ القدود ، واستمرت هذه الموهبة في التطور خلال سبعة عقود.
صباح فخري الذي غني في اربعينات القرن الماضي في القصر الجمهوري بدمشق ايام الرئيس شكري القوتلي، جري تكريمه مؤخراً من قبل الرئيس السوري بشار الاسد في 12شباط (فبراير)، حين منحه الرئيس وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة لاسهامه الكبير في احياء التراث الفني السوري، علماً بان الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة كان سباقاً في تكريمه عام 1975 حين قلده وسام تونس الثقافي، كما حصل علي المفتاح الذهبي لمدينة ميامي الامريكية وعلي شهادة دكتوراه فخرية في الموسيقي من جامعة لوس انجلوس UCLA الامريكية، ونال الميدالية الذهبية في مهرجان الاغنية العربية في دمشق عام 1978، وكرم في مهرجان ومؤتمر الموسيقي العربية العاشر في دار الاوبرا المصرية، كما تسلم درع المنظمة العربية للثقافة والعلوم مع شهادة تقدير عام 2004 خلال ندوة الحفاظ علي التراث الموسيقي العربي التي اقيمت في دمشق عرفاناً بدوره الكبير في الحفاظ علي التراث الموسيقي العربي ولمسيرته الطويلة التي اغنت الحركة الفنية العربية وساهمت في ترسيخ اصالة الطرب العربي وتقاليد الغناء الاصيل.
واعتقد ان هذا التكريم هو تكريم للاغنية العربية التراثية والاصيلة، التي حمل صباح فخري لواء الحفاظ عليها وتطويرها ونشرها، وهو المطرب العربي الوحيد الذي دخل موسوعة غينس للارقام القياسية عام 1968، حين استمر يغني من العاشرة ليلاً حتي الثامنة صباحاً دون توقف او انقطاع، في حفل فني اقيم له في العاصمة الفنزولية كراكاس، مع انه سبق وغني في حفل مشابه في مدينة حلب لمدة 14 ساعة، من العاشرة ليلاً وحتي الثانية عشرة ظهراً دون توقف، لكن لم يكن اي احد مهتماً بما يجري في حلب.
ويذكر ان الفنان صباح فخري شغل منصب نقيب الفنانين في سورية، كما انتخب نائباً في مجلس الشعب (البرلمان السوري)، وكان مديراً لمهرجان الاغنية السورية في دورتيه الاولي والثامنة، لكنه يؤكد علي خلافه المستمر مع الاداريين والمسؤولين في هذا المهرجان حول فهمهم لوظيفته ودوره الفني.

ہہہ

ولد الطفل محمد صباح الدين ابو قوس- وهو اسمه الحقيقي- عام 1933 لعائلة حلبية ذات اصول وجذور في الطرق الصوفية، فتشبع النغم والايقاع في طفولته المبكرة جداً، وحين بلغ الثانية عشرة من عمره كان قد حفظ الكثير من النغمات الشائعة ومن الموشحات والقدود المنتشرة في حلب آنذاك، حيث بدأت مشاركاته في الحفلات الخاصة والمدرسية، وفي تلك الفترة تعرف اليه عازف الكمان الشهير سامي الشوا في احدي زياراته لمدينة حلب، وشاركه بعض حفلاته الغنائية، كما قدمه الي الرئيس شكري القوتلي لاحقاً حين زار مدينة حلب، حيث اثمر ذلك عن عدد من الحفلات التي احياها الطفل في القصر الجمهوري بدمشق.
لكن المحطة الاهم في حياة هذا الطفل بدأت مع الزعيم الوطني فخري البارودي، الذي اسس المعهد الموسيقي الشرقي في دمشق عام 1947، وضم اليه الفتي محمد صباح الدين ابو قوس بعد ان تبناه ومنحه لقبه الفني، واصبح يُعرف بصباح فخري.
في هذا المعهد تتلمذ صباح فخري علي ايدي كبار اساتذة الموسيقي في حينها، امثال مجدي العقيلي وعزيز غنام وعمر البطش وسعيد فرحات وعدنان قريش.
جري في العام ذاته تأسيس الاذاعة السورية، وكان صباح فخري من اوائل الذين اشتغلوا فيها ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، فقدم فيها اضافة للحفلات الغنائية اولي الحانه يا رايحين بيت الله ، وكان في تلك الفترة لا يزال يتابع تعليمه في مدرسة ابراهيم هنانو في حي نوري باشا بدمشق حيث استقر مع والدته التي حالت دون سفره مع سامي الشوا الي مصر ضمن مشروع فني للشوا اذ كان يقيم هناك.
واعتقد جازماً ان تاريخ الغناء العربي المعاصر يخلو من هكذا شهرة اقتنصها فتي صغير، وتألق في زمن قصير كمطرب وملحن ضمن مجالس الكبار، وفي الاذاعة ايضاً.
رغم ان صباح فخري اشتهر كمغن فقط، الا ان اهميته في عالم التلحين لا تقل وزناً عنها في عالم الغناء، ويكفي ان نتذكر من الحانه الشهيرة اغنيات خمرة الحب اسقنيها، جينا علي الدنيا، سمراء، غاب حبي عن عيوني، جاءت معذبتي، قل للمليحة في الخمار الاسود... ، وهناك الحان كثيرة قام صباح فخري باعادة تطويرها لتنسجم اكثر مع روح العصر، وهكذا طور لحن يابا جود الروح لسيد درويش، كما طور لحن موشح جميل انا في سكرين وغيرهما كثر. وقد عمل علي تجميع اغانيه التي قام هو بتلحينها في البوم خاص مع الاشارة الي ان الكثير من هذه الاغاني يؤديها اليوم عدد من مطربي الاغنية العربية التراثية، وفرق الانشاد وبشكل خاص تلك الفواصل والادوار والموشحات والقدود الشهيرة، والتي اصبحت جزءاً من تراث وذائقة خاصة في الاغنية العربية.
كذلك ادي صباح فخري من الحان الشيخ علي الدرويش موشحين يا ساكناً في فؤادي و آه من ناري جفاه كما غني لمحمد عثمان وسيد درويش من مصر( وقدم بعض الاغاني العراقية مثل فوق النخل .
وحين افتتح التلفزيون السوري عام 1960 كان صباح فخري من اول من قدموا فيه الحفلات الغنائية، والتي ساهمت في نشر الاغنية التراثية وتلك الموشحات والقدود التي لم يكتف باعادة تقديمها ـ كما فعل كثيرون غيره ـ بل كان يعمل علي تطوير كلماتها لتصبح اكثر انسجاماً مع العصر، وارقي ذوقاً واكثر تهذيباً واتساقاً مع اللحن، يذكر من تلك القدود الكثيرة التي عمل عليها لغوياً مثل يا اسمر اللون واصلها نشيد ديني عليك صلي الله والقائمة تطول الي اول عشرة محبوبي، القراصية، اوف مشعل، يا مايلة علي الغصون ، وقد سبقه في هذا الاطار الشيخ امين الجندي الذي عمل علي تطوير بعض القدود مثل هيمتني.. تيمنتني وكان اصلها جوجحتني.. مرمحتني .

ہہہ

صباح فخري ـ رغم بلوغه الـ 74 عاماً ـ ما زال يعمل علي كتابين الاول حول سيرته الفنية، والآخر باسم ما غناه صباح فخري مع كلمات ونوتة موسيقية لتلك الاغاني، واية ملاحظات حول هذه الاغاني وتطورها كلمات ولحناً، مع قرص CD مدمج للحفاظ علي الاداء، وهو مشروع يعتقد باهميته في ظل غياب التوثيق الفني ضمن مؤسساتنا الثقافية.
المشروع الآخر الذي اشتغل عليه صباح فخري مؤخراً، وما زال يراوح ما بين البيروقراطية والروتين، هو انشاء معهد موسيقي في مدينة حلب يستعيد دورها القديم في عالم الغناء، ويساهم في الحفاظ علي الاغنية التراثية الاصيلة، وطرق الاداء السمعي بعيداً عن تشوهات الفيديو كليب المعاصر.
صباح فخري هذه الظاهرة المنفردة في الغناء العربي المعاصر، ما زالت الاكثر انتشاراً في مواقع الانترنت الرقمي، وما زالت الجسر الاكثر عبوراً بين اجيال المستمعين العرب شيوخاً وشباباً، وما زالت تشكل وساماً كبيراً في عالم الغناء العربي، لكنه يبدو وساماً منقطعاً عما حوله في مجال الاغنية السورية الهابطة.

*القدس العربي
تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 23-ديسمبر-2024 الساعة: 08:45 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/40913.htm