المؤتمر نت -
المؤتمرنت -
أركون يؤرخ للإسلام في فرنسا
يمثِّل كتاب "تاريخ الإسلام والمسلمين بفرنسا" والذي صدر مؤخرًا بفرنسا مرحلة جديدة، لا في عالم الكتابات التاريخية التي تبحث في ماضي الوجود الإسلامي بأوروبا فحسب، بل إنه بحسب مؤلفيه "تأسيسًا" وإنجاحًا لحاضر الاندماج الإسلامي بفرنسا.
الكتاب يقع في حوالي (1250) صفحة، وهو عبارة عن مجموعة أبحاث تاريخية من تأليف (70) باحثا ومؤرخا فرنسيا، مبوبة زمنيا وموضوعيا، أشرف على إنجازها كل من المفكر المعروف الدكتور "محمد أركون" وبمقدمة لـ "جاك لي قوف" أبرز مؤرخي فرنسا في العصر الحديث؛ وحظي بطبعة مميزة لدار النشر الفرنسية المميزة "البان ميشال ".

الصورة.. والبداية

حُليت الموسوعة في صفحتها الأولى بثمانية صور تمثل محطات مهمة في علاقة فرنسا بالإسلام والمسلمين، إذ يمكننا أن نشاهد صورة لوحة يرجح أن تكون "لمعركة بواتييه"، والتي أوقف فيها الملك "شارلمان" الزحف الإسلامي في بلدة "بواتييه" في جنوب غرب فرنسا، كما يمكننا أن نشاهد صورة "للأمير عبد القادر الجزائري" الذي طبع مرحلة مقاومة الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ هذا إضافة لصورة أخرى يرجح أن تكون لمجندين مسلمين في الجيش الفرنسي في إبان الحرب العالمية الأولى، وصورة زيتية لرسام فرنسي تصور "امرأتين شرقيتين" تظهر مدى الانجذاب الفرنسي بالروح الشرقية، كذلك صورة -بدو حديثة- فتاة مغربية في إحدى الضواحي الباريسية قرب أمها، ويرجح أن تكون من فتيات الجيل الثاني أو الثالث من أصول مسلمة، وصورة مقابلة أخرى تجسد مرحلة الهجرة وأب عربي حمل ابنه قرب ميناء فرنسي في دلالة للبدايات الأولى للهجرة .

ولا شك أن الصور الثمانية تحاول أن تلخص كل هذا التاريخ الحافل بمحطات اللقاء والاقتراب والتباعد والحب والكراهية والحرب والسلم والجاذبية والتنافر بين عالمي الشرق الإسلامي والغرب عامة، وبين فرنسا والإسلام، خاصة أنه كتاب كما يقول عنوانه الفرعي رد هذا التاريخ كله "من القرون الوسطى إلى أيامنا هذه".

التاريخ حاضر بيننا

في آخر المقدمة الأولى للكتاب -الذي احتوى على مقدمتين وتوطئة- والتي خطها المؤرخ الشهير الفرنسي "جاك لي قوف"، لا يتردد شيخ المؤرخين الفرنسيين، وأحد أهم معالم فرنسا الأكاديمية في الجهر بأن أحد أهداف هذا المجهود هو إنجاح انصهار المكون الإسلامي في فرنسا الحاضرة، إذ يقول "إن هدف هذا الكتاب هو الإعانة على النجاح، إذ يخيل للبعض أننا هنا نتحدث عن الماضي البعيد أو القريب الإيجابي منه والأليم، ولكن في الحقيقة فإن هذا الكتاب يتحدث عن حاضرنا الآن في حاضرنا يعيش التاريخ المعقد للأجيال الماضية كما يعيش مستقبلنا الذي أصبح مشتركا ".

فرنسا الحاضرة وكما تبدو في الدراسات الأخيرة للكتاب: هي أيضا أبناء الجيل الثاني والثالث الذين أصبحوا جزءًا من الثقافة الفرنسية المعاصرة؛ فمفخرة الشباب الفرنسي الكروي "زين الدين زيدان" والفنان الكوميدي الشهير "جمال دبوز" وفنان الراب الأسود المعتنق للإسلام "عبد المالك" والفنانة "شيرين بادي" وآخرون، هم جزء من فرنسا الحديثة الذين يُفرد لهم الكتاب مكانًا في صفحاته الأخيرة، فهي ثمرة كل هذا التاريخ المشترك بين فرنسا والإسلام والمسلمين، غير أنه وبالرغم من قدم العلاقة والتواصل والتبادل المشترك، فإن هناك حقيقة لا يتردد المؤرخ "جاك لي قوف" في الإفصاح عنها وهي أن "العلاقة بين فرنسا والمسلمين، والتي كانت على الدوام ثانوية في حياة الفرنسيين لم تصبح إلا مؤخرا مكونا مهما في تاريخ الوطن، ولكن هذه الأهمية اتخذت وجهين فأحيانا مأساوية وأحيانا أخرى مضيئة ".

حقيقة أخرى يقرُّ بها المؤرخ الفرنسي الأشهر، وهي أن صورة الإسلام والمسلمين لم تكن أبدا ذات وجه واحد، فيقول: "فبالرغم من العداوة القوية من قبل الفرنسيين للمسلمين؛ فإن فرنسا ومنذ القرون الوسطى -إلى يومنا هذا- لم تتردد في أخذ أشياء ذات قيمة من الجانب الثقافي والإنساني للمسلمين".

فثمَّة شيء في هذه العلاقة يمكن أن نسميه "حدثًا مؤسسًا" وربما أحد أهم محطاتها، وهي معركة "بواتييه"، التي تمكَّن فيها الملك الفرنسي "شارل مارتال" (ت 741م) من وقف الزحف الإسلامي داخل الأراضي الفرنسية بعد أن تمكن المسلمون من احتلال كامل الجزيرة الأيبيرية أو الأندلس .

معركة "بواتييه" والملك "شارل مارتال" أصبحت اليوم أحد مفاتيح فهم رموز اليمين المتطرف بقيادة "جون ماري لوبان" وغيره من الأحزاب والتوجهات اليمينية المتطرفة عامة .

فعندما يتطرق "لوبان" أو" نجم العنصريين الطالع "فيليب ديفلي" إلى خطر ما يسمونه في أدبياتهم "أسلمة فرنسا" والخطر الذي يمثله المهاجرون في تغيير المعطى الديمغرافي بفرنسا، و"جاك لي قوف" يقول حول هذا الحدث المؤسس ماضيًا وحاضرًا الكتيبة التي تقدمت باتجاه "بواتييه" هزمت من قبل الملك "شارل مارتال" هذا الحدث قدم طويلا على كونه الحدث المؤسس لولادة اليمين المتطرف في القرن العشرين والذي اعتبر أن معركة "بواتييه" النصر الحاسم للمسيحية والتحضر على البربرية الإسلامية ".

المسلمون في المخيلة الفرنسية

ولكن "جاك لي قوف" يشير إلى أن "هذا التحليل ومن حسن الحظ لم يؤخذ على محمل الجد من قبل الجمهور الغالب"، ولكن المؤرخ الأشهر يذهب إلى مسألة على غاية من الأهمية، والتي تشكل العمود الفقري للكتاب ولكل الأبحاث التي احتواها الكتاب، وهي عملية "تصور وتخيل المسلمين في الذهنية الفرنسية" .

عندما تدخل أحد عروض المسرح الفرنسي اليوم أو عندما يشار إلى الرقص والفن الحركي الإسلامي في دور الرقص والفن الفرنسي، فإن هناك صورة غالبة للشرقيين والمسلمين على المستويات والحركات والأزياء، هذه بعض آثار الصورة المتخيلة للمسلمين .

صورة الإسلام والمسلمين لا ترتبط في نظر "جاك لي قوف" في الصورة التاريخية من هي، ولكنها "الصورة المتخيلة"، حيث كانت جذور العداوة تعود إلى صورة "المسلمين غير المسيحيين الملحدين" غير أن التحديد الديني للمسلمين -من حيث كونهم مسلمين- لم يأت إلا متأخرًا، ففي القرون الأولى بعد معركة "بواتييه" برزت فيها تسميات كثيرة لتعيين المسلمين، كانت جلُّها مصطلحات تدور حول تسمية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ؛ فالمسلمين "محميست" (في نهاية القرون الوسطى) وهم "محمدون" (في القرن السادس عشر)، ولم تبرز كلمة "مسلمون" لتعيين هذه الديانة الجديدة إلا في نهاية القرن السادس عشر .

غير أن الإسلام كان على الدوام ينظر إليه على أنه الديانة الشرقية -بكل ما تحمله كلمة شرق من معاني- ولم تكن معركة "بواتييه" لتحجب بعضا من صورة هذا الشرق الحالم في الذهنية الفرنسية وهم ينظرون لأول مرة " للفيل " الذي قدمه الخليفة هارون الرشيد سنة 801 م هدية إلى ملك فرنسا آنذاك شالمان.

صورة الإسلام المتخيلة على غرار هذا الفيل القادم من الشرق ترافقت مع صورة الحركات والرقص الشرقي الذي يتصوره الفرنسيون عن المسلمين، وإنها صور عمقت بحسب المؤرخ محمد أركون "الجهل الكامل بالآخر"، حيث لم يستطع الفرنسيون حقيقة أن يقرءوا أول ترجمة للقرآن إلا في سنة ،1154 وهي ترجمة القس الفرنسي "بيير لي فينرابل" حيث لم يتردد المؤرخ "جاك لي قوف" في اعتبارها "نسيج من الأخطاء والخلط بصورة بشعة ".

الشيطنة المتعمدة

لا يمكن أن نتحدث عن هذا الخلط والفهم السيئ، وأحيانا "الشيطنة" المتعمدة لهذه الديانة الشرقية دون الحديث عن الصورة البشعة التي قُدم بها رسول الإسلام، حيث يقول المؤرخ "جاك لي قوف": "إن تعدد طريقة النطق باسم الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، والأخطاء التي ارتكبت في كتابة اسمه لم تكن تظهر إلا مدى الجهل والإهانة لهذا الشخص".

تتبادر إلى الذهن "الصور الكاريكاتورية" للصحيفة الدانمركية الساخرة من شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي أعادت نشرها صحيفتان فرنسيتان، ونحن نقٍرأ تعليق شيخ المؤرخين الفرنسيين وهو يقول: "إن التركيز على شخصية الرسول(صلى الله عليه وسلم) باعتبارها بابا لابتذال الإسلام تلعب دورًا مهما في رسم هذه الصورة حتى أيامنا هذه".

طبعا الصورة لم تكن سيئة إلى هذا الحد في العلاقة بين فرنسا والفرنسيين، والإسلام والمسلمين، فيؤكد محمد أركون في المقدمة أننا أمام عملية موازية قوامها التبادل والتأثير الإيجابي المتبادل، فبين سنتي 797-807م يمكننا أن نشهد أول تبادل واعتراف متبادل بين عالمي الإسلام وفرنسا حينما تبادل الخليفة العباسي هارون الرشيد رسله ورسائله مع الملك شارلمان، وبعدها بحوالي خمسين سنة أي في 863 م بدأ عهد التبادل "الدبلوماسي" بين فرنسا وقرطبة الإسلامية بأرض الأندلس .

فصل كامل خصص للحروب الصليبية ومشاركة الفرنسيين الفاعلة فيها، والتي تواصلت حتى بعد استعادة صلاح الدين الأيوبي للقدس سنة 1189م؛ وصولا إلى حملة نابليون على مصر سنة 1798 واحتلاله للإسكندرية كمحطة أولى حتى دقه أبواب القاهرة واحتلالها .

غير أن تاريخ الحروب هذا والذي بلغ ذروته باحتلال الجزائر، وفرض الحماية على تونس والمغرب غربا، وعلى سوريا ولبنان شرقا فيما بعد؛ لم يمنع المؤرخين من تخصيص مقاطع كاملة أخرى للحديث عن ترجمة "ألف ليلة وليلة وغاية احتفال الفرنسيين بها إلى اليوم، وترجمة كتب العلوم الإسلامية ومنها؛ كتاب الخوارزمي في الحساب سنة 1145م، وترجمة مؤلفات ابن رشد سنة 1225م، وابن سينا وصولا إلى إعادة ترجمة القرآن الكريم مرة ثانية سنة 1455 م من قبل" جون دي سوقافي".

كان الأمر يتعلق في كل هذه المراحل-التي اختلطت فيها الدماء نتيجة الحروب المتبادلة بين المسلمين والفرنسيين- بالحبر السائل لترجمة أمهات الكتب العلمية العربية لترسم بعضا من تاريخ العلاقة في واقعها، وهنا يقول أركون: إن دور المؤرخ هو "عمل التهدئة وإعادة اكتشاف الجروح، وخاصة تجاوز تاريخ التصورات والمتخيل إلى تاريخ موضوعي، يمكِّن اليوم من الوعي بحجم التقارب بعيدا عن أيديولوجية الإقصاء المتبادل".

مراسل شبكة "إسلام اون لاين" في فرنسا.


تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 04:36 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/40937.htm