المؤتمر نت - الكونجرس
توني سميث -
"الديمقراطيون"... رؤية مرتبكة لدور أميركا العالمي
بالطبع فقد كشفت انتخابات الكونجرس النصفية التي جرت في شهر نوفمبر المنصرم، عن المزاج الأميركي العام، المناوئ للحرب على العراق. غير أنه لم تعد الأشياء واضحة ولا بديهية الآن، مع ما نرى من محاولات "الديمقراطيين" للاستفادة من أغلبيتهم الحالية، في مجلسي الكونجرس كليهما. وإذا ما شعر "الديمقراطيون" بالارتباك إزاء العراق، فإن مرد ذلك هو افتقارهم لرؤية واضحة متفق عليها، لما يجب أن يكون عليه الدور الأميركي في الساحة الدولية بمجملها.

ولذلك فنحن نراهم يحاولون تغيير السياسات التي تتبناها إدارة بوش في العراق، دون التصدي للمبادئ العامة التي تحكم تلك السياسات، وكانت سبباً فيها. وعلى رغم أنهم يقدمون أنفسهم اليوم على أنهم بديل للرئيس بوش، إلا أن الحقيقة أن المبدأ "الديمقراطي" السائد الآن، لا يختلف كثيراً عن مبدأ بوش- تشيني القائم أصلاً.
والآن فقد تبنى كثير من "الديمقراطيين"، بمن فيهم من صوت من أعضاء الكونجرس لصالح قرار شن الحرب، فكرة السياسة الخارجية الخشنة، القائمة على مبدأ التفوق الدولي الأميركي، وحق أميركا في التدخل في شؤون الدول الأخرى، بغية حفز الديمقراطية ونشرها في مختلف أنحاء العالم، حفاظاً وخدمة للمصالح الأميركية الحيوية. يذكر أن هذه القناعة ظلت سائدة حتى في أوساط "الديمقراطيين"، قبل وقت بعيد من وقوع هجمات سبتمبر، وأنها لم تتغير منذ ذلك الوقت. بل لقد تفادى هذه الأسئلة المبدئية الأساسية، حتى أولئك الذين عارضوا الحرب لاحقاً من "الديمقراطيين".

لكن ومن دون أن يسعى "الديمقراطيون" إلى توفير بديل عملي لسياسات إدارة بوش المتبعة، بكل ما يعرف عنها من تعويل على مبدأ التفوق العسكري الأميركي على بقية دول العالم، واستجابتها المفرطة لإغراء ديمقراطية السوق الحرة، فربما لن يكون في وسع "الديمقراطيين"، تكرار فوزهم الذي أحرزوه في نوفمبر الماضي، عند انعقاد الانتخابات النصفية التكميلية نفسها في نوفمبر من عام 2008 المقبل. أو لنفترض أنهم تمكنوا من الفوز مجدداً بأغلبية الكونجرس، فإنهم سيظلون حبيسي فكرة "الباكس أميركانا"، وهي الفكرة نفسها التي تعيد إلى الأذهان جملة المبادئ التي تعمل عليها إدارة بوش الحالية.
هذا ويتسم "الديمقراطيون" من دعاة ما يمكن تسميته بـ"الموقف الليبرالي الجديد" بقدر عالٍ من التنظيم، فضلاً عن تقدم موقعهم السياسي في أوساط "الديمقراطيين". وكانت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة في إدارة كلينتون، هي أول من صاغ تلك الفكرة قبل نحو تسعة أعوام خلت، وذلك بقولها: "إن كان علينا استخدام القوة العسكرية، فما ذلك إلا لكوننا أميركا.. إلا لكوننا الأمة التي لا غنى للعالم عنها. ولهذا فإننا نقف بقامة سامقة في هذا العالم، ونتطلع بأبصارنا إلى الأمام والمستقبل البعيد". وكانت أولبرايت تتحدث عن حرب البوسنة ساعتها، إلا أن تعليقاتها تلك، كانت لها أبعاد وأصداء تتجاوز البوسنة ومنطقة البلقان بكثير. وفي وسع المرء الاستشهاد بالكثير مما هو مفصلي في فكر الليبراليين الجدد، ورده إلى مصادره المفصلية في فكر "المحافظين الجدد" ومبدأ الرئيس بوش، منذ بروز الفكر الليبرالي الجديد خلال عقد التسعينيات، وعقب انتهاء الحرب الباردة. وسواء في مراكز ومؤسسات البحث، أم في الجامعات والمكاتب الحكومية، فإنك ترى المفكرين والمثقفين اليساريين، مع ملاحظة قرب الكثيرين منهم من الحزب "الديمقراطي"، وهم ينهمكون في بلورة أفكار ومبادئ، ترمي في نهاية المطاف إلى إحياء ذلك الحلم القديم الذي عبر عنه الرئيس "الديمقراطي" الأسبق، وودرو ويلسون، بأن عليه أن يجعل العالم أكثر أمناً وملاءمة لانتشار الديمقراطية.
فمنذ عام 1992، ظل الجناح الديمقراطي الصاعد وصاحب اليد العليا في الحوار العام الجاري حول السياسات الخارجية الأميركية، هو ذلك المرتبط بما يعرف بـ"مجلس القيادة الديمقراطية" ومؤسسة الأبحاث المرتبطة به، "معهد السياسات التقدمية". ومنذ عام 2003، واصل هذا المعهد إصدار سلسلة من الأبحاث والدراسات، شجبت جميعها إدارة بوش لحربها في العراق، ولكن دون أن يمضي لشجب الغزو نفسه، في أي مما صدر منه. كما انتقدت إصداراته كذلك إخفاق إدارة بوش في فرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، زاعمة أنه في وسع "الديمقراطيين" التفوق عليها في هذه المهمة.
واليوم فإن المواقف المبدئية المبكرة للمرشحين الرئاسيين "الديمقراطيين" لانتخابات عام 2008 المقبل، تكشف طبيعة المعضلة التي يواجهها الليبراليون الجدد. فها هي هيلاري كلينتون، مرشحتهم في الخط الأمامي للسباق، وهي تراوح مكانها وتأييدها التقليدي الثابث لـ"مجلس القيادة الديمقراطية". فهي تنتقد مثله طريقة إدارة الحرب، ولكن دون أن تمس فكرة الحرب نفسها. أما السيناتور السابق جون إدواردز، وزميله الحالي باراك أوباما، فهما أعلى صوتاً وأشد انتقاداً، بما في ذلك انتقادهما لفكرة الحرب نفسها، ووصفها بأنها كانت خطأً كارثياً. غير أنهما لم يصوغا رؤية ولا سياسة بديلة، تعبر عن دور متواضع لأميركا على نطاق المسرح الدولي كله.
وإنه ليس من السهل تقديم رؤية أو سياسة بديلة كهذه بالطبع. ذلك أن التحديات التي تواجه النظام الدولي الحالي، كبيرة وكثيرة جداً، مثلما هي كبيرة وكثيرة المصالح الحيوية لأميركا نفسها. وكلا الأمرين يتطلب صياغة سياسة فاعلة وراشدة. فهناك شركات ومؤسسات العولمة المالية الاقتصادية. وهناك المصانع والشركات العسكرية الحربية. وهناك اللوبي الصهيوني المؤازر لإسرائيل، وهناك من يتعطشون لنفط الشرق الأوسط. ثم أضف إلى ذلك كله، الاعتقاد التقليدي السائد، بأننا أمة لا غنى عنها بالنسبة للعالم. وتحت هذا كله، يربض الخطر في اعتقادنا بتفوقنا الحربي المطلق، وبأنه ما من قوة تستطيع أن تخوض نزالاً عسكرياً معنا. والتحدي الأكبر الذي نواجهه الآن: كيف نصوغ رؤية شاملة لدورنا العالمي؟
ــــــــــــــــــــــ
كاتب ومحلل سياسي أميركي- وجهات نظر


تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 10:36 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/41548.htm