انتهى عصر الألم وبدأ عصر الندم منذ عقود من الزمن ومنطقة الشرق الأوسط من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها تمثل حقل تجارب للسياسات الاستعمارية بأنواعها، من إمبراطوريات ودول غربية وشرقية، من كل صنف وجنس ولون، وشعوب هذه المنطقة تجترع الألم وتنتظر الفرج أو الحل، وهو أمر لا يأتي عادة نتيجة انتظار أو ترقب، بل هو أمر يحتاج إلى كل جهد ممكن في جميع المجالات، حتى تستطيع هذه الشعوب أن "تفرض" مكانها على خريطة المجتمع الدولي. ووسط ألم الانتظار جاءت الإمبراطورية الأميركية بكل "خيلها وخيلائها" لتعيد من جديد الكرة وتختبر استراتيجيات وسياسات أقل ما توصف به هو "الغباء" و"التضارب" وتكرار الأخطاء تلو الأخطاء، دونما أي اعتبار للمصالح الحيوية لدول المنطقة من جانب، أو قيم شعوب هذه الدول من جانب آخر. ومن الغريب أن الكل لا يزال يستعذب الآلام الناجمة عن كل هذا، ولا يئن رغم وطأة الخسائر المادية والبشرية، ولا يزال يراوده أمل الانتظار. تم احتلال فلسطين؛ وهي الآن في طريقها للاندثار من على الخريطة العربية، وضاع العراق بعد أن جرى احتلاله واقتسامه بين أطراف حرب طائفية أهلية محمومة لا ترى سوى تحت أقدامها، وفي الطريق إلى المجهول لبنان التي يعلم الله وحده مصيرها بعد أن تخلى عنها أصحابها بسبب مصالح شخصية ضيقة، وصراعات تخدم مصالح أطراف خارجية، وربما يأتي الدور على باقي الدول العربية، وكل هذا لا يجري وفق مشروع منهجي مرسوم أو مؤامرة أُحكمت خيوطها؛ بل صنعته أيدي هذه الدول شعوباً وحكومات بعد أن عاش فيها الألم بديلاً عن الأمل. دائماً يعاني العرب الآلام، ولا يجدون وقتاً للندم إلا بعد فوات الأوان، والآن نحن بصدد مرحلة جديدة من المعاناة، بدأت خيوطها عندما أعلنت إيران الثورة بكل وضوح ودون مواربة أنها قوة إقليمية كبرى في المنطقة يجب الاعتراف بها، وتمسكت بـ"فارسيتها" وتطرفها الديني، وسعت إلى بسط نفوذها في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين واليمن، بل ودفعت بعملائها لنشر التشيُّع في الدول العربية، وتتعامل مع دول المنطقة بتعالٍ واضح يسانده صلف التذكير بالإمبراطورية الفارسية التي بسطت احتلالها حتى مصر، وسعت لامتلاك أسلحة تقليدية تفوق حاجتها الدفاعية، وتسعى إلى امتلاك أسلحة دمار شامل، وتحتل أرضاً عربية هي جزر الإمارات العربية المتحدة الثلاث، ولا تكف عن استفزازاتها العسكرية في منطقة الخليج من استعراض للقوة ومناورات عسكرية تخترق من خلالها المياه الإقليمية لدول مجاورة لها، وتهدد وتتوعد الجميع وكأن لسان حالها يقول: هل من منازل؟ اختطف الحرس الثوري الإيراني الجمهورية الإسلامية، مثلما اختطفت "القاعدة" أفغانستان وحاولت ذلك في الصومال، وبدأ في إثارة النعرات الشيعية وبث الفرقة بين الكتل المتجانسة من شعوب المنطقة، وهو يغازل المرجعيات الدينية لتصدر فتاواها، ومن ثم بات الحرس الثوري والقوات التابعة له "أداة العنف" بينما الفتاوى الشيعية "أداة الشرعية الدينية والسياسية"، فأسرعت القوات الغربية بالحضور إلى المنطقة دفاعاً عن مصالحها ومصالح حلفائها، فكانت النتيجة انتشاراً لحالة من عدم الاستقرار والأمن في منطقة الخليج العربي. سكت العرب عندما كان عليهم أن يعترضوا، وآثروا الفرقة عندما كان الواجب عليهم أن يتّحدوا، وتنازلوا عن مصالحهم الحيوية بدلاً من الدفاع عنها، فطغى الفرس والروم عليهم، وربما يأتي اليوم الذي يصبح فيه العرب وليمة يجري تقطيعها على موائد القوى الكبرى والصغرى. عندما قررت إيران استعادة نشاطها النووي عام 1984 بإحياء مشروعات الشاه، كان الهدف هو فتح قناة قانونية شرعية للتعاون النووي وفق المعاهدات الدولية، ولكن كانت النية المبيتة أن تكون هذه القناة ستاراً لأعمال وأنشطة نووية غير سلمية. بدأت القصة بالاتفاق مع روسيا على بناء مفاعل "بوشهر" على الضفة الشرقية للخليج العربي، ولم تدرك دول الخليج حينها آثار التلوث النووي البيئي المباشرة وغير المباشرة المترتبة على إقامة هذا المفاعل، سواء في الأحوال العادية أو نتيجة لحادثة مثل مفاعل "تشرنوبل" الروسي، أو عدم استيفاء متطلبات السلامة والأمن لمثل هذه المفاعلات النووية في الوقت الذي نعلم فيه مدى ضعف التكنولوجيا التي تمتلكها الجمهورية الإسلامية الإيرانية مقارنة بدولة عظمى مثل الاتحاد السوفييتي السابق لها تاريخ في التقنية النووية يزيد على خمسة عقود. لذلك لم تفق دول الخليج إلا على وقع الإعلان عن بدء تشغيل المفاعل، وكأن الأمر قد حدث بطريقة مفاجئة، ثم كانت الطامة الكبرى عندما اتضح "فجأة" الوجه السري للبرنامج النووي الإيراني في وجود دلائل على نشاط نووي مشبوه، ووثائق تطالب بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول كيفية تصنيع القنبلة النووية، فتناقلت القوى الكبرى القضية إلى أن أوصلتها لمجلس الأمن الدولي، على أمل إقناع ملالي إيران بالتخلي عن البرامج النووية المشبوهة والعودة إلى الشفافية والصدقية في التعامل مع البرنامج السلمي. ولكن النزعة الفارسية المتعالية أبت التجاوب مع المجتمع الدولي، ولا تأبه لعقوبات أو عمل عسكري بعد أن أعماها الغرور بأن نفوذها وتدخلها في بعض الدول التي تدار على أرضها حرب مع القوات الأميركية كفيل بأن يمنع الإدارة الأميركية من شن حرب عليها، وتناست أنها تتعامل مع بوش الصغير الذي لا يملك حكمة التفكير في العواقب، بل يكتفي بإثارة الكوارث وشن الحروب ويستمتع بلعبة "بابا"، وربما لا يملك القدرة على اتخاذ قرار "النقلة الأخيرة" لينهي اللعبة. لذلك فإن دول منطقة الخليج بل والشرق الأوسط كله تتجرع الألم، وفي انتظار "نكسة" جديدة أطرافها المباشرون غير مكترثين لتداعياتها، ولا تفعل شيئاً سوى عقد المؤتمرات تلو الأخرى. ومن الغريب والمثير في آن واحد، أن هذه المؤتمرات، رغم أنها تنعقد عادة بعد فوات الأوان، وخراب مالطة، فإنها تخرج ببيانات أو توصيات أو رؤى أو اتفاق على شيء، ولا ندري من المسؤول عن متابعة تنفيذها، لأنه لا تظهر أية نتائج على أرض الواقع، وكأن الهدف من هذه المؤتمرات هو ذر الرماد في العيون بأننا لم نستسلم للألم. كان من المتأخر جداً أن تقرر دول مجلس التعاون الخليجي حاجتها لضمانات إيرانية حول مدى الأمان النووي في مفاعل بوشهر، بل وكان الأكثر تأخيراً حتى الآن عدم المساهمة في إيجاد حل جذري للأزمة النووية الراهنة، وأن يتم رفض الحل العسكري دون امتلاك وسائل منعه، والمطالبة بحل دبلوماسي دون الإسهام في صياغته، لأن دول المجلس فقدت زمام المبادرة من جانب، وسلمت إرادتها للقوى الخارجية من جانب آخر، رغم أن الدلائل جميعها تشير إلى أن الصلف النووي الإيراني لن تعالجه إلا عملية عسكرية سواء إسرائيلية أو أميركية أو مشتركة، في وقت بات فيه الجميع يتمسك باستراتيجية "الفوضى". لقد تقلص دور العرب وأصبحوا أسرى الألم، ولكن المفاجأة أن الفترة القادمة تحمل نذر عصر الندم، فبعض الدول العربية تعاني الآن سكرات النهاية الأليمة، والبعض الآخر ينتظر، في ظل حصار داخلي وخارجي، فمن الداخل نجد أن بعض العرب قد ابتلاهم الله بحكومات تصادر الحقوق وتعبث بالمصالح الحيوية لحساب المصالح الشخصية، وحكومات تجاهر بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول مجاورة، ولا تكتفي بما وهبها الله من سلطة وثروة في بلدها، وأخرى منكبّة على ذاتها، بينما القوى الإقليمية والدولية تخطط وتنفذ وتتحكم في المنطقة وتعتمد على اللقاءات الثنائية والجماعية لإقناع الدول العربية المعنية بأن لها رأياً فيما يجري، بينما الحقيقة أن مصالح الدول العربية مهمَّشة، ومواقفها ورؤاها لا تسمن ولا تغني من جوع، لأن هذه القوى تبحث عن مصالحها فقط وعلى المتضرر أن يلجأ إلى "الندم". * نقلا عن صحيفة " الاتحاد " الاماراتية |